كانت فاطمة المرنيسي، قبل أن يغيّبها القدرُ، منذ ثلاث سنوات، تثير الكثير من الجدل والأكثر من الأسئلة. بيد أن جدلها ظلّ يتخذ من الغرب حلبته المفضلة، إذ حيثما حلّت وارتحلت في جولاتها الغربية، كانت محاضراتها وتدخّلاتها سجالية، من موقع نسواني، تثير الأسئلة حول الحريم الغربي والمرأة العربية والجنس وتهميش النساء… إن هذه المرأة السوسيولوجية نادرا ما مارست السوسيولوجيا بشكل عيْني. فقد كانت دراستها للجنس والإسلام ثم للنبي والنساء وشهرزاد ثم للحريم الغربي، عبارة عن كتابات فكرية اجتماعية وتاريخية أكثر منها سوسيولوجية… كما عرفت فاطمة المرنيسي بعشقها للمرأة الأمية الشغيلة، وللفنانين الفطريين والهامشيين…
الحريم، هل هو مفهوم سوسيولوجي؟
لسنا من الدُّعاة لسوسيولوجيا وضعية، تحلل الظواهر على طريقة أوغست كونت. ومن ثم لن نعتبر انزياح فاطمة المرنيسي عن الهدفية السوسيولوجية، التي تكوَّنت فيها بأميركا لتكون قدرا فكريا ومهنيا لها، أمرا شخصيا فقط. إنه مصير ثقافي عاشه العديد من علماء الاجتماع العرب في السبعينيات والثمانينيات. فحليم بركات وعبد الكبير الخطيبي، كما فاطمة المرنيسي، بدأوا علماء اجتماع، لينتهوا مثقفين ومفكرين وفاعلين ثقافيين وأدباء. ولا أدل على ذلك من تلك الفتنة التي مارستها الحكاية والكتابة الحكائية على الخطيبي (منذ البداية)، كما على المرنيسي في أواخر حياتها.
بدأت فكرة الحريم بشكل محتشم لدى فاطمة المرنيسي في كتابها الأول (الجنس والإيديولوجيا والإسلام، 1975). ثم استوى بشكل أولي في كتابها عن الحريم السياسي (النبي والنساء، 1991)، ليكتمل في سيرتها نساء على أجنحة الحلم (1996) وكتابها عن الحريم والغرب (2001). لقد حولت فاطمة المرنيسي، من منظور نسواني، فكرة الحريم إلى مفهوم فعال وإجرائي جعلت منهم محورا لكتابات وصراعات عديدة مع المنظور الغربي للمرأة العربية. لكن كيف يمكن تحويل حالة اجتماعية (الحريم باعتباره في المنظور العربي الإسلامي الشرقي ما يحرَّم على الآخرين، أي النساء) إلى مفهوم، خاصة أن الفن الاستشراقي قد جعل منهم استيهاما تصويريا وبصريا كبيرا في القرن التاسع عشر؟ كيف يمكن تحويل مفهوم حصري وتهميشي عربيا، ثم استيهامي عن الغيرية والآخر العربي غربيا، إلى مفهوم؟
تنبني المفارقة أولا في مستوى الإدراك الذاتي عربيا والإدراك الغيري غربيا لهذه الوضعية التي تجعل النساء عبارة عن هُلام غير محدّد وغير قابل للتعرف، لأنه حريم، أي محرَّمٌ معرفته، ولأنه ملكية اجتماعية. ثم إنها تنبني ثانيا، مفهوميا و”نظريا”، في مقارعة مفهوم الحريم الغربي في طابعه الاختزالي بالحريم العربي، باعتباره أغنى وأعمق. ففاطمة المرنيسي لم تكلَّ ولم تملّ من ترداد أن ما يعنيه الغرب بالحريم عبارة عن غانيات كسولات متمددات وخاملات متسربلات دوما بأبهى ما يملكن من أقمشة، ومنصاعات للحديث والمتعة ولرتابة الزمن. أما العرب، فقد اعتبروا الحريم صفوة من النساء المتأدبات العارفات بفنون الشعر واللغة والغناء، وذوات ذكاء خطابي خارق يجعل خليفة من قبيل هارون الرشيد يعترف لهن بالحذق والاستثناء. هذا هو بالضبط ما جعل فاطمة المرنيسي تعضّد مفهوم الحريم بمفارقاته هذه بصورة شهرزاد، التي تمثل الأنموذج المقلق للحريم، بذكائه وثقافته، وبدهائه وأنوثته.
