يقال: إنها قضت بقية النهار معه في مكتبه في الطابق السابع من العمارة، لم أصدق ذلك أبدًا، على الرغم من أنها في الفترة الأخيرة أصبحت كثيرًا ما تتحدث عن الحب، وتحديدًا عن الحب الذي يأتي في غير موعده، وفي غير ظروفه الطبيعية، الحبّ الذي يدفع المحبين إلى ممارسته بشهوة جنسٍ كبيرة، وبمتعة لا تكاد توصف. مع أنها تمتعض من هذا الحديث، وتخاف من الوقوع فيه، وتسرح بفكرها بعيدًا.
إنها تعيد ما كنت بدأته قبل سنوات. بالنسبة لي لم أعد أثق بأي امرأة مهما كانت، كلهنّ ذوات تفكير غير سويّ. أحبتني امرأة عن آخرها، وببساطة شديدة تركتني دون أسباب مقنعة. هذه تشبه تلك في كل شيء، إنها نسخة طبق الأصل، لا تختلفان إلا في الاسم. لقد أنكرتني نكرانًا تامًا في الفترة الأخيرة، أقصد المرأة التي أحبتني، لا هذه المرأة.
هذه المرأة البيضاء الطويلة المكتنزة ذات اللغة الرقيقة والصدر المكتظ والعجيزة الشامخة، كأن كل تلك الكثافة في نهديها وعجيزتها منحتها إياها الطبيعة لتعوض رقة الكلام التي تبدو منها. خاصة عندما تريد إيقاع الرجال في شركها، يتغير كل جهاز نطقها ويصبح فارسيًا رقيقًا، تختفي الضاد والقاف والصاد والطاء والظاء، وتختلط الحوابل بالنوابل. صوتها ينخفض هامسًا إلى درجة تشعر فيها أن بشرتها أصبحت رقيقة بما يكفي ليفرّ منها الدم من شدة الوله.
في الفترة الأخيرة بدا عليها التوله كثيرًا، لذلك أحيانًا أصدق أنها قضت النهار بكامله في مكتبه في الطابق السابع من العمارة. حدثتني قبل أيام قليلة عن فقدان الإنسان عقله إذا ما ضربته عاصفة الحبّ، لا منطق في الحب، هكذا يقول الواقع، وبالقدر نفسه، وبالبساطة ذاتها برهنت الفلسفة بطريقتها الخاصة على هذه الحقيقة، ولا أخلاقيات له كذلك، سوى أنه الحبّ.
مع المحبين دائمًا دليل براءتهم ودليل إدانتهم، إنه الدليل نفسه مع اختلاف في التفسير. أنا لا أرى في المسألة عيبًا أخلاقيًا، وعلى من وقع في هذا المطب العاطفي أن يكمل حتى النهاية، حتى لو اضطر أن يبني حياة جديدة مبتدئا من الصفر. إنها ولادة جديدة بطعم جديد. من يرفض هذه الفرصة يكون غبيا وغير جادّ على أي حال، كما فعلت معي من كانت “تحبني”، رفضت أن تلدني أو ألدها من جديد لنبدأ من الخط المستقيم غير المتعرّج. بقينا نسير على الخط المعوج، لذلك فقد سقطنا كثيرًا على جوانبه لأننا لا نستطيع السير على خط أعوج. هي مثلنا الآن تسير على خط أعوج. أظن أنها ستقع ذات اليمين وذات الشمال إن لم تحدث معجزة، تنقذ عجيزتها من الثوران غير المحسوب. أنا الآن أسير خارج الخط المتعرّج، وكلما حاولت أن أعود إلى المسار ذاته أوقعتني عنه بعنف.
