فرح في سرغايا.. وإشارات لاحقة

0

مصطفى الولي، كاتب وقاص وناقد فلسطيني سوري

مجلة أوراق- العدد16

أوراق الملف

جاء ربيع العام 2011 مبكراً، الدفء اقتحم شتاءه. في بلدة سرغايا قرب حدود لبنان، وهي البلدة المعروفة بدرجات حرارتها المنخفضة، لم تكن يوم 11 شباط من العام 2011 كما المعتاد.

دفء أطل من قسمات وجوه فلاحيها، حين دخلنا وسط البلدة حيث يوجد سوقها ومقهى صغير، عدد من الرجال يتجمهرون، ويتبادلون الحديث بهرج مسموع لكنه غير واضح. مع اقترابنا منهم، وكان عددنا ثلاثين رجل وامرأة تقريبا، كنا فريقا نقوم برياضة المشي، ثبتوا أنظارهم نحونا. وصلنا ووجهنا لهم التحية، ردوها بالمثل وسألونا: “انتو كشافة؟”. مظهرنا ونحن نحمل حقائب الظهر التي نضع فيها حاجاتنا الشخصية (الطعام والشراب والألبسة الاحتياطية والواقي المطري) أوحى لهم أننا ربما نحن فريق كشاف. في تبادل الحديث بيننا وبينهم، وبعد أن أبلغونا أن حسني مبارك قد تنحى عن السلطة، وهم مغمورون بالفرح الشديد، وجهوا لنا الدعوة لشرب الشاي، وأحدهم أحضر صندوق تفاح صغيرا، ووزع علينا وهو يوضح أن ذلك التفاح يسمونه “رجعي” لأنه في غير موسمه، ومذاقه يفوق مذاق تفاح الموسم. يشبه ربيع ذلك العام لكن بشكل عكسي، ربيع مبكر، زحف على الشتاء. ربيع الثورات في البلاد العربية الذي كانت شرارته نار “البوعزيزي” التونسي.

لم يفصح أي منهم بشكل سافر عن رغبته بسقوط “رئيس سوريا”، فالحذر يلازمهم وهم الأدرى بتجربة أربعة عقود من الاستبداد وكم الأفواه.

تلميحا، وبنبرات تكشف عن رغبتهم بالخلاص من دكتاتور سوريا، رددوا عبارات مثل: مافي ظلم بيدوم .. كلهم رح يلحقوا بعضهم .. واحد هرب .. وواحد تنحى .. اللي بعدهن شو رح يعملوا وقت بيجيهن الدور؟. قالوا ما قالوه والفرح يغمر وجوههم، وكان لنا حصة معهم من ذلك الفرح.

وهم يطلقون تعليقاتهم، راحت عيونهم تقرأ ردود فعلنا من ملامح وجوهنا. بينما بعض أعضاء الفريق راح يكيل الشتائم لمبارك، ويعلن تأييده للشعب المصري. ثم، وكما يقال: أطلق أحدهم بالون اختبار، ليجس نبضنا، حين مرر عبارة: “عندنا كل شيء منيح، مافي عنا مثل مبارك وبن علي”. لم نعترض على “تدليسه” للوضع السوري، ولم نبدي تأييدنا له، فنحن أيضا مسكونون بالخوف من تجربتنا مع سلطة جثمت على صدور السوريين أكثر من أربعة عقود، خلالها نجحت مخابرات الأسد بزرع الخوف في نفوسنا، مقترنا بالشك بأي إنسان، فنلوذ بالصمت، ونحذر من إبداء أي رأي أو التعليق على ما نسمع.

انتهت استراحتنا في سرغايا، وودعنا رجال البلدة، وآخر ما قاله أحدهم لنا: “عيدوها بلكي عوجهكم بيجي الخير”.

