إلى أبي
صباح/مساء الخير يا أبي، الخير الذي هو أنت، كان وسيظل في أرواحنا، الخير الذي نسعى إليه وقد لا ندرك بعضه.
صباح/مساء الفرح الذي يشبه أن تمشي حافيا في طين الحقول ولا تأبه حتى للشوكة تخترق قدمك. لكنك تنتشي بالنور يغمر كيانك، وبالمحبة تستبدل أردية الشغف وتصنع حكاياتها أبدا من طارئ عاجل كضحكة على وجه ملاك صغير، يلتقطها عصفور أزرق يقبّل الوردة في فمها، أو فرح ينسكب من لهفة قطة لسمكة في حوض صغير، وجنون يتسلق كتف الشعر كأنها السلام الكوني الأكبر، الناجم عن الإيمان المنبعث من أدخنة القصيدة وقلق الوجود فيجعلها زرقاء زرقاء كأنها الأمل.
صباح/مساء السير على الطريق بلا كثرة التفات فلا شيء في الوراء إلا ابتسامات الرضا والحمد الذي يشرق من روح تلوّح أبدا وتستجلي الطريق، لا شيء سوى أن تربّت على الحزن القديم وعلى رؤوس الراحلين وأرواحهم إن تجلت وتستأنف المشي دائما -بعيدا عن غبار الزوابع الفارغة- باستجلاء الوعي وعمق السكون، فالحياة كما علّمتنا تمارين مستمرة للإصغاء والصمت، وكما علّمنا غاندي أن «على الإنسان أن يكون التغيير الذي يريد أن يراه في هذا العالم»؛ ولذا فليس إلا أن تمشي الهوينا حتى وإن عرجت في مشيتك كعرجون قديم، وأن تقذف في روع المسافات رسالاتك الطيبة، رسالاتك التي تشبه القبض على اليقين حتى الغياب، وعلى الرفق في سدرة العمر المحفوفة بالشوك، وعلى الأغنيات حين يتمثل الحزن في شكل جديد.
لا شيء إلا المشي في طريق تتسع كلما استوت الخطوات على بعضها، واشرأبت في غيها، لا شيء سوى تمارين الإصغاء الطويل والصمت كنخلة تستطيل حتى ينكسر جذعها وتظل شاهدة على الحكاية بفصولها.
لا شيء إلا الروح تستنبت الأحلام ولا تنتبه إلا حين تبدأ في التكون وتتصاعد في التمثل خفيفة رعناء تحفها الصلوات.
صباح/مساء الشوق ولهفة تستدير على لظى العمر منك إليك، ورمضان الشهر الفضيل وشهرك المفضل حيث ذكرى حضورك وذكرى غيابك معا؛ الشهر الذي حرصت عليه حتى والمرض يرهق جسدك الضعيف، والذي رحلت فيه وكنا نظنك لن ترحل أبدا. لقد أصبح رمضان يا أبي يأتي ويذهب ولا ذكرى جديدة لك فيه، وهذا أصعب ما يكون في الفقد، فحين نفقد من نحب تتحنط الذكريات ولا تضاف لها ضحكة أو دمعة أو كلمة أو دعاء، ولذا تصبح موجعة فقط، كما تصبح أكثر ضوعا وعطرا وحضورا؛ لأنها تحضر دفعة واحدة بكثافتها الكلية. هكذا أصبح رمضان ذكرى عظيمة لروحك الحبيبة بيننا، رمضان حيث بدايات المحبة الروحية للرب وللإنسان وللكون بكائناته البسيطة التي تُقاسمنا المكان كما آمنت بذلك دائما.