هل ثمة حريم أوروبي؟ أليس الحريم مفهوما شرقيا؟ كيف تهاجر التصورات من الواقع إلى المتخيل؟ وكيف تصوغ مرايا التاريخ انعكاسات صور الآخر وتتجذر فيها حتى تغدو العدوى شاملة؟
كتاب الحريم والغرب عبارة عن حكاية استطلاع وتحقيق تقوم به الكاتبة المغربية بعد أن أحست، خلال جولاتها في مختلف بلدان العالم، أن العلاقة مع الصحافيين الغربيين تنطوي على شيء غامض وملتبس يتعلق بتصوُّر دفين عن الحريم يحملونه في ثنايا متخيلهم، يدعوهم تارة إلى الابتسام وأخرى إلى المداورة، وينم بالخصوص عن تصور معين للحريم يختلف جذريا عن واقع الحريم الشرقي، العربي والإسلامي. لذا تقرر فاطمة المرنيسي أن تقوم برحلة متعددة: أن تقدم كتبها للآخرين وتحاورهم في القضايا التي تطرحها، وأن تقوم بتحقيق عن هذا التصور الغريب الذي يحمله الأوروبيون عن الحريم، وأن تمارس رحلة حجاجية عن التصور “الحقيقي” للحريم من خلال التاريخ الشرقي، بل أن تقوم مرة أخرى برحلة في الذات والذاكرة الشخصية.
يبدأ هذا الكتاب في شكل رواية سيرية، تستعيد فيه فاطمة المرنيسي أمها وكيف علّمتها أن السفر والترحال معرفة للآخر، لتدخل بعدها مباشرة إلى تتبع هذا التصور من جذوره، وتتابع الحكاية التي قادتها إلى طريق التحقيق في الأمر. وبهذا المعنى، يجد القارئ نفسه أمام حكاية مؤطرة لفعل استكشافي على طريقة بورخيص، تقدم لنا فيه المؤلفة الموضوع ومسارات إنجازه وتدخلنا من خلال ذلك إلى طريقة تفكيرها وقلقها وترددها وتساؤلاتها، بل وإلى الطريقة العينية التي تمارس بها التحليل والتفكيك والسؤال والتركيب.
من الصورة إلى التصور
حين أصدرت فاطمة المرنيسي كتابها الأول “الجنس والإديولوجيا والإسلام” في أميركا ثم في فرنسا والمغرب في بداية الثمانينيات، كانت ترتسم معالم كتابة من نوع خاص، تمارس مقاربات علم الاجتماع من جهة والأنثربولوجيا الثقافية، والتحليل السياسي والدراسة التاريخية التراثية. وكأن هذا الكتاب حين أفرد مقاربة خاصة للتاريخ الثقافي العربي، كان يبني للكاتبة مسارا لن تحيد عنه أبدا، بحيث إن كتاباتها اللاحقة سوف تغدو أشبه بالحفريات في تاريخ الثقافة والمجتمعين العربيين الإسلاميين. فسواء تعلق الأمر بـ”الحريم السياسي” النبي والنساء أو “سلطانات منسيات”، أو “هل أنتم محصّنون ضد الحريم؟”، أم الكتاب الحالي، ففاطمة المرنيسي تبني حجاجها على أصول التصور التاريخية، لتصوغ تصورا معاصرا يكاد يكون حيا عن وضعية النساء في مجتمعاتنا المعاصرة. لذلك لا يجد المرء عند قراءتها أي انفصام بين حديثها عن المجتمع العربي المعاصر وعن التاريخ، سواء بطريق المقارنة الساخرة أحيانا أو بطريق استحضار التجربة الشخصية، باعتبارها أيضا تاريخا حديثا.
