غسان جباعي: أن تكون حقيقياً في ظروف غير حقيقية

0

الممتع في الممثل المجتهد، هو قدرته على عرض وإضافة أفعال بشرية، وتوليد مشاعر إنسانية محددة وواقعية بالتأكيد (سلوك/ فعل)، بواسطة مهاراته الفنية، وضمن ظرف حياتي معطى. والموهوب من الممثلين، هو ذاك الذي يمتلك القدرة على فهم وخلق طبيعة بشرية حقيقية، وتوليد مشاعر وأحاسيس صادقة، وإعادة إنتاج شخصيات وأنماط إنسانية لا حدود لها.

ليس من السهل تعريف فن التمثيل، لا لأنه فن مركب (جسد/ نفس/ شعور/ لاشعور) فحسب؛ بل لأنه جامع لفنون متنوعة ومختلفة، فثمة ما هو حي يجري فوق خشبة المسرح، أمام المشاهدين، وما هو إذاعي يتم بواسطة الميكروفون، بغياب الصورة؛ إذ نسمع فيه صوت الممثل ولا نرى جسده، وثمة فن آخر هو التمثيل السينمائي أو التلفزيوني الذي يحدث أمام الكاميرات، ويشاهده الناس صوتاً وصورة، عبر الشاشة، بعد إكمال العمليات الفنية اللازمة. ناهيك عن فن التمثيل في السيرك أو ما يقوم به المهرجون والحُوات، وغيرها من الأنواع ذات الخصائص والشروط المتباينة من الناحية التقنية والجمالية والغايات والوسائل. إلا أن فن التمثيل كنوع، فن واحد لم يتغير جوهره عبر التاريخ، وسؤاله الوحيد: كيف يمكن أن تكون حقيقياً في ظروف غير حقيقية..؟ 

وعندما نقول «حقيقياً»، فهذا يعني أن تكون صادقاً مقنعاً، قادراً على عدوى المشاهدين بمشاعرك، وجعلهم يصدقونك ويتابعونك، على الرغم من أنك تقف فوق خشبة مسرح افتراضية؛ كل ما عليها غير حقيقي طبعاً، أي أنه شرطي (سواء كان العرض ينتمي إلى المسرح الشَّرطي1 أو الواقعي التصويري أو غيره من التيارات الفنية). فالمسرح شرطي دوماً، في الزمان وفي المكان والحكاية والشخصيات والإضاءة والملابس والديكورات والمكياج…. وسواء كان ذلك في المسرح أم السينما أم الإذاعة والدبلاج.. لا توجد شجرة حقيقية على الخشبة ولا نافذة تطل على شارع ولا صنبور ماء ولا ملك أو أميرة أو وزير.. ثمة ممثل اسمه عبد الله، يقف فوق الخشبة، ويؤدي دور هاملت أو أوديب… الشخصية مستعارة والثياب مستعارة وكذلك المكان والزمان والحكاية…

إنه أحد أهم الفنون وأقدمها، وأكثرها أصالة وتعقيداً، ويمكننا القول – باطمئنان – إنه أقدم الفنون جميعاً، ليس باعتباره ركناً أساسياً من فن المسرح وحسب؛ بل لأنه وُجد حتى قبل الرسم على جدران الكهوف، حيث أنه جزء من الحياة والطبيعة البشرية، يولد مع ولادة الوعي لدى الإنسان، ويرافقه حتى الموت..فالطفل يلعب مع أقرانه وقريناته لعبة «عريس وعروس، وبيت بيوت»، قبل أن يعي معنى ذلك! ويصوّب سبابته، ويطلق النار من شفتيه، ويحوّل علبة الكبريت إلى سيارة، والمسطرة الخشبية إلى سيف، والمكنسة إلى حصان… إلخ. إنه يلعب ويتعلّم مقلداً الكبار، لكنه يتخيل كل ذلك، بشكل عفوي، ويصدقه ويؤمن به ويتقن «تمثيله» بشكل عجيب! وما فن التمثيل إن لم يكن مراقبة، وتجريب، وتخيّل، وتعبير، وإيمان، وتقليد، وصدق؟ أليست هذه هي المكونات الأساسية التي يقوم عليها فن التمثيل؟ ألا يحنّ الممثل الحقيقي إلى تلك الفطرة الأولى ويتمنى أن يمتلكها من جديد؟ وهل يوجد مسرح بمعزل عن فن التمثيل أصلاً؟ 

