فدوى العبود: هل نحتاج لزلزالٍ روحيّ؟

0

علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا
(كارل بوبر)

ها قد أخطأت الأرض بحقّنا حين انهارت وانهدمت فحَرَمت، هل كان متوقّعاً منها أن تفعل كل هذا الشر من أجلِ انزياحٍ صغير!
إلهي، لماذا تخليت عني!
لماذا سلبتَنا طمأنينتنا تجاه بيوتنا فحسدنا الطيور على أجنحتها، السقف الذي تحول إلى مصدر خوف كان يجدر به حمايتنا. من أذِن له باحتضاننا بهذا العنف الذي كسَّر أضلاعنا!
يقول أحدهم: (لم يعرف تاريخ الأرض أيّ سكينة)
نحن أيضاً لم نعرف معنى الطمأنينة، الطفولة بالنسبة لنا انهيارٌ آمال فرديٌة وسط عائلة أكبر تمنحنا بدل الرعاية الحرمان وجبالاً من الوهم، المراهقة تعني لنا التمييز الجندريّ، قتل النساء، إجبار اللاجنسي بيننا على الزواج (لأن الزواج سترة) واللاإنجابي على الإنجاب (لأن الإنجاب امتداد) والموهبة المتوقدة على مداراة ثرثار عجوز، والموظف على احتمال مديره السيكوباثي.
(نحن الذين تضرّرنا منذ الأزل)
حين جلسنا بأقدام مشققة نستمع لمن يخوفوننا حتى من الله ذاته، عملنا وهمي، زواجنا وهمي، نبيع الوهم ونشتريه بحقوق الصمت وثمنه المرّ! عشنا حياةً أخلاقيةً زائفة؛ فتهاوى سقف الحياة الحقيقة فوقنا، واستخسرنا حتى الأنين، بل عاقبنا من يئن. احتمينا بجدران من قش: اللي معه قرش بيسوى قرش (فقال لنا العالم هذا ثمن عادل).
– الحيط المايل اعطيه دفشه، (حين مالت حيطاننا جاء من رفسنا)
– إذا شفت الأعمى طبوا مانك أكرم من ربو، (حين فقدنا البصر والبصيرة ثمة من دفعنا للهاوية)
-اللي بتجوز أمي بقله عمي (فتعطلت قدرتنا على التمييز)
والآن نلومك يا زلزال، ولم لا فقد كنت تجسيداً بصريّا لأذيّتنا الأزليّة، كنت ختام مسرحية حياتنا القاتمة، ها قد أنزلت الستارة على حيوات كثيرة فما نحن فاعلون؟ يقول يونان للرب «صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي، جازت فوقي جميع تياراتك ولججك». هل سيؤدي هذا الزلزال لارتدادات روحيّة فنهدم الأفكار المتصدعة في قلب رؤوسنا، هل ندرك أننا مرتبطون ببعضنا بعضا فنتخلص من التحيز العاطفي والعمى الأخلاقي. هذا لا يتطلب أي ثقافة أو فكر ولا قراءة الكتب وتقمصّ النظريات، بل القليل من المرونة.
غياب من نحبهم تحت الأنقاض ليس سهلاً (كان هناك كائن، ثم ما عاد كائناً) ما كان قبل منتظماً صار ركاماً من الأشياء المبهمة، أظهرت الأرض وجهاً قبيحاً، رجفت بما عليها سبعة أيام * إن أكثر الأماكن تعرضاً للزلازل هي اليابان، وهي ذاتها التي تلقت قنبلتين ذريّتين، لكنهم تعلموا أن ما يبنيه الوهم يسقط وما يتأسس على الحقيقة يدوم.
مبان أكثر مرونة (هذا كل ما في الأمر) فالشجرة التي تكسرها العاصفة هي الصلبة الجافة، والخريف يسقط الورقة المصفرة. أن نستمرئ دور الضحية!
لا، لا يجدر فعل ذلك الآن، أن نحفر بأظافرنا لنخرج من تحت الأنقاض التي بناها مقاولو الأفكار وتجّارها؛ (والتي انهارت فوق رؤوسنا جميعا).
استلهمت الفلسفة في القرن الخامس قبل الميلاد وعبر مؤسسها سقراط حكمة معبد دلفي، التي أصبحت بوصلةً للوصايا الفلسفية والأخلاقية: أيها الإنسان إعرف نفسك بنفسك؛ ما نقلها من كونها نظراً عقليّا في العالم إلى تأمل باطنيّ في الذات؛ وهذا التأمل لا يتعلق بفهم أنفسنا وتهذيبها بقدر ما يطرح مسألة العلاقة مع الآخر المختلف. (الزلزال وكل الكوارث تملك بُعداً مستقبلياً؛ إن رغب الإنسان بأن يقرأ التجربة البشرية). نحن لسنا ضحايا نحن الذين واجهنا الحرب والغرق ودروس الطبيعة بالصبر والتصبر.
(نحن المتضررون الأزليون)
الزلزال هو الاختبار الأصعب لكن ماذا بعد الزلزال؟ ربما علينا أن نفهم أكثر مما نواجه ونرفض، حين نفهم نغيّر، حين نواجه ونرفض نتعثر، أن نقبل بعضنا دون تبرير حتى لا تتحول حياتنا إلى ادعاء في ادعاء.
كتب فولتير مؤلفه «رسالة في التسامح» في عام 1763 عقب مصرع جان كالاس، للدفاع عن أسرة بروتستانتية تم اضطهادها، على الرغم من انتمائه للأغلبية الكاثوليكية في فرنسا، ليجسد المعنى الحقيقي للتسامح، ليس بمعنى القبول، بل بمعنى الانفتاح: قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك. بعد أن ينتهي العزاء يتُرك المكلوم وحيداً، ما إن ينتهي العناق يذهب الناس ويبقى الأسى، عقب دفن ضحايا الزلزال سنبقى بمفردنا لنفكر ونقرر كيف نخرج من تحت أنقاض أفكارنا المتآكلة، ما نحتاجه الآن ليس عناقاً وتعاطفاً فقط، ما نحتاجه (زلزال روحيّ مواز يهدِم ما عشش في عقولنا: أن نفهم مغزى أنــّات الضحايا).
ورد في السفر: آه يا يونان، إنني أريد منك هذه الصلاة من بداية القصة. منذ زمن وأنا أريد أن أكلمك وأتفاهم معك، لكنك غضبت وهربت ورفضت أن تتفاهم، أما الآن فإنها فرصة مناسبة لنصطلح».
إذا كان الزلزال هو السؤال فهل سنعيش ملتفتين للخلف بقية أعمارنا، كما فعلت المرأة التي تحولت لعامودٍ من الملح، أم سنجيب ونحن في بطن الحوت: يا الله لقد فهمت.

*قصيدة آدم في موت ابنه. أوردها عبد الفتاح كيليطو نقلاً عن الطبري.

*القدس العربي