فخر الدين فياض: صباح السالم.. حكاية سورية

0

كما معظم السوريين تفاجأت بقصة الفنانة صباح السالم, تفاجأت بسجنها الطويل وخروجها امرأة تبدو محطمة وقد فقدت ذاك الجمال الناعم.. في مخيلتي كانت تلك المرأة كالفراشة.. جميله, لطيفه, شفافة وهادئة.. كما عرفتها من خلال التلفزيون وبعض أدوارها السينمائية. لكن الذي استغربته إنني لم أتساءل ولم نتساءل جميعاً عن غيابها ولم نفكر بها طيلة سنوات طويلة وهى في غياهب السجن.. خمسة عشر عاماً!!

الفنانة في الأصل كانت صيدلانيه ماهرة, قيل أنها أبدعت في هذا المجال حتى أن مؤسسة الأدوية التابعة للدولة والتي تعمل بها, استغنت عن خبيرها الألماني بفضل مهارتها.. قالت إنها كشفت منظومة فاسدة في تلك المؤسسة وكتبت عنها في صحيفة الثورة آنذاك, فضحتها وطالبت بمحاسبتهم.. قالت أيضاً أنه تم توريطها بقضية مخدرات, تعاط واتجار, والأهم أنها لم ترضخ لشهوات أحد الضباط الكبار, رفضت أن تكون محظيته وهي التي صفعت مخرجاً سينمائياً في بداياتها الفنية لأنه تحرش بها.

قصة صباح السالم حزينة ومؤلمة, و لكن هذا المقال لا يقصد تفاصيل تلك القصة الشخصية بمقدار ما أنها كشفت شيئاً آخر أشد حزناً وألماً.

 فنانة تملأ الشاشة الصغيرة بحضورها وسينمائية سورية اكتسبت شهرتها بموهبة وجدارة.. ثم غابت سنوات طويلة, ومعظمنا لا يعرف لماذا, السيء في الأمر هو عدم تساؤلنا, لم يكترث هذا الجمهور العريض لأمر كهذا, وبالقياس يمكن لغياب نجمه أقل منها في الفن العالمي أن يثير الكثير من اللغط والمتابعة, والأبسط أن الصحافة المحلية كانت قد ملأت الفضاء الوطني بقصتها. لم يحصل هذا الأمر ويقال أنه لم يجرؤ أحد على الاقتراب من هذه القصة!!

أستطيع تفهم عدم الاكتراث للسجين السياسي في ظل نظام ديكتاتوري, الرهبة والخوف من السياسة تجعل “المواطن” يخشى سماع تلك القصص فضلاً عن التساؤل أو الحديث عنها.. لكن السجين الجنائي يفترض أن التساؤل حوله طبيعياً مها بلغت درجة الديكتاتورية, لكن أن يصل شعب إلى مرحلة يخشى فيها هذا التساؤل ولا يكترث, فأعتقد أننا إزاء حالة غريبة ومختلفة عن الدكتاتوريات التي عرفتها المجتمعات, فلا ديكتاتورية هتلر ولا “الرفاق” السوفييت ولا في أمريكا اللاتينية.. وربما لا القذافي ولا صدام حسين ولا غيرهم وصلت معهم شعوبهم إلى هذه المرحلة من “الغياب” وعدم الاكتراث..

 شيء أشبه بالخشخاش!!

 إنها المفارقة السورية في ظل آل الأسد.. في إحصائيات غير دقيقة قام بها بعض السجناء بشكل سري عام 2000 في سجن عدرا, تبين أن نسبة 94% من السجناء هم مواقيف غير محكومين, قانونياً يجب أن تتم محاكمتهم خارج جدران السجن ولا يتم سجنهم إلا بعد الحكم عليهم من قبل المحكمة, بالطبع توقيف الناس بشكل اعتباطي يستند على قانون الطوارئ سيء الذكر.