وإذا كان فن الممثل هو جوهر المسرح، فهو كذلك، فطرة يمارسها الناس في حياتهم اليومية، عندما يكبرون، فيصبح آلية من آليات الدفاع عن النفس وتحصينها من التابو الاجتماعي، وتحقيق الهوية الخاصة بالفرد، والعيش والتأقلم الاجتماعي والإنساني مع الآخرين، والظهور بشكل يناسب شخصياتنا ضمن الجماعة.. فالناس في سلوكهم اليومي وشؤونهم الخاصة، يكذبون عادة، ليس بالمعنى السلبي فحسب؛ بل بالمعنى الإيجابي غالباً، يقلدون ويتمثَّلون، قليلاً أو كثيراً، شخصيات أخرى تناسبهم، محاولين إخفاء شخصياتهم وأهدافهم وأسرارهم ودوافعهم الحقيقية، بدءاً من مظهرهم ومكياجهم وسلوكهم البسيط، مروراً بمشاعرهم الأصلية الحميمة المعقدة، وصولاً إلى غاياتهم العميقة وأهدافهم الكبرى الخاصة بهم، لدرجة أن الناس كلهم، إن لم نقل جلّهم، يحتاجون إلى طبيب نفسي… لذلك، قيل إن الحياة مسرح كبير وإن الناس محض ممثلين يقومون فيها بأدوارهم.! فهل ثمة فرق بين التمثيل في متاهات الحياة وفن التمثيل على خشبة المسرح؟

لا أدري من الذي أطلق لقب «أبو الفنون» على المسرح! لم أستسغ هذه التسمية يوماً، ولا أعرف السبب بدقة. ربما ﻷنني أربأ بهذه الفنون مجتمعة، أن يكون لها أب واحد، وإن وجد، فمن الجائز قتله، سواء على الطريقة الفرويدية أو عن طريق الحداثة وتطور الأجيال والفنون! وربما ﻷن المسرح أو (المرسح) – كما كنا نسميه منذ وقت ليس بالبعيد – هو الخشبة، أو الساحة أو الحديقة أو المنصة أو الدائرة أو الفسحة، وكلها أسماء ليست مذكّرة، بل مؤنثة، تدل على أمكنة، وهي تصلح أن تكون أمّاً وليس أباً للمسرح. والأصح، أنه لا توجد أصلاً مهنةٌ محددة، أو فن مستقل، اسمه المسرح! إنه اسم مكان، أو لقب مجازي، أو تكريمي لفنون الخشبة، فهو مفهوم عام يحتوي على فنون كثيرة (أدب، تمثيل، تشكيل، سينوغرافيا2، إخراج…) بعضها سبق «أبو الفنون» بمئات السنين، ولا يعقل أن يسبق الابن أباه. ثم إنه جاء ثمرة لهذه الفنون مجتمعة، وليس شجرة لها.. ففن الشعر «الكتابة»، والطقوس الدينية الـ (ديونيسية)، والإنشاد (الجوقة)، تصلح أن تكون الأساس الحقيقي للمسرح، وكذلك الرسم والرقص والموسيقى والتنكر بالأقنعة (masking). 

أما فن التمثيل، فهو جَدّ الجميع بلا منازع؛ ﻷنه – كما أسلفنا – فطرة أو سليقة، وُلدت مع ولادة البشر، وتطورت معهم. إنه اللعب والتقليد والإشارة والبوح والهمهمات التي استخدمها الإنسان/ الطفل، قبل اللغة والعقل وقبل الحضارة والفن. وأقول الطفل لأن الأطفال الصغار يراقبون، ويقلدون الكبار بالفطرة، ويتعرفون الأشياء من خلال «تمثّلها» وتجريبها (معرفة).

