لم تعد الموضوعات التي قدَّمتها الحركات النسوية وسعت في انتشارها تهمُّ المرأة في العالم الغربيِّ فقط، بل أصبحت تنال حظَّاً كبيراً من اهتمام المرأة العربية على الرغم من اختلاف البنى الذهنية بينهما،
ولعلَّ حركة الترجمة التي نشطت في البلاد العربية منذ منتصف القرن العشرين وانتشرت بشكل واسع في أيامنا هذه كانت وسيلة لانتشار الثقافات المختلفة في البلدان العربية، مع الإشارة إلى أنَّ كلَّ مجتمع يمتلك خصوصيته التي تميِّزه عن الآخر، هذه الخصوصية التي تجعل المجتمعات تتمايز على الرغم من تشرُّبها البطيء وغير الملحوظ لثقافات المجتمعات الأخرى، غير أنَّ التغيرات الكبرى التي أحدثتها ثورات الربيع العربي كان لها دور مهم في الانفتاح الثقافي الواسع للمرأة العربية على ما أنتجته الثقافات الغربية، وخاصة في مجال الرواية المترجمة.
تشير الكاتبة الأرجنتينية سيلفيا أرازي في روايتها (الانفصال) إلى قضايا نسوية تسعى الأسر في المجتمعات العربية إلى تهميشها والتقليل من شأنها، بينما تواجهها الأسرة في المجتمعات الغربية، إذ تصوِّر الكاتبة العلاقة بين بطلي قصتها لوثيا وبدرو وهي على حافَّة الانهيار، فالزوجة تعاني من الإهمال والوجود المتلاشي أمام ذكورية فجَّة يظهرها زوجها وتؤثِّر على نفسيتها فيصلان إلى حلٍّ واحد وأخير وهو الانفصال، وتتحدَّث لوثيا عن الأسباب التي دفعتها لهذا القرار قائلة “انفصلت لأنَّني سئمت، لأنَّني كنت أعيش مسحوقةً تحت وطأة انتقاداته، لأنَّ كلَّ ما كنت أفكِّر فيه كان يبدو له تافهاً، وكلَّ قراراتي خاطئة، وكلَّ ما يروقني بشعاً، انفصلت لأنَّه كان يستيقظ في حالة مزاجية سيئة للغاية، وكنت أنا هدفه المفضل”[1]، ويظهر من خلال هذا التبرير الوعي التام للمرأة بوجودها، فهي لن تقبل بأن تبقى شخصاً غير مرئي في عالم يظنُّ فيه الرجل أنَّه محور الوجود وأساسه، وأنَّ وجودها مرتبط بوجوده، وأنَّها دائماً أقل شأناً منه، لذلك كان الحل بالانفصال حلاً عادلاً يعيد لها كرامتها المهدورة، وتبدأ لوثيا بمرحلة جديدة تعيد إليها توازنها على الرغم من الانكسار الذي خلفته تجربتها السابقة، باحثة عن شغفها الذي فقدته وفقدت معه معنى الحياة.
ولا تعالج الرواية المشاكل التي تحلُّ بالأسرة في مرحلة ما بعد الزواج بل تناقش الزواج بوصفه مؤسسة غير ناجحة تقوم على أساس ذكوري محض، فالزواج الذي ينبغي أن يقوم على التشارك بين الرجل والمرأة لم ينصف المرأة، إذ ترا فيرا في الرواية نفسها بعد أن تعرضت للخيانة من زوجها أنَّ “الزواج ينطوي على ضرر، إنَّه مثل قصة اليرقة والفراشة التي حكوها لنا، ولكن معكوسة، ندخل ونحن نتصور أنَّها فراشة بيضاء، ومع الزمن، نتطلع إليها بذهول وهي تتحوَّل إلى دودة”[2]، فالزواج برأيها عبارة عن عقد يجعل من النظام الأبوي نظاماً محمياً من قبل القانون، لأنَّه يطلق عنان الذكَّر الزوج الذي لا يفتأ يتحكَّم بشؤون الأسرة بينما تبقى المرأة تابعة لقوانينه التي ينبغي أن تلتزم بها داخل البيت وخارجه.
