فرج بيرقدار: إحدى أذني الوحش.. عن ثقافة التعميم خوفاً

0

التعميم لا يصحّ دائماً وعموماً، ذلك لأنه هناك تعميم يستهدف التعويم أو يفضي إليه، وأحياناً يستهدف التعتيم، هذا إذا لم يكن في الأصل ضرب من ضروب العمى وربما العمه عن إدراك الفوارق والتفاصيل والخصوصيات، وبالتالي عدم إدراك السلبيات والإيجابيات، ما يعني أنه “كلّه عند العرب صابون”، وفق المَثَل أو القول المجازيّ الذي صاغه أبناء جلدتنا ليجلدوا به أنفسهم أو فئة منهم.

هذا وجه من وجوه الموضوع، قد يدفعنا إلى إدانة التعميم، ولكن لو استقرأنا الدوافع والأسباب، أو بعضها، لتبيّن لنا أن كثيراً من التعميم ينطوي على قدر من الخوف، وأحياناً على قدر من الكرامة الشخصية، وقد يأتي في سياق التحدي أو عدم الاستسلام على الأقل.

إذن ثمة تعميم يلجأ إليه عامة الناس اتقاءً لشر أو ضريبة باهظة، وثمة تعميم تلجأ إليه السلطات غير الديموقراطية لتمرير مشروع أو صفقة أو خطة أو نهب ما. وبالتالي ثمة تعميم دفاعي يبتغي السلامة، وثمة تعميم يضمر جريمة أو انتهازية أو نذالة أو كارثة.

ليس غرض هذه المقالة الحديث عن السلطات التي تسعى لتعميم الرفاه في مجتمعاتها، ولا عن السلطات التي تسعى لتعميم الفقر والقمع والسجون، بل تحريك أو تحريض ما يمكن أن يلمع أو يقدح بين جنبات التعميم أو على هوامشه.

حين يشتمك شخص شرير وأقوى منك، فأنت تعرف أن ردّ الشتيمة قد يكلّفك غالياً، وكذلك هو الأمر حين يشتم رجل زوجته، أو حتى حين ينشب خلاف بين أطفال. صاحب الموقع الأضعف والعاجز عن الرد بالمثل يلجأ إلى التعميم، كأن يقول: يلعن أبو كل واحد يسبّ العالم، أي الناس، وقد يكون الخوف أكبر، وبالتالي يصبح التعميم أوسع كأن يقول: يلعن أبو كل العالم. رد فعل الطرف الأول القوي هنا يكون أسهل، وقد يتغاضى، لأن الشتيمة معممة، وحضرة جنابه جزء بسيط من هذا العموم، ما يعني أن حصته من الشتيمة بسيطة ويمكن ابتلاعها. التعميم هنا دفاعي أو وقائي أو قصرٌ للشر، وبالتالي لا يحق لنا اتهامه بالمعنى الأخلاقي، بل يجب أن نقرأ فيه رمقاً أخيراً من رغبة الحفاظ على الكرامة الشخصية.

يمكن لنا أن نسمّي هذا النوع من التعميم التفافاً يضمر غير ما يعلن، وذلك بالطبع تحصيل حاصل للخوف. وهناك التفافات أخرى تتوسل اللعب بالكلمات أو الحروف بدلاً من التعميم. فمثلاً هناك من يتعرَّض لإهانة تفوق احتماله، أو تخرجه من جلده وتضعه على حافّة الكفر، ولكن الخوف من الوقوع في الكفر يزدلف بالكلمات أو بعض حروفها لتوصل المضمون بدون أي وثيقة دامغة. يندر أن يمر يوم بدون أن نسمع أحداً يقول مثلاً “يلعن ديبه أو ديكه أو مظّينه”. الجميع يعرف أن “ديبه وديكه ومظّينه” ليست أكثر من تحريفات لـ “دينه”، ولكنها تؤدي غرضها في النجاة من ورطة الكفر. وكذلك الحال مع من يقول (يبدح حريمه)، فالدلالة واضحة أو مكافئة لقوله (يدبح حريمه)، أو (يفدح حريمه) بمعنى (يفضح حريمه). في الواقع هناك من يقولون (يحرق حريشه)، وأعتقد أن المقصود حريمه رغم أن اللفظة تبدو اشتقاقاً من الحرش القابل للاحتراق.

وإذا كانت التعميمات والازدلافات السابقة تثير عندي التعاطف والحزن في آن معاً، إلا أن هناك تعميمات يثير أصحابها السخرية، ذلك لأنهم يتذاكون في تعميمات نقدهم السياسي بغية الظهور بمظهر المعارضة من دون أن يغضبوا السلطة. أولئك هم الذين ينتقدون ويلعنون الأنظمة العربية قاطبة، فكلها استبدادية وكلها عميلة وكلها فاسدة همها عروشها وثرواتها ومنهوباتها. وهناك من يبالغون في التذاكي، فيلجؤون إلى مزيد من التعميم والتعتيم والتعويم، عبر شتم كلَّ حكومات وأنظمة العالم، وإذا كنتَ من بلد عربي “مقاوِم” أو “ممانع”، فيكفي أن تشتم الأنظمة العربية الرجعية والإمبريالية العالمية والصهيونية.

للاستبداد أخلاقه وللديموقراطية أخلاقها، وللشح أخلاقه وللوفرة أخلاقها، وكذلك الأمر بالنسبة للجهل وللمعرفة وللأمان وللخوف.

ثقافة الخوف وحش خرافي رابض في ربوعنا وصحارينا، يشهق جمراً ويزفر رماداً، ولعل  كل ما تقدم يشير إلى إحدى أذني ذلك الوحش.

*تلفزيون سوريا