واﻷهم من هذا وذاك، أن المسرح جاء تتويجاً لهذه الفنون.. هو من جمعها، وحضنها، وشذّبها، وآلف بينها؛ لتصبح نوعاً (المسرح). وإذا كان المسرح يدل على المكان: الخشبة أو الساحة، أو الشُقّة، أو الدّكة، أو الرصيف أو الركح عموماً؛ فالتمثيل يدل على الإنسان، الشخص الممثل. والمكان بهذا المعنى، وُجد قبل الفن، لكنه كان مصمتاً، ولم يكن له أي معنى، حتى استخدمه الناس وسيلة للتعبير الجمالي والفكري. ولا شك عندي أن ذلك حدث قبل أن ينفصل المنشد/ الفرد عن الجوقة/ الجماعة، كي يحاورها (كما ورد في كتب تاريخ المسرح)، فالإنسان البدائي أيضاً، كان يمتك مهارات كبيرة في التعبير والتواصل الفطري مع الجماعة. لذلك، نستطيع أن نعتبر (البوح) بداية فن التمثيل الذي تحول – بالتدريج – إلى مهنة مستقلة… ولا ندري إن كان الفضل في ذلك، يعود إلى الشاعر الإغريقي «ثيسبيس»،3 الممثل الأول، والمؤسس لهذا الفن «الذي ألّف أول حوار بين الجوقة والممثل الذي يقودها»4 وكان ينشد الأشعار والأغاني المنفردة بنفسه، ضمن الجوقة، وهو يرقص ويعبّر بيديه ووجهه وصوته، فتردّد الجوقة ما يقوله، أو تردّ عليه… ثم أكمل «اسخيلوس»5 ما بدأه سلفه؛ فأدخل الممثل الثاني، وجاء «سوفكليس»؛6 فجعلهم ثلاثة…7 وهذا ما أتاح لفن التمثيل أن يصبح مهنة، ويتطور من البوح إلى الحوار بالإشارة فالحوار بالكلام، ثم الجسد، ليصبح فناً مستقلاً بذاته منذ زمن بعيد.

والمسرح – عملياً – ليس مكاناً فحسب، إنما هو مكان وممثل ومشاهد (جمهور). 

إن هذه الركائز الثلاث ملتئمة، هي الأسس التي لا يمكن لهذا الفن أن يقوم بمعزل عنها، وفن التمثيل – على ما أظن – هو الذي جذب بقية الفنون وتفاعل معها، عبر العصور؛ ليخدمها ويشكل معها ما نطلق عليه اليوم العرض المسرحي: أقنعة، ملابس، شعر مستعار، غناء، ديكور، آلات، وغيرها من عناصر العرض الحديث ومتطلباته، كاﻹضاءة والمؤثرات الصوتية والسينوغرافيا التي تخدم جميعها فن التمثيل العريق.

لكن ما هو فن التمثيل حقاً؟

لكل فن – كما نعلم – أداة وموضوع ومادة يستخدمها المبدع في إبداعه؛ وهي مستقلة عنه تماماً؛ فالريشة هي أداة فن الرسم، والألوان والزيوت والخيش مادته، أما فن النحت، فأداته المطرقة والإزميل والمبرد والقالب وغيرها من أدوات الحفر والتسوية، أما مادته فهي الحجر والخشب والصلصال والشمع… والقلم هو أداة الكتابة (قبل الكومبيوتر)، والمادة هي الحبر والأوراق.. وفي الموسيقى الآلة الموسيقية هي الأداة، والنوتة هي المادة…الخ 

ونحن لا نستطيع طبعاً، استخدام أداة في مكان أخرى، كأن نعزف بالإزميل على العود، أو ننشر الخشب بقوس الكمان، وهذا ينطبق كذلك على المادة، فلكل فن مواد خاصة به ولا يمكن استخدامها في فن آخر.. أما موضوع الفن فهو واحد في الفنون كلها، وهو الإنسان في همومه وشجونه وصراعه مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان. فن التمثيل وحده هو الفن الذي يكون فيه جسد الممثل هو الأداة، وهو المادة، وهو الموضوع معاً. هذه هي أولى خصائص فن التمثيل، كما أن هذا الفن يتميز عن باقي الفنون الأخرى، بأنه فن جماعي مركّب، تحيط به وتخدمه فنون أخرى… وهو الفن الوحيد كذلك، الذي يولد ويموت في كل عرض مسرحي، لأنه عرض حي (مباشر) ولأن أداء الممثل يتغير بين مرة وأخرى، كما أن الجمهور يتغير بدوره كل مرة.