لا أنكر أنني حزين، وقصتها فيها الكثير من مشاعر الشفقة، لأن الحب صعب، ومستحيل، إن كان فعلا حبًا، وليس مجرد زوبعة. أتحدث مع آخر وأخبره بعموم ملاحظاتي عليها، وأنني خائف وحزين وأشعر بالمقت والسخط، ليس عليها، بل من أجلها، لأنها لن تستطيع أن تركض حتى آخر الحلبة. ربما ستموت في منتصف الطريق، أو في بداية الاستعداد لرقصة الباليه الأخيرة، مع أننا تحدثنا عن أن هزة واحدة من نهديها الكبيرين كفيلة بإحداث ضجة في المحيط. إن لم تمت فستمرض، ليس من روعة الرقص غير المتقن، ولكن الحب بهذه الكيفية مرض محض.
أتخيلها وهي ترقص الباليه أو أي نوع من أنواع الرقص في مكتبه في الطابق السابع من العمارة، يخيّل إليّ أنه لم ير يومًا امرأة ترقص الباليه، ويغلب على ظنيّ أنها لا تحسن رقص الباليه إطلاقًا، نظرًا لعجيزتها المكتظة وفخذيها السمينتين وصدرها الشامخ بتحد واضح. إنها ستختار الرقص بفستان قصير يظهر ساقيها لما فوق الركبة بشبر أو بشبرين، ستأخذ احتياطاتها بتنظيف ساقيها ليظهرا أكثر نعومة وملاسة وبريقًا كأنهما من زجاج. هي تحب هذا النوع من الملابس. كانت تقول لي في فترات صفائها- قبل أن تقع في الحبّ- إن هذه الملابس مغرية أكثر من التعري الكامل. إنها تتقن حرق الإعصاب؛ أقصد الملابس بطبيعة الحال. خصوصًا إذا أبدت تلك الملابس أول النهدين، وراوغت الحركات النظر إلى الإبطين النظيفين أيضًا، تمامًا تمامًا.
المحبون يتحولون بالتدريج إلى حكماء وصوفيين، تتنزل عليهم السكينة، يصبحون محل ريبة وشك من المقربين، ينزوون، ويكثرون من التأمل، لكنهم سيحبون الوحدة فجأة. إنهم يستشعرون الفرق بين السَّكِينة التي تجلب الحظ، والسِّكّينة التي تقصّر العمر، لذلك لا يتهورون، بل يقفون على الحدود بحذر شديد مبالغ فيه. هي مثل المحبين تحولت إلى فيلسوفة في لغتها، وفي تصرفاتها، وفي حركتها القليلة، تلتزم الهدوء التام، لا أستطيع تفسير هذا الهدوء، لعلها تحترق بنار الوله رويدًا رويدًا، على نار هادئة، لذلك لا تستطيع أن تثرثر كثيرًا، لم تعد تمزح كسابق عهدها. لم يعد أحد يشعر بوجودها، تأتي صباحا بصمت تام، ولا أحد يراها تغادر المبنى، إنها ربما- كما يشاع- تقضي نهارها كله أو معظمه في مكتبه. ما جعلني أشك في الإشاعة كلها أنه لم يكن في مكتبه ذلك اليوم، بل لم يزر مكتبه ليومين كاملين، هما اليومان اللذان ولدت فيهما الإشاعة. أحد العارفين ادّعي أنه رآه يدخل خلسة إلى مكتبه، ولم يخرج منه ليومين متتاليين، هما اليومان اللذان قضت نهارهما بالكامل معه في مكتبه في الطابق السابع من العمارة.
لم أعد أصدق شيئًا مما أسمعه. هي إشاعات بالتأكيد، لكنني لا أستغرب ذلك إن حدث، فالنساء كلهن عن بكرة أبيهنّ مؤهلات لمثل هذا، فلا يوجد “قديسات” في جحيم هذا العطش، فالماء شحيح حتى في السماء، فكيف على الأرض؟ لعلّ وجودها في مكتبه هذين اليومين أهون من أن يجدوها ميّتة من العطش في شقتها بعد أن أكلت نفسها بشراهة من شدة الوله. وهذه ستكون إشاعة أخرى أشد تصديقًا من أنها قضت نهارها كاملًا في مكتبه في الطابق السابع من العمارة.
*ألترا صوت