فرحان المطر: قراءة في رواية”وطأة اليقين”

0

سأنطلق في مقاربتي الوجيزة للرواية من مفتاحها الأول، ألا وهو العنوان: وطأة اليقين، ملحق به عنوان فرعي آخر: محنة السؤال، وشهوة الخيال.متى يكون اليقين ثقيلاً، وهل يمكن له أساساً أن يكون ثقيلاً، ولماذا؟!. ثم عن أي يقين تتحدث الرواية؟!. هل هو يقين شخص برأي، أو معتقد ما، أم تراه يقين مطلق أكبر وأعمّ، يشمل شعباً كاملاً، أو على الأقل الغالبية العظمى من هذا الشعب؟!. وعن أي شعب نتحدث هنا؟!. ثم يلي ذلك محاولة الاقتراب من تشبيه السؤال بالمحنة، وصولاً إلى الخيال الذي لم يكن لمه من مقاربة وتشبيه سوى بالشهوة.أرى أن العنوان الرئيس، أو المتفرع عنه، يشكلان فخاً بادئ ذي بدء ينصبه الراوي بمهارة الخبير المحنك، ليوقع به قارئ روايته. كيف ذلك؟!. على صعيد الشكل الفني اعتمد الكاتب طريقة الرسائل المتبادلة بين صديقين، يروي من خلالها أحداثاً، وذكريات، ومواقف تنير عالم الرواية الذي يلي من جهة، وطريقة الحوارات المباشرة بين شخوص الرواية لكشف عوالمها الخبيئة.

المرسل “حيدر لقمان السنجاري” معارض سياسي يساري سوري، اعتقل لفترات طويلة في سجون النظام السوري منذ عهد الطاغية الأب حافظ الأسد، ولم ينج من الاعتقال لاحقاً مع بداية الثورة السورية في عهد الطاغية الوريث.المرسل إليه “هاغوب” معارض سياسي سوري آخر، كان رفيق أيام النضال والسجن، وهو اللاجئ السياسي اليوم في السويد.تدور أحداث الرواية في جانب منها في مدينة بروكسل العاصمة البلجيكية، أما إهداء الرواية فكان لمدينة أوستند التي يقيم فيها “ولات أوسو” أحد أبطال الرواية، الذي تولى مهمة سرد الأحداث، والتعريف بالشخصيات الأساسية في الرواية، “الأبطال الآخرين”. “ولات أوسو” كاتب وشاعر كردي سوري 35 سنة، مقيم في مركز اللجوء “بيتي-شاتو” القريب من بروكسل.”كاترين دو وينتر” بلجيكية متقاعدة 77 سنة، مؤيدة بقوة للثورة السورية، وهي التي يتعرف عليها “ولات” مصادفة أثناء رحلة مشتركة بالقطار إلى مدينة “أوستند”. كاترين تتقن العربية التي تعلمتها في سوريا، إضافة إلى أنها تعرف المناطق السورية جيداً، وخاصة القامشلي، التي أمضت فيها عدة سنوات، قبل أن يطلب منها الأمن السوري مغادرة سوريا دون رجعة.سأل ولات نفسه: “ما الذي يدفع هذه العجوز الأجنبية إلى هذا القدر من التفاعل والارتباط الحميم مع سوريا، والتضامن مع ثورتها؟ في حين أن كثيرين من السوريين غير مكترثين لهذه الثورة؟ بل البعض يناهضها ويستهدفها؟”. “رولان بونيوبا” بلجيكي من أصل كونغولي. “كلارا روزنشتاين فالمر” ألمانية. “جورجينيو أندريوتي” إيطالي.لماذا أوستند؟!. لأن المعارضين السوريين والناشطين الأوربيين المؤيدين للثورة السورية يقيمون فيها اعتصاماتهم، في ساحة “لابورس” بصورة شبه منتظمة.هؤلاء الأشخاص يجتمعون هنا، تجمعهم قضية الثورة السورية، وهم مشاركون فيها بحماس من خلال صفحة الثورة السورية على الفيسبوك باللغات الإنكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية.المحور الأساسي الرابط بين هذه الشخصيات هو كاترين دو وينتر التي جمعت ولات أوسو بأصدقائها في الساحة بعد اللقاء المصادفة الذي حصل بينهما في رحلة القطار، وهي التي قامت بالشرح والتوضيح لرولان بونيوبا عندما كان ماراً بالمصادفة وحدها، حيث دفعه الفضول لمشاهدة هذه الجمهرة من الأشخاص الأوربيين والمهاجرين الذين يحملون أعلاماً غريبة عنه. “بات يفكر في السبب الذي يجعل مجموعة من الأوربيين المرتاحين في بلدانهم يتضامنون مع مهاجرين ولاجئين أجانب” وأضاف في نفسه: “لماذا أنا أيضاً شعرت بصوت داخلي يناديني من الأعماق للتضامن مع هؤلاء البشر؟ يبدو أن العدوى وصلتني أيضاً! من هم السوريون؟ وما هي سورية؟”.