يُنسَب إلى علي بن أبي طالب قوله في الإنسان: «وتحسب أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر»، فما بالك بالإنسان/ الممثل، أو (الإنسان داخل الإنسان)! وهذه واحدة من الخصائص التي تميز فن التمثيل، وهذا ما يجعله فن إشكالي في معناه وفي طبيعته البشرية والجمالية والمهنية، فهو سهل ممتنع، واضح غامض، بسيط مركب وشديد الخصوصية.. وهو – أولاً وقبل أي شيء – فن تورية ومجاز: أن تمثل يعني: ألّا تمثل، أو كما قال ستانسلافسكي8 المؤسس لهذا الفن: «أن تكون حقيقياً في ظروف غير حقيقية»9 أي في ظروف نصنعها نحن: ديكورات، ملابس، مؤثرات، مكياج، إضاءة… ونؤمن بها، ثم نتصرف بصدق، كما لوكنا نعيشها حقاً! وعبارة كما لو هي الفارق بين النسخ الفوتوغرافي للواقع، وإعادة إنتاجه فنياً.

«قمة الصدق» هنا، هي «قمة الكذب»! أي أن تكذب كي تكون مقْنِعاً، ويصدّقك المشاهدون.! والكذب هنا ليس أخلاقياً أو محرّماً، بل هو كذب مهني مشروع لمن امتلك المهارة الفنية، فـ «أعذب الشعر أكذبه» كما قال العرب.. وهذا ما نطلق عليه مصطلح «الصدق الفني» أو «الإيهام»، وجعل اﻵخر/ المشاهد، يتورط في لعبتك ويصدّق ما يراه ويسمعه، كما لو كان حقيقة لا شك فيها؛ لهذا، يخلط الناس بين التمثيل كفن إبداعي، و«التمثيل» الذي يعني الكذب، كسلوك أخلاقي ديني واجتماعي!

كان الممثل المسرحي الناجح، حتى مطلع القرن العشرين، هو ذاك الطويل العريض المهيب، صاحب الصوت القوي الجهوري والحضور الطاغي! وكان الإغريق يستخدمون في عروضهم التراجيدية، القباقيب الخشبية المرتفعة والشعر المستعار والأقنعة المعبِّرة عن الشخصية ومشاعرها10 والتي تتحول بدورها إلى أبواق… لكن هذا الفن تطور في القرن العشرين تطوراً كبيراً، وبات اليوم فناً مختلفاً ومتنوعاً، حول العالم، بما في ذلك عند العرب الذين لم يعرفوا فن المسرح الحديث إلا في وقت متأخر من القرن التاسع عشر. لذلك، عدّ بعض الباحثين العرب اسمَ «الممثل» غيرَ دقيق، علماً أنه مشتق من فِعل عربي صحيح: مثَّل، يمثِّل. واقترحوا أسماء أخرى له مثل: مجسّد، متقمّص، مقلّد، مصوّر، مؤدّي…إلخ، لكن هذه التسميات لم تثبت مع الزمن، وهي، في كل الأحوال، ليست صحيحة أو معبرة عن جوهر فن التمثيل. ففي نهاية القرن التاسع عشر (إبان المشروع النهضوي العربي)، أطلقوا اسم الحكواتي على الممثل، وهو اسم قديم مرتبط بالمقاهي، وكذلك اسم المشخّص أو «المشخّصاتي»، وهو في الأصل اسم المخايل (الذي يحرك العرائس في مسرح خيال الظل).11 وإذا كان هذا الاسم مناسباً لمصمم العرائس ومحركها، لأنه يؤنسنها ويجعلها (تشخص أمامنا) عبر شاشة خيال الظل، فهو غير مناسب أبداً لفن الممثل الإنسان الذي يحضر أمامنا بلحمه وعظمه ومشاعره ووعيه. أما المقلِّد أو المؤدي أو المجسِّد، فهي أسماء توحي كلها، بالاعتماد على تقنية الجسد وحركاته (التقليد، الرقص، السيرك، الأكروبات)، وفن التمثيل لا يعتمد على الرشاقة والتقنية البدنية فحسب، ولا على الاستعراض، أو التقليد المتقن للأشخاص (علماً أنها كلها، تدخل في باب المهارة الفنية)؛ بل يعتمد كذلك على الروح والأحاسيس والخيال والعوالم الداخلية، التي يعيد الممثل إنتاجها فوق الخشبة. وقد يكون التقمص هو أقرب المفاهيم لمهنة الممثل (الدخول تحت جلد الدور)،12 أو تحت قميصه، لو لم يكن مفهوماً يميل إلى الغيبية الغامضة، ويشي بنظرية «الحُلول» عند الصوفية، ناهيك عن أنه حدث ميتافزيقي يأتي من خارج الوعي والجسد «ليحلّ» فيه عنوة، دون إرادة من صاحبه؛ ما يجعله خارج دائرة الإبداع الفني. أما الحكواتي فهو يعتمد على الحكي «الصوت»، وهو لذلك أقرب إلى فن الخطابة والإذاعة والتعليق على الحدث، والسرد بواسطة الصوت، أو حتى تنزيل الصوت المسجل (الدوبلاج)، منه إلى فن التمثيل الذي يُعَدّ الصوتُ فيه أحد عناصره الهامة.10. تاريخ المسرح، تأليف: فيتو باندولفي، ترجمة: الياس زحلاوي. ج1 ص 64.11. مسرح خيال الظل. أسسه شمس الدين بن دانيال، في العصر المملوكي، أي قبل تلك النهضة العربية بستة قرون على أقلّ تقدير، وهو ينتمي إلى نوع خاص من المسرح، لا يشبه المسرح المتعارف عليه.12. كما عبر عن ذلك ستانسلافسكي في كتابه فن الممثل.

