فاضل السلطاني: سوريا والعراق.. وطنان ومنفيان

0

كتبت مرة أن الثورة السورية هي من أعظم الثورات في عصرنا الحديث. وهاج من هاج. لكني ما ازال مؤمناً بذلك. إنها من أعظم الثورات قياساً بحجم القمع الرهيب، المتأصل على امتداد نصف قرن في بلد لا تطير فيه ذبابة في الفضاء من غير أن ترصدها أجهزة المخابرات. ومع ذلك، خرجت تلك الجموع لترقص في الشوارع والساحات غير عابعة بالرصاص الذي يتساقط فوق رؤوسها من أسطح المنازل.

 لا أنسى في حياتي ذلك الشاب الذي هرب مع غيره تحت انهمار الرصاص، لكنه عاد مسرعا لسحب شاب قتلته بندقية صوبت من أحد السطوح باتجاه رأسه، ليتمدد إلى جانبه… قتيلا.

هي من أعظم الثورات، لكنها أيضاً من أكثر الثورات حزنا في العصر الحديث. كم كانت وحيدة! قتلتها الوحدة، لا الميليشيات الإيرانية والعراقية، ولا “حزب الله”، ولا “داعش”، ولا أمراؤها الحربيون. قتلها صمتنا نحن، وقتلها صمت العالم الذي ينام ضميره مطمئنا كلما حدثت مذبحة هنا وهناك… كم كان السوريون وحيدين! كم هم ما يزالون وحيدين!

لا يوجد أشد فتكا من الصمت. لا المنفى، ولا حتى الموت نفسه، أشد مضاضة من الشعور بالوحدة وسط عالم لاه عن حياتك ووجودك وموتك.

وحشة رهيبة أن تكون وحيدا أمام الموت… أن تكون وحيداً في المنفى. جرب العراقيون ذلك من قبل. كم كنا وحيدين أمام صدام حسين، أمام العالم! كم هم السوريون وحيدين الآن أمام بشار الأسد، أمام العالم!

مرة أخرى، الثورة السورية هي من أعظم الثورات، ولكن قتلها الإخوة!

هي من أعظم الثورات، لكن قتلها سوء الفهم.

وجاء المنفى الفاغر فاه يلتهم الملايين، لتكتمل كل عناصر التراجيديا بمعناها الكلاسيكي، كما اكتملت عناصر التراجيديا العراقية من قبل… هل اكتملت؟

والسؤال الآن: هل ارتفع الأدب والفن السوريان إلى مستوى هذه التراجيديا، أم بعد؟ وقبل ذلك، هل ارتفع الأدب والفن العراقيان إلى مستوى هذه التراجيديا، أم بعد؟ التساؤل مشروع، فالحالتان العراقية والسورية تستدعي إحداهما الأخرى وتذكر بها. فسوريا والعراق مستنزفان منذ منتصف القرن الماضي. استنزفتهما، على خلاف البلدان العربية الأخرى التي عرفت فترات استقرار طويلة على المستوى الاجتماعي على الرغم من الهزات المتوالية، الانقلابات العسكرية الدموية المتكررة، والقمع الداخلي والإبادة الشاملة.

ما إن يهدأ هذان البلدان عقدا من الزمان، وإن متعثراً، حتى يعصف بهما، عقد تال من الدم والخراب… كأنما يراد لهذين البلدين ألا يهدآ… ألا يكونا بلدين طبيعيين.

ما إن حدث انقلاب عراقي في الثامن من فبراير (شباط) من 63 قتل فيه في الأقل 50 ألف إنسان في غضون أيام، وسجن وعذب ونفي آلاف آخرون؛ من العالم الفيزيائي الشهير عبد الجبار عبد الله، إلى الشاعر محمد مهدي الجواهري، وبينهما المئات من المثقفين؛ شعراء وكتابا ورسامين ومعمارين، حتى حدث انقلاب سوري في الثامن من مارس (آذار)، أي بعد شهر واحد فقط. وكلاهما على يد واحدة: حزب البعث العربي الاشتراكي. هي مدرسة القمع والقتل ذاتها.

ولو عددنا كل الكوارث التي مرت بهذين البلدين في التاريخ، لما عادلت الخراب المادي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي الذي أحدثه هذا الحزب الذي تشكل على يد ميشال عفلق وصلاح البيطار في دمشق عام 1947 متأثرا أساسًا بالمنطلقات الفكرية لحزب هتلر النازي في تبنيه للفكر الشمولي الذي أراد من المجتمع كله أن يؤمن به بالقوة تحت شعارات هائمة، مثل الوحدة والحرية والاشتراكية، التي هوأول من أساء إليها.

الفرع العراقي لهذا الحزب، أفرغ العراق مرة أخرى في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين جاء بانقلاب آخر، من خيرة علمائه ومعمارييه ومثقفيه وكتابه، لتبدأ واحدة من أكبر التراجيديات الثقافية في القرن العشرين، بعد التراجيديا الثقافية الألمانية على يد هتلر. ولم ننتظر طويلا حتى حصلت التراجيديا الثقافية السورية على يد الحزب نفسه، ولا تزال مستمرة لحد الآن. مئات المثقفين السوريين موزعون الآن بين المنافي، ومئات أخرى تحت الأرض في الوطن المنكوب تحت أنظار العالم المتواطئ، بشكل من الأشكال، عربيا وعالميا، كما تواطأ من قبل في أمكنة كثيرة، لتكون أكبر تراجيديا ثقافية في هذا القرن لحد الآن.

هذه التراجيديات الإغريقية بكل معنى الكلمة قد لا يمكن استيعابها وهضمها حسيا وذهنيا في فترة قصيرة لتتحول إلى أعمال أدبية تقترب من فجاعتها. إنها تحتاج إلى زمن طويل، وإلى استقرار شخصي واجتماعي يتيح التأمل في طبيعتها وأسبابها، ومساراتها ومآلاتها، وانعكاساتها المدمرة على الشخصية الإنسانية. فالإبداع تتحكم به قوانينه الخاصة، ويتطلب شروطا معينة، وأولها الشرط الذاتي الخاص بالمبدع ذاته، ليستطيع أن يقدم لنا عملا مستوفيا شروط الإبداع الفني، يكشف فيه عما حصل، وكيف ولماذا حصل، وأين انحرف التاريخ، عبر رؤية شاملة تتجاوز الحدث، من دون أن تفقده واقعيته المهولة.

علينا أن ننتظر ونرى.

 لقد احتاج تولستوي، على سبيل المثال، إلى أكثر من نصف قرن ليكتب روايته الخالدة «الحرب والسلام» عن حملة نابليون على روسيا.

وبالطبع، هناك استثناءات دائما، وحالات خاصة. فرواية مثل «صمت البحر» لجان بريله، الذي اشتهر باسمه المستعار فيركور، قد كتبت وسط هدير الدبابات الألمانية في شوارع باريس عام 1942 عندما كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني. وكشفت هذه الرواية القصيرة مشهد الرعب كله بسوية فنية عالية، ولهذا السبب قرأها الملايين في كل أنحاء العالم، وسيظلون يقرأونها.

مجلة أوراق

*خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here