بعد أن تتآلف هذه المجموعة فيما بينها أكثر وتنسجم، عبر المزيد من النشاطات المشتركة، والأحاديث التي لا تنتهي، والتي كان الدور الأبرز فيها لولات أوسو وكاترين دو وينتر من خلال الحوارات حول الأوضاع السياسية في سوريا ملقين الضوء على أية تفاصيل قد ترد عبر أحد الأسئلة من أي واحد من أفراد هذه المجموعة، بحيث يمكن للقارئ أن يتعرف على القضية الكردية في الجانب السوري منها، والاختلافات الشديدة بين الكرد السوريين حيال العديد من القضايا الحاسمة، كالموقف من حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان، والقضية السورية وعلاقة الكرد السوريين ممثلة بأحزابهم منها عبر العديد من المواقف.عودة إلى الرسائل المتبادلة بين رفيقي الفكر وسنوات السجن، حاتم وهاغوب، تتحدث إحداها عن “البوعزيزي” التي يرى فيها حاتم أنها يوم في التاريخ ليس كمثله: “لو حذا كل مواطن بسيط حذو البوعزيزي، لأضرمت شعوب بأكملها النيران بنفسها؟ حياة البوعزيزي، ونهايته، والارتدادات الناجمة عنها، يلزمها روائيون كبار، يترجمونها إبداعاً أدبياً”. ثم يستطرد قائلاً: “لو كان أبو القاسم الشابي حياً لكتب في بروميثيوس تونس، أجمل ما كتبه في قصيدته نشيد الجبار – هكذا غنى بروميثيوس”. من هذه الشرارة تعود الذاكرة بولات أوسو ليتحدث عن حادثة إضرام النار التي قام بها قياديون في حزب العمال الكردستاني بأنفسهم في عيد النوروز 21 آذار 1982 داخل سجن ديار بكر، احتجاجاً على التعذيب، وكذلك فعلت طالبة كلية الطب “زكية آلكان” المنتمية لذات الحزب في عام 1992 احتجاجاً على الأوضاع السيئة للأكراد في تركيا.رسالة أخرى تتحدث عن متابعة حاتم لثورة 25 يناير والملايين التي تهتف بعبارة: ارحل. مبدياً إعجابه الشديد بها، وإيمانه بأن هذه الثورة لن تتوقف قبل أن تنتصر.كما تثور عواطفه عندما أعلنت تنسيقيات الثورة السورية عن تسمية أحد أيام الجمعة باسم: جمعة آزادي.يتحدث ولات أوسو عن أهمية الثورة السورية قائلاً: “الثورة السورية عرتنا جميعاً، من دون استثناء، وكشفت زيف الادعاءات والمزاعم الثورية، وأزالت كل المساحيق عن الوجوه. ربما حياتنا السياسية كانت نفقاً من الخرافات والأوهان التي أيقظتنا الثورة منها، لكننا نمانع الخروج منه حتى الآن. إنه نفق الشعور بالمديونية تجاه الذات والآخر، واعتصار الضمير والوجدان الإنساني حيال الجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء، باسم الثورة والوطن والقضية ودماء الشهداء، وكنا نبررها ونشرعنها بحجة: ” إنها الثورات، هكذا هي دوماً، تأكل أبناءها”، وسنبرر لاحقاً ما ستشهده الثورة السورية أيضاً من انتهاكات. إنه نفق الشعور بأننا كنا الضحايا والجلادين في آن”.تزخر الرواية عبر صفحاتها بالعديد من القصص والحكايات التي ترويها خاصة كاترين دو وينتر عن تاريخها، وتجاربها الشخصية، والسياسية، والاجتماعية، وهي حافلة كذلك بالأسماء والتواريخ والمدن والدول التي كانت مسرحاً لتلك الحكايات.غير أننا نقف في الرواية عند تلك الحبكة الخطيرة التي تفتح باب الأسئلة، وأبواب المخاطر الحقيقية المحتملة، بعد أن تثار عن طريق المصادفة وحدها، ربما. المسألة الخفية التي تجمع روحياً بين هؤلاء الأصدقاء الذين جمعتهم مناصرة قضية الثورة السورية، ذلك أن كلارا وجورجينيو ورولان يكتشفون جميعاً أنهم أجروا عمليات زراعة بعض الأعضاء لأجسادهم في مشفى “سانت مارتين” ببروكسل، خلال فترة زمنية متقاربة!!. ما هذه المصادفة ؟!. عدا عن التغيرات التي طرأت على أمزجة وشخصية وعقلية وتفكير كل واحد منهم؟!. الأمر الذي طرح سؤالاً فانتازياً: ماذا لو أن هذه الأعضاء التي دخلت أجسادنا، ومنحتنا فرصة مواصلة الحياة الطبيعية هي لذات الشخص؟!. هذا السؤال المفاجئ الذي ولدته اللحظة، ودفع بهم جميعاً نحو البحث عن إجابة يقينية.لم تكن المسألة بهذه البساطة بطبيعة الحال، غير أن رحلة البحث ابتدأت.