فما هو فن التمثيل إذاً، وما هي السمة الأنسب لتعيينه؟

في اللغة الإنكليزية يطلقون على الممثل اسم actor، أي: فاعل، وهي مأخوذة من act، acton، وهذا أقرب إلى الصواب، لأن الممثل ليس خطيباً يقف على المنصة أو خلف الميكروفون، ليتكلم، ولا بهلواناً يتحرك مستعرضاً قدراته الجسدية، ولا مقلداً أو متقمصاً تتلبسه الحالة! إنه شخص يفعل، ويعيش على الخشبة، مجموعةً من الأفعال الدرامية. 

وكي يكون هذا الكلام واضحاً، علينا أن نعود، مرة أخرى، للحديث عن الفرق بين التمثيل في الحياة وفن التمثيل الدرامي. وكي نتمكن من ذلك، لا بد لنا من الاتفاق على تعريف وفهم الدراما والفعل الدرامي، وتحديد الفرق بينه وبين الفعل الحياتي اليومي. فالبشر – في الحياة، كما في المسرح – لا يفصحون عن رغباتهم (الدفينة) وعن الهدف من سلوكهم، بل يجعلون أفعالهم الظاهرة غطاءً يخفي نواياهم الحقيقية، وهذا ما يحوّلها إلى أفعال درامية بالضرورة. وقد كُتبت دراسات، وربما مجلدات كثيرة عن الدراما؛ تعريفها، نشأتها، ماهيتها، وظيفتها، طبيعتها، بوصفها ركناً من أركان الحياة وسليقتها؛ قبل أن تكون حجر الأساس في فلسفة الفن والإبداع بأنواعه. بعضهم يقول ببساطة: إن الدراما هي المسرحية أو الدراما «بالإنكليزية»، أو أي نوع من النصوص الأدبية التي تُؤدى تمثيلاً في المسرح أو السينما أو التلفزيون أو الإذاعة، وبعضهم يعدّها مجموعة من الأحداث المتناقضة أو المأساوية المتلاحقة التي يعيشها فرد أو جماعة أو بلد. ويدَّعي آخرون أنها مفهوم جديد جاء على أنقاض التراجيديا والكوميديا الخالصتين، ونشأ في أواخر عصر النهضة والتنوير(فولتير، ديدرو، روسو) بعد أن تراجع قانون الوحدات الثلاث الأرسطي الصارم، على يد شكسبير ثم مولير وأمثالهما من المجددين، وجرى تحديثه في العصور اللاحقة (تشيخوف، إبسن، سترندبيرغ). كما بتنا نسمع في العصر الراهن مصطلحات مثل: شعر درامي، مسلسل درامي، لوحة درامية، موسيقى درامية، دراماتورغ، منسق درامي… إلخ.

