الكلام الإنشائي أو تهدُّج الصوت وانتفاخ الأوداج والتحميس والبلاغة والتلاعب بالألفاظ والمشاعر، ليست حكراً على شعب دون آخر، إلا أني أميل إلى فكرة أن استخدامها أو رواجها في المجتمعات المتخلفة أكثر مما هو في المجتمعات المتقدمة. لكأنّ الأفعال تعوِّض نقصها بالأقوال.
لا يقتصر ذلك على اليمينيين دون اليساريين أو التقدميين دون الرجعيين أو الدنيويين دون الأُخرويين، فالكلُّ في الداء سواء، بغض النظر عن احتمال تفاوت النسبة في صفوف كلٍّ منهم.
ذات يوم قال كارل ماركس: “ليس لدى البروليتاريا ما تخسره سوى أغلالها”. ما أبدع هذه المقولة أدبياً، وما أخطر التعاطي معها واقعياً.
البروليتاريا هنا تعني الطبقة العاملة، وثمة من استخدمها بنوع من التسامح النظري والمفاهيمي، ليشمل بها الطبقة العاملة والفقراء وفق اجتهادات وإسقاطات “عالمثالثية”.
هل كان ماركس متحمساً أو متجهِّماً أو غاضباً حين قال ذلك، أعني هل كان كالخطباء الذين خبرناهم عقوداً وقروناً، أم كان يطرح فكرةً، يراها واقعية ومنطقية، ولكنه صاغها بلغة مجازية؟
السؤال صعب كما أفترض، والإجابة حسب توقّعي أكثر صعوبة، وربما أكثر تمنُّعاً، وفي الوقت نفسه أكثر تنوعاً.
إذا افترضنا أن مقولة ماركس كانت صحيحة في زمانها، أو أنها لا تزال صحيحة وفعّالة في البلدان التي تزخر بطبقة عاملة أو تحكمها نُظُمٌ ديموقراطية، فإن تردادها ببغائياً، بعد كل ما خسرناه، نحن السوريين وأمثالنا، ينطوي على فهم تبسيطي أو سذاجة وجهل بالواقع، بل إنه لا يتعدّى في أفضل الأحوال كونه شحنة بلاغية تحميسية ذات أهداف تعبوية وتحشيدية قد تمليها ظروف وضرورات تستدعي شدّ العزائم وشحن المعنويات، ولكن ذلك لا يجعلها بديهية أو واقعية.
سرعان ما تترنح هذه المقولة عند أول امتحان لها في البلدان التي تحكمها طُغمٌ ديكتاتورية شمولية متوحّشة.
ماركس نفسه يمكن أن يترنّح لو اعتقلته المخابرات السورية مثلاً، ووضعته في الدولاب، أو تحت الكرسي الألماني، أو مشبوحاً على الُّسُّلَّم بالمقلوب، أو موصولة أعضاؤه الحسّاسة بأسلاك مولِّدة كهربائية، أو مطعونة مؤخّرته بقنينة مكسورة العنق، أو على “سخّانة كهربائية” ملتهبة وأصابعه بين أنياب تلك الآلة الجهنمية لانتزاع الأظافر، أو أمام والديه وأخواته وإخوته وهم يتعرضون للتعذيب والاغتصاب، أو أمام أشياء من هذا القبيل الذي لا قِبَلَ به لإنسان أو حيوان أو حجر.
في الحقيقة يمكنني أن أضيف الكثير مما يمكن أن نرى معه المنيَّة أمنية، على حد قول شاعرنا المتنبي الذي لم يتنبّأ لنا بأي شيء من هذه الأهوال، ومما يمكن أن نرى معه الجحيم حالة في منتهى التواضع والرأفة والحنان.
أحاول أن أتقرَّا أو أقرأ ليس إلا، وأنا أدرك أن قراءة الواقع واحتمالاته وتجلياته لا علاقة لها برفع أو خفض المعنويات، وبالتالي لا علاقة لها بمنسوب خصوبة الثورية أو تصحّرها. كل واقع لا تعزِّزه الوقائع لا يعوَّل عليه. عندما ينضج الواقع والظروف سيثور الناس رغم معرفتهم بأن ما سيخسرونه هو أكبر بكثير مما ذهب إليه ماركس في مجازه، وقد ثار السوريون فعلاً رغم وبسبب تاريخ فظيع من الاستباحة والبطش والتنكيل، ورأى العالم ما تعرضوا له من فداحات، ليس أقلها المجازر الكيميائية، وليس أكثرها ما يُعرف بصور قيصر عن تعذيب المعتقلين حتى الموت، ناهيكم عن قصف المدن والقرى والمشافي والمدارس والأسواق والمخابز والساحات العامة، وقد كان كل ذلك محمولاً ويمكن الصبر عليه لولا أن العالم قرَّر الصمت على ما يجري من دم وخراب، مكتفياً بإدارة وإطالة أمد الكارثة وزيادة تعقيدها، فهي معقّدة في الأصل، هذا إذا لم نقل إن العالم سكت على، أو شارك في تنظيم مهرجان عالمي فريد من نوعه لحركة الطيران الحربي، الأميركي وحلفائه، والروسي والإسرائيلي والتركي، والأسدي، بدون أي أخطاء أو تصادمات في الأجواء السورية، وهذا فضلاً عن تباهي القادة الروس، على الملأ، بتجريب أكثر من ثلاثمئة نوع من الأسلحة الفتاكة الحديثة، وفضلاً عن تحقيق استثناء يؤكد للمرة الأولى، في عصرنا، إمكانية وجود قواعد عسكرية أميركية وروسية في نفس البلد. صحيح أنه الاستثناء الوحيد في العالم حتى الآن، ولكن لم يعد هناك من قوانين أو أعراف أو أخلاق تحول دون تحقيق المزيد من الاستثناءات.
مشكلة السوريين لم تكن في ضرورة أن يثوروا لأنهم لن يخسروا سوى قيودهم، بل في أن نظام الأسد استورد لهم قيوداً إضافية، ومجازر إضافية، واحتلالات إضافية، وخيَّرهم -والأمم المتحدة معه بوصفه ما زال عضواً مؤسساً فيها- بين الموت وبين القبول بمزيد من القيود.
لو كان ماركس سورياً لما عرفتُ ما كان سيقول، ولكني أرجّح أنه لم يكن ليقول جملته الشهيرة في بحث أو مقال أو بيان، بل في شطحة شعرية مسفوحة الأقداح.
ماركس الأوروبي في القرن التاسع عشر، لا يستقيم أن يكون سورياً في عهد الأسد الأب ووريثه.
وأنا كشاعر، يعتمد كثيراً على المجاز، أتفق مع من يقول: كل تشبيه قاصر، وكل استعارة عرجاء في التعاطي مع طين الحياة ونارها ورمادها، هذا إلا إذا فهمناها كدلالات ورموز وإشارات ذات إسقاطات منظورة أو ملموسة، وعلى هذا الأساس يمكنني أن أطرح على المقولة سؤالاً يراودني منذ سنوات بعيدة:
إذا كانت خسارتنا لأغلالنا ربحاً لحريتنا، فماذا يمكن أن نسمي “ربحنا” للموت أو لأغلال وسياط إضافية؟
في الحقيقة هو سؤال برسم العالم، وليس برسم السوريين فقط.
*تلفزيون سوريا