وهكذا، غدا هذا الانغراس في التاريخ الثقافي والاجتماعي لديها ضربا من الثابت الذي تسعى من خلاله إلى الكشف عن مواطن الخلل في التصورات، وسعيا حثيثا إلى تأكيد ما قال به صلاح الدين المنجد، منذ أواخر الخمسينيات، من أن حرية الخطاب وحرية المرأة وحرية الجسد والسلطة المزدوجة كانت مكونات راسخة في المجتمعات العربية القديمة لم نعد نجد لها أثرا في الواقع العربي المعاصر. ولذلك أيضا تختار فاطمة المرنيسي مفهوما من أعقد المفاهيم وأكثرها التباسا وتركيبا (الحريم) لا يتمتع بالتداول في الأوساط الثقافية العربية، لتعيد تحيينه وتجعله موطن صراعها من أجل قيم جديدة للمرأة العربية.
إن هذا الاختيار ينم عن الرغبة في امتلاك هذا المفهوم في تعددية معانيه وشحناته الإيديولوجية والرمزية وجعله حلبة حقيقية للبحث والسؤال والتفكيك. وهو مغامرة فريدة تروم ممارسة ذاك التفكيك في قلب مفهوم يعتبر في ذهنية العرب مفهوما عجائبيا غربيا بامتياز. لذلك، حين تبدأ المرنيسي “روايتها” “نساء على أجنحة الحلم” هكذا: “ولدت في حريم بفاس…” تكون قد أوقعت نفسها في قلب المفهوم بصيغته الجديدة التي تسعى هنا إلى رسم ملامحها التعارضية مع الحريم الاستيهامي الغربي. فانطلاقا من هذه المعرفة الشخصية والبحثية للحريم العربي والشرقي تسعى إلى تحديد ملامح الحريم الغربي، وتتبع خطاه في التصور الثقافي الغربي، لتضعه أمام مأزقه الخاص، باعتباره تصورا سطحيا يلزم تقويض دعائمه. ومنذ بداية الكتاب نستشعر هذه اللعبة السوسيولوجية التي تنطلق من فرضية موضوعة سلفا لتسعى إلى توكيدها أو بلورتها في شكل أكثر واقعية: “يبدو أن حريم الغربيين ضرب من المكان المجوني، حيث ينجح الرجال في خلق معجزة مستحيلة في الشرق، تتمثل في التمتع الجنسي من غير حواجز بالنساء اللواتي حولوهن إلى جواري! فالنساء في الحريم لا يسعين إلى الانتقام من كونهن عرضة للاعتداء، والحط من كرامتهن إلى موقع الأسيرات. وفي حريم الشرق، يتوقع الرجال مقاومة هوجاء من قبل النساء اللواتي مارسوا عليهن الإكراه والإخضاع. إنهم يتوقعون أن تقوم هؤلاء بتفجير مشروع متعتهن الأصلي الذي كن موضوعا له. ففرح الصحافيين الذين قابلتهم لا يمكن أن يتجلى إلا إذا هم حرموا النساء المحجوزات من عقولهن، وإلا إذا جعلوا منهن كائنات عاجزات عن تحليل وضعيتهن.” (ص. 20).
ولأن هؤلاء الصحافيين يمتلكون تصورا عن الحريم مستقى من الصور التي صاغها فنانوهم والأفلام التي أنتجها سينمائيوهم، فإن الاختلاف بين هذا التصور والحريم التاريخي الذي تجليه فاطمة المرنيسي هو ما يشكل شعلة الكتاب ومدار أسئلته. فالحريم التاريخي يتشكل من نساء لهن تصور وسلطة وعقل وخطاب. ويكفي في هذا الإطار، إضافة إلى ما ذكرته الكاتبة عن السلطانات المنسيات الرجوع إلى أقدم مؤلف عن الذكاء الخطابي للمرأة “بلاغات النساء لابن طيفور”، حيث يبرز في وقت مبكر “العقل النسوي” في أبلغ صوره. فإضافة إلى امتلاك سلطة الكلام، تعيد المرنيسي إلى الأذهان الفارق الجوهري بين المفهومين الشرقي والغربي للحريم، المتمثل بالأساس في سلطة النساء وقدرتهن على مقاومة هيمنة الرجل والأخلاق الذكورية (فوكو-بورديو) التي يبني عليها تلك الهيمنة.
