يعتبر الكاتب والشاعر والمترجم، جبرا إبراهيم جبرا، أحد أهم مثقفي فلسطين ممن عايشوها قبل النكبة، فهو غادر فلسطين عام 1948 وكان عمره ستة وعشرين عاماً، حاملاً معه ذاكرة الأرض ورائحة المطر والشجر وأغاني الفلاحين، والخطوات في شوارع القدس وبيت لحم وحيفا، أتم دراسته في بريطانيا وأميركا، وهناك اطلع على روائع الأدب العالمي، وأتاحت له دراساته الأكاديمية أن يتعمق في المسرح الشكسبيري والعالمي، فأتقن اللغة الإنكليزية ومنها انطلق ليقوم بدور جسر ثقافي حقيقي بين المكتبة العربية والمكتبة العالمية، حيث قام بترجمة روائع شكسبير إلى العربية، بحرص ولغة عالية تكاد تقترب من اللغة الشكسبيرية.. ليترجم بعدها أعمالاً لصموئيل بيكيت ووليم فوكنر، وغيرهم الكثير، كتب النقد التشكيلي والشعر، والرواية، لديه أكثر من سبعين كتاباً في مختلف صنوف الأدب، شارك الروائي عبد الرحمن منيف في كتابة رواية مشتركة بعنوان (عالم بلا خرائط)، ثم اختار بغداد لتكون ملاذه بعد خروجه من فلسطين، ومن هناك سحره المجتمع البغدادي الذي اختاره أن يكون مكاناً روائياً تخيلياً لروايته الأهم والأبقى (البحث عن وليد مسعود) التي نشرها في العام 1978.
لتكون صرخة في عالم الرواية العربية وتجديداً حقيقياً في البنية الروائية العربية التقليدية.
تقدم الرواية صورة نادرة لبغداد ما قبل حرب الخليج، بغداد الأليفة، والمتنوعة المتعددة، هناك حيث تظهر بغداد كما لم يعرفها جيل الخمسينات، بمجتمعها المدني الذي يغلي، حيث ينمو الحس القومي والوطني بعيداً عن أشباح الطائفية، حيث تتمازج الشخصية الفلسطينية مع العراقية والعربية عموماً..
تعتبر رواية البحث عن وليد مسعود أهم رواية أنجزها الكاتب والشاعر والمترجم الفلسطيني (جبرا إبراهيم جبرا) وذلك لاتباعه تقنيات روائية لم تكن مستخدمة سابقاً في البناء الروائي العربي، تقنيات ربما تعرف عليها وطورها بناء على خبرته وتجربته في الغرب، واعتماداً على تماسه المباشر مع المسرح الشكسبيري الذي تعد ترجمات جبرا له من أدق و أجمل الترجمات.
اعتمد جبرا بداية على فكرة أسطرة البطل الغائب، وجعله محور الرواية الخفي، الذي تدور حوله كل الأحداث، رغم غيابه الجسدي الفيزيائي عن الحبكة، لكنه الخيط الخفي بين كل الشخصيات والأحداث، فوجوده كان حدثاً لدى الجميع رجالاً ونساء، وغيابه هو المحرك الحقيقي لأحداث الرواية التي تبدأ لحظة اختفائه على الطريق الدولي السريع بين بغداد ودمشق، حيث وجدت سيارته وحيدة من دونه، مركونة على قارعة الطريق الصحراوي، ومن شريط التسجيل الذي تركه وليد مسعود في السيارة، نبدأ بالتعرف على رد فعل البطل، وتعليقه على كل الشخصيات المحيطة فيه، ومنها ننطلق للتعرف على تلك الشخصيات، ربما يكون شريط التسجيل الذي تركه وليد في السيارة من أجمل ما كتب في سرد الرواية، فيه نص مجنون، يتأرجح بين العبثية والواقعية، بين الرومانسية والعنف، نص أدبي كتبه إبراهيم جبرا تعبيراً عن روح (وليد مسعود) الثائرة، التي تتحدث بسرعة وكثافة وقوة وعنف، نص حرص الكاتب على أن يكون بلا فواصل، ولا علامات ترقيم، ولا أي تنقيط، ليتجانس الشفهي مع الكتابي، المنطوق مع المكتوب، وليعبر النص أيما تعبير عن شخصية وليد الغائبة.