في الإجابة على نتيجة هذه الرحلة الشاقة المعقدة على طريق اكتشاف الحقيقة اللغز، يظهر ما يدين هذا العالم المزيف، حيث يظهر جلياً شكل القاتل، والمتواطئين معه، من شخصيات يفترض أنها تحمل قيمة أخلاقية بالحد الأدنى نتيجة مكانتها التي تشغلها، غير أن الواقع والحقيقة المرة في مكان، والكلام الجميل المنمق في مكان آخر.ليس من مهمة هذه القراءة الموجزة كشف تلك الخيوط، وإفساد متعة القراءة لدى المتلقي، فهذا العمل الأدبي جدير بأن يُقرأ باهتمام، لمعرفة ما تخفي وراءها تلك السطور.يبقى أخيراً أن أشير إلى أن لغة الرواية لم تكن واحدة في جميع مراحلها، فقد تراوحت بين اللغة الشاعرية، والصوفية، إن جاز لي القول، وتلك اللغة اليومية التي جاءت عبر العديد من الحوارات، وتوصيف الأحداث التي لا تحتاج أساساً إلى افتعال لغة مزركشة.وطأة اليقين عمل أدبي وتوثيقي بآن معاً، نصل معه إلى أن اليقين لم يكن سهلاً عند من يصلون إليه، ويسعون لتقديمه راسخاً كما هو أمام العالم.*- صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى عام 2016 عن دار السؤال في لبنان، للكاتب والشاعر الكردي السوري هوشنك أوسي المقيم في بلجيكا، وتقع في 384 صفحة من القطع الكبير.*-رواية وطأة اليقين فازت بجائزة كتارا للرواية العربية سنة 2017 فئة الروايات المنشورة، وتمت ترجمتها إلى الفرنسية والانكليزية.

*خاص بالموقع