لكن لماذا يزجون الناس بمئات الألاف داخل السجون وعلى الشبهة؟! بالطبع إلى جانب إلغاء شيء اسمه السلطة القضائية هناك الرسالة الأخطر: انهم قادرون على سجن واعتقال أي كان, ولا أحد فوق سلطتهم مهما كان بريئاً أو شريفاً, نوع من الترهيب والقهر اللامتناهي.. حتى أن الجرائم الصغيرة في مثل هذه الحالة التي تبدو وكأنها تمرد ونوع من الرفض لنظام شمولي, استطاع ذاك النظام أن يجعلها بسوية الجنايات, التي يمكن للموقوف أن يقضي أعواماً طويلة في السجن قبل أن يتبين انه بريء!! إضافة إلى رسالة أخرى لا تقل خطراً انهم هم الوحيدون المسموح لهم بمختلف أنواع الجريمة, إن كانت جرائم سياسيه أو جرائم أخلاقية واقتصادية: فكل شيء مسموح به في دولة الأسد لمن ينتمي إلى تلك المافيا, وكل شيء ممنوع على من كان خارجها!!

قصة السجينة صباح السالم تشبه قصة سوريا السجينة في عهد آل الأسد, سوريا التي مثلّت ذات يوم نموذجاً يحتذى لمعظم البلاد العربية, وبالنسبة لبلد مثل ماليزيا في الستينيات التي زار رئيس حكومتها مهاتير محمد سوريا آنذاك وقال “حلمنا أن نصبح بلداً حضارياً مثل هذه البلاد”.. سوريا الفن والأدب والسلام الأهلي, الشعب الذي لم يعرف حرباً طائفية في تاريخه, سوريا الجمهورية التي تنحو باتجاه دولة القانون والديمقراطية, دولة البرلمان والصحافة الحرة سقطت أسيرة بيد العسكر.. حتى آلت إلى أسوأ الانقلابين في تاريخها: حافظ الأسد.

كما غابت الفنانة صباح السالم وضمرت في ذاكره أهلها ولم يكترث لها أحداً, كذلك غابت سوريا التي كانت, وضمرت ولم يكترث لها أحداً طيلة أربعين عاماً.. تحولت خلالها إلى كينونة باهتة لا معالم لها, فلا أحد يذكر اسم أدبياً أتى بعد نزار قباني يوازيه, أو سياسيا يشبه فارس الخوري مثلاً, بالأساس في دولة الأسد كان هناك فرماناً غير معلن, يمنع على أي أحد أن يكبر في أي مجال من الحياة العامة, دولة الأسد كانت ضد كل ما هو فني وثقافي وسياسي.. بكلمة ضد كل ما هو حقيقي, أرادوا بناء بلاد من الوهم, وهم بطل الحرب والسلم, القائد الخالد, سوريا الأسد.. وأخيراً وهم “منحبك” لأكثر شخصية مكروهة في عالم اليوم, لذلك تراجعت البلاد حضارياً ودمرت على صعيد الوجدان والضمير الوطني.

 مما قالته الفنانة صباح السالم لصحيفه “اندبندنت عربية” بعد الإفراج عنها:

“كم أتمنى لو بقيتُ تلك الفتاة الحادة الطباع التي صفعت مخرجاً عندما تحرّش بها، لكن قلبي الطيب هو من أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم، الحب والدفاع عن المهنة والتحزب لوطني ضد الفساد والفاسدين، لستُ ضحية، لن أكون، لكنني أخرج الآن من سجني لأجد البلاد وقد انقلبت رأساً على عقب، والحياة تغيرت، سورية التي تركتها قبل دخولي السجن هي غيرها اليوم، ما أكبر حزنكِ يا بلادي، وما أصغر قلبي”.

 تلك هي سوريا, الفارق أن قلبها الكبير امتلأ بالأحزان.. وكما تلك المرأة رفضت أن تكون ضحية, كذلك سوريا بعد انتفاضتها العملاقة رفضت أن تكون ضحية, رغم مئات الألاف من الضحايا وملايين المهجرين والنازحين وتدمير معظمها, يتراءى لي أملاً ما, أنها بلاد ستظل تقاوم وترفض الموت والتفكك وربما تعود تلك الفتاة حادة الطباع تمتلئ بالحب والوطنية ثانية.

*خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here