لا شك في أن الدراما موجودة في شتى النشاطات البشرية، موجودة في الشعر والموسيقا والأغنية والرقصة واللوحة والمنحوتة والعمارة؛ أي أنها موجودة في الكلمة والصورة والصوت، وقبل ذلك، موجودة في الوعي واللاوعي، وفي الجسد والرغبات ودوافع النفس البشرية المتضاربة. وهي أفعال ليست جسدية بحتة، ولا ذهنية منفصلة عن الجسد، بل متظافرة متراكبة ومتّسقة معه، في فعل واحد: (خوف، شوق، أمل، غدر، شجاعة، خيبة، انتظار، مواجهة، حب، غيرة، خيانة…إلخ). والجدير بالذكر أن وحدة الفعل هذه لا يجسدها إلا «الفاعل» بكيانه كله، وبما يختزنه من معرفة وتقانة بدنية وروحية (مشاعر وخبرة وأحاسيس وحضور ورهافة وذاكرة وانتباه…)، لكن ﻻ بأس أن نتوخى الدقة، ونتعرف إلى معنى كلمة دراما وجوهرها، بوصفها ركناً من أركان الإبداع، قبل وصفها أو توصيف الأشياء بها. فالدراما كلمة يونانية تعني: الفعل، «فعل نبيل تام»، كما وردت عند أرسطو في تعريفه للتراجيديا، في كتاب (فن الشعر)، الذي بقي قروناً طويلة، وما زال ربما، المرجعَ الأساس لفن المسرح والتمثيل الدرامي. 

لكن تعريف الفعل في العصر الحديث بات أكثر دقة وشمولاً ووضوحاً، فالدراما، أو الفعل المسرحي عند ستانسلافسكي هو: «سلوك أو مجموعة سلوكات فزيو/ سيكولوجية تقود إلى هدف» (وهو جوهر نظريته الواقعية في المسرح) فلا وجود لسلوك فيزيولجي مجرد (حركة)، ولا وجود لشعور أو إحساس نفسي لا يُعبَّر عنه جسدياً. وهو – بالضرورة – يقود إلى هدف محدد؛ لتحقيق رغبة محددة مضمرة، يحركها دافع قوي، مادي أو معنوي؛ وهذا يعني أن الفعل يجب أن يكون مدركاً، أي درامياً.. 

فهل يوجد فعل درامي وآخر عادي؟ والجواب نعم، بالتأكيد. 

ماذا يفعل – مثلاً – طالب جامعي معجب بزميلته؟ هل يذهب إليها ويعبّر لها عن إعجابه مباشرة؛ أم يمهد لذلك، كأن يطلب منها دفترها كي ينقل المحاضرة التي فاتته.! إنه – هنا – لا يكذب، بل يختار وسيلة ذكية أو حجة ملائمة لتحقيق هدفه! وهو يخفي النيّة الحقيقية من سلوكه، أي فعله الدرامي الحقيقي هذا، محاولاً أن يستكشف ردود فعل زميلته وتجاوبها معه. كما تقوم هي – بدورها – بمحاولة استكشاف نيّته ومعنى سلوكه؛ منتبهة إلى الشّقّ الفزيلوجي من فعله (تلعثمه، بريق عينيه، رجفة أصابعه، تهدج صوته) الذي يشي بهدفه الحقيقي؛ ما يشدّ المشاهد، ويدفعه إلى متابعة ما سيحدث وفهمه.. هذا الفعل درامي بامتياز، لكن، لو كان هدف الطالب هو الحصول على دفترها فحسب، وطلب منها ذلك؛ أي: لو تطابق هدفه مع سلوكه، لانغلقت دائرة الفعل (اكتملت)، ولما كان هذا الفعل درامياً، بل عادياً لا يستحق المتابعة. وإذا كانت الأفعال العادية المغلقة موجودة – عملياً – في الحياة، فليس من حقها أن تكون موجودة في الإبداع، إلا في إطار الجو العام؛ لأنها ستكون غير مثيرة لاهتمام المشاهد، ولا قابلة للتطور والتصعيد، وبالتالي؛ غير قابلة للسرد والتطور والمتابعة.. 