كل رمضان أتذكر بداياتي مع هذا الشهر، فأدرك تماما أن البدايات كلها أنت، فتجلدني سياط الذاكرة وتنهال عليّ الذكريات، أنت والسور وربيع العمر الآفل والسور الذي تفرّق أهله والحياة العذبة التي أصبحت مجرد ذاكرة؛ كاللحظة التي رجعت فيها من «مسكد» وحملت لنا سجادات صغيرة، وتعليمك لنا الصلاة بصوتك الجهوري الجميل، والقرآن الذي ما زلت أسمعه يتردد في البيت القديم في الصباحات المبكرة، وقبل أذان المغرب، وصوتك في صلاة التراويح، وفي صلاة الجمعة والعيدين، و(الفيمتو والساجو والدنجو والباقل وحب الشربة والفرني والكستر وغيرها) وأنت تشتريها ليلة دخول رمضان ونهرع لها فرحا بالزائر الخاص، عقد النية ليلة دخول رمضان ونحن متحلقون حولك، ضحكاتك في السحور ونحن نأكل شبه نيام، تمتماتك عند الإفطار بأدعية لا نسمعها ونعرف أنها تعنينا بعد (ذهب الظمأ وابتلت العروق). تلذذك «باللقيمات والزلابيا واللولاه» التي تذهب لتأتي بها من السوق في آخر أوقات النهار، ونحن معك أحيانا بأرواحنا الغضة لتعود بها عند الأذان مباشرة ساخنة لذيذة. القهوة حبيبتك الأثيرة والفناجين العشرة المتوزعة قبل الصلاة وبعدها. الحر الذي لم يمنعك من (الخراف) قبل الأذان مباشرة من أشهى (الخرايف) في مزرعتك الحبيبة (التي لم تعد كذلك الآن وقامت على أنقاضها حارة سكنية كاملة). أول مواسم الصوم، العام الذي دخلت فيه الكهرباء للسور؛ حيث كان الصيف لاهبا والبلدة التي يغازلها البحر يكتنفها اللهيب والرطوبة، فتتفصد عرقا وتكاد تذوب الأجساد من الحر والصوم، ونحن الأطفال نتقرب للرب وللآباء بتقليدهم صياما وصلاة، وأنا بأعوامي التسعة وبعظمي الذي لا يستره سوى الجلد يكاد يغمى عليّ من الظمأ قبيل أذان المغرب، والأم تقرعني «لأن الله غني عن صومي» كما قالت، فجئت أنت بهديتك الأكبر (جهاز تكييف) ليجعل النهار الجهنمي جنة تشبه قلبك، فصار الصوم من يومها أسهل وأجمل.
و(الأغتم) الرجل الذي لا أعرف له اسما، ورحلتنا اليومية لحمل الفطور له وابتسامته لنا، وتحميله لنا السلام عليك، وهو يقبض على لحيته وكأنه يستدعيك تماما، القطط -التي ورّثتني عشقها- وهي تأكل إلى جوارك بأمان.
(أباه) النداء الحميمي المشترك بيننا؛ نناديك «أباه» فترد علينا (أباه)، وحين نوقظك للسحور (أباه أباه) وأنت غاف تماما، تنهض فزعا (أباه أباه أباه) فتفزعني فزعتك وأهرب وأنا أردد على مسمعك (سحور سحور). (الطبال) المسحراتي الذي كنت أتمنى أن أسمعه ويغلبني النوم فتوقظني وأنت تقول لي (قومي سمعي الطبال) وتعطيني الريال يوم العيد لأعطيه له، (حلوى القرنقشوه) المتنوعة التي كنت تحضرها لنفرح بها قبل الأطفال الآخرين وخاصة (شكليت حليب بو بقرة)، والسور كلها تتحول تلك الليلة لمهرجان أفراح بحاراتها وسككها وأصوات أطفالها ونسائها.
(أباه) لقد كبرنا كثيرا في غفلة منك ومنا ومن الزمن، (أباه) ما عدت هنا، وما عدنا نحن، وما عاد رمضان هو رمضاننا الجميل، وما عدنا نقول (أباه) وما عدنا نسمع صداها (أباه)، رحمك الله يا أبي ما عاد رمضان على الكون والناس، وما صام صائم، وما تداعت ذكريات لمحب.
*عُمان