ثم تعطف على الإرث الفني للغرب في تصويره للغانيات (odalisques) الشرقيات، سواء تعلق الأمر بإنغريس في بدايات القرن التاسع عشر أو بماتيس في بدايات القرن العشرين. وتعلق المؤلفة على هذه التصاوير الاستيهامية للحريم الشرقي: “لم أخطئ الأمر. فالابتسامات النشوى التي ترتسم على ملامح الغربيين وهم يسمعون كلمة “الحريم” بدأت تفصح عن معناها. فبما أن الفنان الغربي يتحكم في صورة الجمال، فإن حريمه مكان أمين حيث لا تستطيع النساء الخاضعات التمرد. ولأنهن عاريات وصامتات فقد خلقن عاريات وصامتات، وسيظللن كذلك مغلقات كما هن في زمن السيد” (ص. 132). فالعلاقة بين الرجل والأنثى، لدى الكاتبة، لا يمكن أن تكون مبنية على إلغاء العقل والحساسية المشتركة والإخضاع والقهر، لأن ذلك سيكون خطرا على تلك العلاقة نفسها، التي قد تنتهي إلى عنف من نوع آخر.
النمط والنمط المضاد
في نيويورك، دخلت فاطمة المرنيسي بقوامها الشرقي الباذخ، إلى متجر كبير للثياب، باحثة عن تنورة على مقاسها. غير أن جهودها ذهبت سدى، لأن مقاس خصرها لا يدجل في المقاسات الغربية، فقالت للبائعة ساخرة: “في هذا المتجر بكامله، الذي يساوي مائة مرة بازار إسطنبول، لا تملكون تنورة على مقاسي؟ هل أنت تمزحين؟”. طبعا، المقاسات غير العادية توجد في متاجر خاصة. أجابت فاطمة: “أنا من بلد ليست فيه للملابس مقاسات دقيقة. أقتني القماش، وتقوم الخياطة أو الخياط في الحي بفصالة وخياطة تنورتي أو جلبابي الذي أريده. فلا الخياطة ولا أنا نعرف ما هو مقاسي. وفي المغرب لا أحد يهتم بذلك، يكفي فقط أن أؤدي ما علي من ضرائب”. إن جسدا من قبيل جسد فاطمة المرنيسي، كما تشير هي إلى ذلك لا يعتبر شذوذا بقدر ما يعتبر نعمة. لذلك عمدت إلى نعت الهوس الغربي بالرشاقة بما سمته “حريم القدّ 38” الذي صار يجعل المرأة المختلفة (والعربية منها أيضا) خارج حريم النظرة الغربية.
هي حكاية إذن. لقد جعلت فاطمة المرنيسي من كيانها وجسدها وأنثويتها منطلقا لممارسة البحث والسؤال. ومن ثم صار الحريم حلبة لصراع مركب بينها وبين مجتمعها وبينها وبين التصورات الغربية، كما بينها وبين السوسيولوجيا. إنه صراع ثلاثي يحول الحريم إلى حكاية تاريخية عابرة للتاريخ. أليست قضية النساء مجالا للصراع التاريخي؟ وماذا لو سمعت في قبرها بأن تونس قد شرّعت المساواة في الإرث؟
لكن المفارقة الكبرى الحقيقية لها مذاق مُر. ففاطمة المرنيسي، كما العديد من المفكرين العرب، ممن تم الاعتراف بهم فيما وراء البحر، يحملون مفاهيمهم ونظرياتهم مثل سيزيف، أو ربما دون كيشوت، يصفق لها المصفقون، غير أنها تأفل برحيلهم، وكأنها كانت أضغاث أحلام فكرية حقا، لا يكترث لها أحد ولا تجد امتدادا في تربة الفكر والثقافة العربيين. إنها تذوب بتحلُّل أجسادهم…
المصدر : العربي الجديد