مضينا وفي رؤوسنا أسئلة عن أبناء سرغايا الذين التقيناهم في ذلك اليوم “التاريخي”، وجرى الحوار بين أعضاء فريق المشي حول تقديرنا لموقفهم من وضع سوريا، فهم أبدوا فرحهم وسعادتهم برحيل مبارك الذي تصادف مع لقائنا بهم، كان الرأي المرجح عندنا أنهم ينتظرون رحيل “رئيسهم” أيضاً.

عندما انطلقت الاحتجاجات في سوريا لم يتح لنا تنظيم مسير إلى سرغايا، لكننا تأكدنا بأن أبناءها اندمجوا بالاحتجاجات، وانحازوا للثورة كما هو حال أبناء قرى وادي بردى وسهل الزبداني.

مسيرات محمولة في شوارع دمشق

بعد الحادي عشر من شباط 2011، شرعت السلطة بتحضير نفسها لكل احتمال. وفي العاصمة كانت العلامات المبكرة، بما يمكن تسميته “التمرين الوقائي الاحترازي”. وزاد انفجار الاحتجاجات في ليبيا ضد معمر القذافي قلق وخوف سلطة آل الأسد.

في تلك الأيام، بعد “تنحي” مبارك، وهروب بن علي، ظهر في دمشق، ما يمكن تسميته، “استعراض السلطة للتأييد الشعبي”، كمبادرة استباقية ووقائية، فبدأت شوارع المدينة تضج بالسيارات المحمَلة بالشابات والشباب، تتجول في الأماكن الرئيسية في قلب المدينة، وتطل من نوافذها رؤوس تزعق بهتافات لبشار وافتدائه بالروح والدم، وصوره مثبتة على زجاج السيارات الأمامي والخلفي، وعلى وجوههم، فوق خدودهم وعلى جباههم، طبعوا الوشم لعلم سوريا وصوراً للرئيس.

حاولت استذكار مناسبة ما للسلطة أو الحزب أو العائلة الحاكمة، لأفسر تلك المظاهرات بالسيارات الفارهة، لكنني سرعان ما استنتجت أنها “حرب وقائية” يريدها أسياد هؤلاء الفتيان والفتيات، لتكون رسالة للشعب بهدف إحباط أي تفكير بالنزول إلى الشارع كما حصل في بلاد عربية أخرى.

في الأيام اللاحقة، عندما انفجرت احتجاجات الليبيين، (في 14 شباط 2011) استشرت حمى “إلى الأبد” تنتشر لساعات في مسيرات محمولة بالسيارات مع ارتفاع بحدة أصوات الشابات والشباب، ولم يُخفَ على كل عاقل، أن هذا الجنون في إعلانهم التأييد، المعمد “بالدم والروح” يخفي حالة من التوتر والرعب الذي يسود في أوساط السلطة، وسرعان ما ظهرت كتابات على جدران بعض المدن والبلدات، تقول: “إجاك الدور يا دكتور”. ولم تكن الاحتجاجات والمظاهرات قد بدأت.

في السابع عشر من شباط 2011، جاء الإنذار المبكر من تظاهرة تجار الحريقة في العاصمة دمشق، التي ردد فيها المتظاهرون واحداً من أجمل الشعارات وأبسطها “الشعب السوري ما بينذل”، دون أن يظهر أي هتاف ضد رئيس السلطة بشكل مباشر. يومها تعاملت أجهزة السلطة بمرونة مع احتجاجات الحريقة، وحضر وزير الداخلية وقيادات حزبية وأمنية لاحتواء الموقف، وهو ما حصل، لكن احتواء ما يتفاعل في نفوس الشعب من سخط على السلطة كان بعيد المنال.

كانت مظاهرة الحريقة عتبة غير مسبوقة في علاقة الناس مع السلطة، وانتشرت أخبارها كما النار في الهشيم، واستقبلت بارتياح عام عند الشعب السوري.