لكن لا بد من الإشارة – هنا – إلى أن الدراما الحديثة بدأت في العقود الأخيرة تلتفت إلى الأفعال الحياتية العادية، وتعتمد عليها اعتماداً كبيراً، وبخاصة تلك الأفعال المثيرة من حيث الشكل؛ أو لنقل من حيث طبيعتها وطريقة أدائها. فقد يطلب منك مختلٌّ سيجارةً أو نقوداً (وهو لا يريد غير ذلك)، بأسلوب استثنائي يدعو إلى الإعجاب، وقد تطلب منك فقيرة أو طفل رغيفَ خبز، بطريقة طريفة جداً، ومثيرة للانتباه والتأمل، فيتلقفها الممثل ويتبناها.. وقد يقول المتشدّدون إن هذه الأمثلة تبقى في إطار مشهد أو صورة لا ترقى إلى مستوى الفعل الدرامي.. وعلى أي حال، يبقى الحامل الأساس لتك الأفعال العادية (التسجيلية) مرتبطاً بدراما الحياة وتناقضاتها والتداعيات التي يستحضرها هذا الفعل الذي يبدو – للوهلة الأولى – أنه عادي ومغلق. 

والآن، ماذا يعني هذا كله؟ هل التمثيل هو الدراما، أم فن الإتقان والمهارة والجمال، سواء كان فعلاً أو أداء أو تقليداً أو تقمصاً أو تجسيداً؟ والجواب: نعم، هو ذلك كله، مثل أي فن آخر، يحتاج إلى المهارة الفنية والإتقان، لكن كي نميزه من بقية المهن الحرة التي تتوخى الإتقان وتُعنى بالجمال، ولا تخلو من المهارة (النجارة والحدادة والسمكرة والخياطة والحلاقة)؛ فلا بد أن نضيف إليه المعنى (أو الغاية العليا لهذا الفن)، والمبنى (المقدرة على البحث، وإعادة خلق الشخصيات والنماذج البشرية)، بعيداً عن الابتذال والاستسهال والتقليد والتكرار الذي يُعتبر آفة فن التمثيل بخاصة، وألدّ أعداء الإبداع بعامة، والذي يُطلق عليه مصطلح «كليشيه» cliche أو «ختم: كليشة» بالعربية الدارجة، كما تعني: «التقنية» بالفرنسية، والطابع أو القالب بالتركية، وكل ما له علاقة بالأقوال المأثورة والعبارات والأفكار والصيغ المبتذلة المكررة… وهي في المسرح لا تعني إلا شيئاً واحداً هو: النمطية والاستنساخ الأعمى، إن لم نقل التنفيذ السهل للأفعال الصعبة، وهذا هو الفرق بين المهارة الفنية في الإبداع والمهارة التقنية في الحرفة..

 إن أخطر شيء يمكن أن يواجه الممثل، هو تجسيد الحالات المتكررة كثيراً في الحياة وفي الدراما، مثل: الاعتراف بالحب، الخوف، السرقة، التحية، الدهشة… فكيف نحصّن أنفسنا من الوقوع في «الكليشة» والتقليد، وكيف نبتكر تعبيرات جديدة لهذه المشاعر/ الأفعال؟ هذا هو سؤال الفن.

ولذلك، يدعونا فن التمثيل إلى التفكير العميق الخلاق، بعيداً عن كل ما هو سهل ورقيع، واستنباط أو خلق حالات وأفكاراً إبداعية جديدة، نابعة من الموقف والظرف المُعطى، وطبيعة الشخصيات والأحداث الموجودة في النص؛ لا أن نختار المعروف والمستهلك لدينا ونقذفه في وجه المشاهد! 