ويمكننا أن نقول ما هو أبعد من ذلك، فالنسوية في العالم الغربي ومع التحولات التي طرأت على الموجات النسوية قد طرحت قضية مهمة بشأن الأسرة تقوم على تفكيكها وإعادة بنائها بشكل مختلف، فالتصنيف البيولوجي القائم على أساس الرجل والمرأة أو الذكر والأنثى أصبح مرفوضاً، وأصبح النموذج الأمثل لهذا التصنيف يقوم على أساس مثلي الجنس (امرأة/ امرأة) وبذلك تستطيع المرأة أن تحطِّم وإلى الأبد سلطة الرجل على جسدها ومشاعرها “ولم يقتصرن على هذا، بل ذهب فريق منهنَّ إلى أنَّ السحاقيات فقط هنَّ النسويات حقاً، القادرات فعلاً على تحدِّي الذكورية والإعراض عن عالمها، وشكَّلن النسوية السحاقية”[3]، وفي رواية (حليب أسود) للكاتبة التركية إليف شافاق تُظهر الكاتبة إعجابها بتقبُّل القرَّاء من بلادها للسحاقيات اللواتي كتبت عنهنَّ مقالاً في إحدى الصحف المحافظة فقالت: “قد استبشرت بذلك وأخذته كعلامة تقدُّم ثقافي في الوطن”[4]. ولا تكتفِ إليف بالإشارة إلى مثل هذه القضية في روايتها بل تتحدَّث عن قضية أخرى تتعلَّق بالمثليين وهي كيف يمكن للمثليات أن يصبحن أمهات ويتمتَّعن بأمومتهنَّ على الرغم من علاقتهنَّ غير القادرة على إنتاج الأطفال، فإليف تسرد قصة الفتاتين اللتين رأتهما وكانتا تنتظران مولوداً بموصفات محددة عن طريق بنك الحيوانات المنوية، ولعلَّ مثل تلك القضايا غير الشائعة في البلاد العربية لا زالت مرفوضة بسبب العادات والتقاليد التي تنبذها والشرائع الدينية التي تحرمها، ومع ذلك لا يمكننا أن ننكر أن تداول مثل تلك القضايا عن طريق الرواية وغيرها سيسعى إلى انتشارها وذيوعها بين
أفراد المجتمع.
كما نجد الكاتبة نفسها تطرح مشكلة تواجه النساء الكاتبات تتصل بالعلاقة بين الزواج والأمومة ومهنة الكتابة، وتحكي قصص كاتبات تخلين عن الزواج والأمومة لصالح الكتابة، وكاتبات استطعن أن يجمعن بين الطرفين مع الكثير من التضحيات حتَّى أصبحن كاتبات مبدعات لمعت أسماؤهن في سماء عالم الثقافة والإبداع، إذ إنَّ المسؤولية التي تتحملها المرأة تجاه الأمومة تتحمَّل المرأة الكاتبة ضعفها بسبب مسؤوليتها تجاه الكتابة، فبينما تتَّسع مساحة الاهتمام بالأطفال تتضاءل مساحة الاهتمام بالكتابة والعكس صحيح أيضاً، بالإضافة إلى التحدِّي الكبير الذي تواجهه المرأة الكاتبة تجاه الذين يرون أنَّ الإبداع يخضع للجنس فتقول إليف “هناك قاعدة عاشت إلى اليوم، ولا تزال صحيحة، في الوسط الثقافي: الكتَّاب الرجال يجيؤون إلى الأذهان ككتَّاب أولاً ، ثمَّ كرجال. أمَّا الكاتبات، فإنهنَّ إناث أولاً، ومن ثمَّ كاتبات”[5]، ولا يختلف الأمر عمَّا يدور في المجالات الثقافية في العالم العربي، ممَّا يدفع المرأة لتبذل ما بوسعها لتثبت حضورها بوصفها كاتبة ومثقفة وأديبة لا فرق بينها وبين الرجل.
إنَّ الروايات المترجمة بما تقدِّمه من فكر جديد حول القضايا النسائية أتاحت الفرصة للمرأة العربية لتطَّلع على تجارب مغايرة لتجربتها التي حكمتها العادات والتقاليد والأعراف الدينية والتي تعرَّضت لهزَّة قوية نتيجة التغيرات الكبرى في الذهنية العربية نتيجة الثورات العربية، فهل أدَّى هذا الانفتاح على شكل جديد من الثقافات إلى تغيُّرٍ في مكونات ذهنية المرأة العربية؟ وهل ما زالت الذهنية العربية تحافظ على خصوصيتها التي تحكمها سلسة من الأعراف الاجتماعية والدينية؟
*تلفزيون سوريا