في يوم المرأة أفسدوا احتفالنا بالمناسبة

من سوء حظ النساء أن يكون انقلاب 1963 قد تصادف مع يوم المرأة العالمي في الثامن من آذار. لسنوات طويلة كان احتفال سلطة العسكر في سوريا بذكرى “ثورتهم” انقلابهم يفسد الفضاء العام في البلاد. غير أنه في السنوات العشر الأخيرة، قبل الثورة، وربما أكثر، احتكرت سلطة الأسد المناسبات كافة لتجعل من مناسبة ما يدعى “الحركة التصحيحية” هي الوحيدة التي تحتفل بها السلطة. حتى يوم الجلاء في 17 نيسان غاب نهائيا، ليخلي المكان لتمجيد وصول حافظ أسد للسلطة في ذلك اليوم البغيض على نفوس أكثرية السوريين.

في الثامن من آذار 2011 نظمنا سهرتنا المتواضعة في نادي الشرطة في برزة بدمشق، في هذه الفترة كان مؤيدو السلطة يتوجسون من امتداد ثورات تونس ومصر وليبيا إلى سوريا، وكانوا حريصين على إغلاق الطريق على إمكانية امتداد الثورات إلى سوريا. 

حجزنا حوالي ثلاثين امرأة ورجل أماكن لنا في نادي الشرطة لنحتفل بالمرأة في يوم المرأة. وكان آخرون غيرنا يجلسون على عدد من الطاولات. هؤلاء، لم تعجبهم كاسيتات الموسيقى والأغاني التي وضعناها، لنغني معها ونرقص، أو نقيم حلقة دبكة صغيرة. في منتصف الحفل، تفاجأنا بعدد من الصبايا والشباب، ودون مناسبة، يرددون هتافات لسوريا الأسد ولبشار “بالروح بالدم” و “إلى الأبد”. يبدوا أنهم كظموا غيظهم منا قليلاً، فنحن غنينا للشيخ إمام، ولأحمد قعبور، وسميح شقير. كلها أغاني لا تريح مافي رؤوسهم، فرتبوا إفساد الاحتفال، وأقحموا شعاراتهم البغيضة، ليحتلوا فضاء الصالة بأصواتهم. ظنت إحدى الصديقات أنهم مدعوون معنا، فمالت نحوي لتسألني: هدول جايين معنا؟ مين دعاهم؟

لم تكن تعلم أننا لم نحجز الصالة كاملة لمدعويينا “فريق المشي وبعض أصدقائنا”، أوقفنا غناءنا لينتهوا من جعيرهم، ورشقونا بنظرات التحدي الشرسة والعدوانية، تجاهلناهم وانتظرنا حتى يفرغوا مافي نفوسهم من شعارات، وعندما صمتوا عدنا لأغنيات الشيخ إمام، وهنا اتضح أنهم ينوون شراً، فقطعوا علينا صوت الشيخ إمام وألحانه، وأغاظهم حماسنا لكلمات أحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي، فعاودوا بترداد شعارات الدعم للسلطة، وأقحموا أغنيات هابطة ليبددوا احتفالنا بالمناسبة الإنسانية الجميلة.

ما قام به هؤلاء، كان رسالة لنا، أرادوا منها إظهار حضورهم كنقيض لحريتنا في اختيار الموسيقى والأغنيات. وما كان بين تلك الأغاني ما يمس السلطة التي يعبدونها، فقط لأنها لمغنين لا تحبهم السلطة، وربما بعضهم كان على دراية بأن إمام ومرسيل وقعبور وشقير ليسوا من فناني” إلى الأبد”، بل هم أقرب لفن الحرية والفرح.

زادوا استفزازهم لنا برفع كؤوسهم مرددين “بصحة بشار”، وثبتوا نظراتهم نحونا، وكأنهم يريدون منا مشاركتهم “نخب الطاغية”.

تلك بعض الإشارات المبكرة لخوف سلطة الاستبداد من مواجهة أمر ما يمكن أن يحدث في البلد.

وحدث ما حدث في الثلث الثاني من آذار، ابتداءً من شرارة ليست مقصودة من أطفال درعا، شرارة في هشيم كدسه الاستبداد لأربعة عقود، فكان الحريق الذي امتد للأراضي السورية كافة.