يجب على الممثل أن يحرك خياله الإبداعي، وألا يسمح لنفسه بأن «يخر مغشياً عليه»،13 كلما فُوجئ بشيء أو صُدم به! فهل يُعقل أن ينحني – بنفس الطريقة – كلما أراد التعبير عن الاحترام لأسياده، أو أن يركع على ركبة واحدة ويقدم وردة حمراء، كلما أراد البوح بالحب مثلاً، أو أن «يبحلق» أو يزأر أو يبكي أو يتأتئ أو يتألم أو يغضب، كما يفعل أشباه الممثلين، في المسارح والأفلام والمسلسلات التلفزيونية الهابطة.! قد يُضطر إلى ذلك في بعض الأعمال (التاريخية، مثلاً) التي يفرضها الظرف المُعطى أو البيئة التاريخية، لكن، ثمة في حياة الناس، نماذج إنسانية لا نهاية لها، ولكل نموذج طابعه الخاص، ويستطيع الممثل الموهوب؛ بل يتوجب عليه، أن يضيف أفعالاً وحالات إنسانية جديدة، يقدمها بشكل أفضل وأصدق وأعمق؛ إذا حاول البحث عنها في الواقع أو في خزان ذاكرته الانفعالية، كي يعيد إنتاجها من جديد.. إن اختيار الشخصية/ النمط، وإعادة تصويرها على الخشبة، هو هدف فن التمثيل. ألا يكمن جوهر هذا الفن والإبداع، في نبش هذه الحالات الإنسانية، وإعادة خلقها فنياً!؟

الشحاذ يجلس على الرصيف، حسناً.. إنه يرتدي أسمالاً بالية ويمد يده للمارة. نعم، هو هكذا في الحياة «نمط عادي» أو نسخة عامة نراها في أكثر من مكان، لكننا في المسرح نحتاج إلى أكثر من هذا، نحتاج إلى التفكير والبحث وإثارة الدهشة والمتعة والطرافة؛ إذ يجب على الممثل أن يُقدم النمط العادي بصورة إبداعية: ماذا لو جلس هذا الشحاذ مثلَ سيد أو جنرال يبالغ في احترام نفسه، مرتدياً قبعة ممزقة تماماً، وتملأ صدره حتى الخصر، نياشين مصنوعة من التنك وأغطية زجاجات البيبسي وعلب السردين، تزين كتفيه رتب مهترئة مرقعة وشراشيب بالية من حبال القنّب، يحمل بيده عصاً غليظة، كأنه جنرال أو أمير عتيق، ذو صولجان من ذهب، واضعاً رجلاً على رجل، آمراً العابرين بحركة من عصاه البائسة، أن يُسقطوا النقود في صحنه المهترئ… أليس هذا أفضل بكثير من الشحاذ العادي الذي يمد يده ويردد: من مال الله يا محسنين؟ وماذا لو وقف الشحاذ على الرصيف مثل فزّاعة للطيور!؟ ألن يكون هذا من الحياة أيضاً؟ ألن يشبهها ويشبه تناقضاتها وغرابة شخصياتها!؟

إن المدهش والممتع في الممثل المجتهد، هو قدرته على عرض وإضافة أفعال بشرية، وتوليد مشاعر إنسانية محددة وواقعية بالتأكيد (سلوك/ فعل)، بواسطة مهاراته الفنية، وضمن ظرف حياتي معطى. والموهوب من الممثلين، هو ذاك الذي يمتلك القدرة على فهم وخلق طبيعة بشرية حقيقية، وتوليد مشاعر وأحاسيس صادقة، وإعادة إنتاج شخصيات وأنماط إنسانية لا حدود لها؛ ينبشها من الحياة العادية، ومن خزانة الذاكرة الانفعالية،14 ويجسدها أمامنا، بإتقان ساحر، مضيفاً إلى تلك النماذج البشرية التي نعرفها نموذجاً جديداً: (طبائع نموذجية، في ظروف نموذجية)، كما عرّف إنجلس الواقعية.15 

لذلك، يعد فن التمثيل واحداً، مهما تعددت مناهجه ومدارسه وأسماؤه، فالغاية الأساسية منه، هي توليد وتجسيد المشاعر الإنسانية والقدرة على عكسها وعدوى الأخرين بها (المشاهدين).

لقد عجز أغلب الكتاب والمخرجين العرب عن إنجاز طبائع نموذجية؛ أي شخصيات واقعية من لحم ودم، فلجأوا، أو قفزوا، إلى الشخصيات/ الأفكار، أو الرموز المجردة، وكان هذا أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع وفشل فن التمثيل، كما فشل الممثلون الذين اعتمدوا – بشكل كبير – على «الكليشيهات» المعروفة، والمبالغات الشكلانية الخالية من الإبداع. 

(الجمهورية)