لننتقل بعدها إلى التعرف على باقي الشخصيات كمرايا لشخصية البطل وليد مسعود، حيث نكتشف تاريخ الغائب، وقصة أبيه، حينما كان في فلسطين، نتعرف على التاريخ النضالي للعائلة، لوالد وليد، ولوليد، ولمروان ابن وليد، حكاية عائلة نزحت من بيتها ومن بلدها دون أن تهزم…نتعرف على حياة وليد العائلية وعلاقاته الغرامية، نتعرف على حياته وصراعاته الفكرية والفلسفية الوجودية من خلال الآخرين وهم يتحدثون عنه، إنها مونولوجات فردية في رثاء، وليد مسعود، الذي يتجلي ليصير فلسطين ذاتها، ليصير حكاية كل النازحين واللاجئين الفلسطينين، وحكاية ثورة لم تستسلم.
من حيث الشكل، قدم جبرا إبراهيم جبرا، بنية متماسكة للرواية، من حيث تقسيمها لفصول، وكل فصل يقوده راو منفصل، فكانت هي رواية الأصوات ـ التي تتمحور حول بطل مختفٍ، يبحث الجميع عنه، أو يجتهدون لذكر صفاته الغامضة التي نجمعها ونراكبها، لتظهر أمامنا نحن القراء صورة وليد مسعود الإنسان الفلسطيني المعاصر الذي يتأرجح بين البطولة وبين الشهادة وبين الضياع والثبات..
لقد قدم جبرا إبراهيم جبرا، الرواية في 12 فصلاً، وهو رقم رمزي ذو دلالة شديدة، من حيث بناء الأسطورة التي أراد أن يبنيها لبطله الفلسطيني الحاضر الغائب، فالرقم 12 يتماهى مع عدد أشهر السنة، ومع عدد حواريي المسيح وتلامذته، هو رقم ذو اكتمال عددي، مشبه لعدد ساعات اليوم القديمة، تلك التي تدور وتتمحور حول عقرب واحد هو وليد مسعود..
تلك البنية الأسطورية القصصية التي نسجها جبرا، كانت موفقة جداً.. ولا يمكننا نهائياً تجاهل سيطرة الفكر الشكسبيري العظيم على أسلوب كتابة رواية (البحث عن وليد مسعود) حيث يتبدى الأسلوب التراجيدي في معالجة الشخصيات رفع بنيانها حتى وصولها إلى لحظة السقوط التراجيدي، ولا تجاهل البنية اللغوية الجزلة إن كان في اختيار الكلمات أو في بناء الصور المجازية أو الترابط في المعاني بين الفصول الذي ركز عليه الكاتب، فنقرأ مثلاً: “(كلمات، كلمات، كلمات) همس في أذني، من بين خصلات شعري، وقد وقف خلفي واحتواني بذراعيه، ثم أدارني لأواجهه: شكسبير، ما أمكره! يجعل هاملت يقول ذلك، فيحسب الكثيرون أنه يعني: فراغ ، فراغ، فراغ، للبعض ربما، لعجزة اللسان، لذوي الحصر في النطق، ولكن شكسبير هو أخو المتنبي، وكلاهما رب الكلمات، إنه في الواقع يريد من هاملت أن يصرخ في وجه ببغاوات الدنيا، كلمات! كلمات! كلمات! أروع ما وهب الله الإنسان، تصوري لو أن رجلاً مثل المتنبي أحبك، ما الذي يمكن له أن يقوله لك، والكلمات ملء فمه، ملء يديه، ينقيها ويصقلها”.
لقد بنى جبرا إبراهيم جبرا روايته كما الفنان الذي يركب الأحجية، قطعة قطعة، وكل قطعة ترويها شخصية من شخوص الرواية في وصفها للبطل الغائب الحاضر الذي يحرك الأحداث جميعها “وليد مسعود” ذلك الإنسان الفلسطيني الناجح، النموذج العصري للفلسطيني الذي لا ينقصه شيء في حياته، ولكنه المسكون دوماً بالماضي، بالأرض، بالرائحة والذكريات المبعثرة.. فكانت الرواية محاولة للملمة صورته التي تبعثرت وتفجرت بعد غيابه المفاجئ والمعلن عنه في رسالته التي تركها في سيارته المركونة على الطريق الصحراوي بين بغداد ودمشق..
*المصدر: تلفزيون سوريا