عُمَر شَبانة: يَمْشي كنهرٍ دونَما ضِفافْ

0

(طُفولة 2)

قصائد من كتابه “يمشي كنهرٍ دونما ضفاف”

تنشر بإذن خاص من الشاعر

-1-

أذكُرُ

ذاكَ الطِفْلَ،

طُفولَتَهُ الأولى،

يَضْرِبُهُ الأولادُ كثيرًا،

يَغْرَقُ في ماءِ البِركَةِ،

يَسْقُطُ تَحتَ الدَرّاجَاتِ،

وأذكُرُهُ إذ صار فَتىً

ويَدورُ على الحاراتِ

يَبيعُ الحَلوى للأطفالِ،

ويَسْرِقُ حينَ يَجوعُ رَغيفًا،

يسْرِقُ قِطعةَ حَلوى

ويُصلّي الفَجْرَ

وراءَ الجَدِّ الدَرويشِ،

ويَحْفَظُ رُبْعَ القُرآنِ،

ولا ينْسى مَوعِدَه

في سينما الحمراءِ

على سَقفِ السَيلْ

-2-

في أيّ حَقْلٍ

كانَ ذلكَ اللقاءُ؟

تَذْكُرينَ؟

تِلْكَ لَيلَةٌ بألفِ لَيلَةٍ

كُنّا ننامُ في أحضانِ نَخْلَةٍ

تَحْرُسُنا العَتْمَةُ والشِتاءُ

تَحْمِلُنا الرِعْشَةُ طائرَينِ في مَهَبِّها

تَقْذِفُنا في شَهْقَةٍ بَعيدةٍ،

وفَجْأة .. بِبَرْقِها تَشتَعِلُ السَماءُ

ولَيسَ مِنْ تينٍ لِكَيْ

نَخْصِفَ مِنْ أوراقِهِ

نَسْقُطُ مِنْ عَليائنا

يَلُفُّنا الخُواءُ والعَراءُ

-3-

كانَ حَقْلًا غَريبَ المَلامِحِ،

في قَرْيةٍ مِثْلَ حُلْم غَريبْ

قريةٍ مِنْ سَنابلَ شَقراءَ،

لكنَّ زَيْتونَها يتَذَكَّرُ مُوسى وهارونَ،

والنَخْلَ مِنْ عَهدِ مَرْيَمَ،

كُنّا قَريبَينِ مِنْ نَهرِ عِيسى

ووادي شُعَيبٍ بِماعِزه الجَبَليّْ

وهُنا الأنبِياءُ جَميعًا

شُهودٌ عليكِ، شُهودٌ عَلَيّْ

-4-

طِفلَينِ كُنّا

في حُقول المُوزِ نَلْهُو

كنتُ أتبَعُها إلى حَقْلٍ

لِباذِنجانِ والدِها..  صَباحًا

كيْ أرى نَهْدَينِ عُصفورَين، أنظُرُ..

خلفَ فُستانِ الصَبيّةِ نَحلةٌ تَبكي،

فأصرُخُ:  يا إلَهةُ، 

يا إلَهةَ عِشْقِنا المَولودِ

في الفلَواتِ بَرِيّا ونارِيًّا

وحَنّونُ الصَباحِ نَدى الجُنونْ

تَمشي بجَرّةِ عِشْقِها الوَرْدِيّ،

أتْبَعُها لأقْطِفَ قُبْلَةَ الشَوقِ،

الإلَهَةُ سَوفَ تَرعاني، أقولُ،

أقولُ أتبعُها لتكشِفَ

عن خَفايا رُوحِها في جِسْمِها

أو عن خَفايا جِسْمِها

في رُوحَها، وجُروحِها

-5-

طِفلان في سِفْرِ الطُفولةِ

هائمانِ، يُقَلِّبان العُمْرَ،

في الوَهَجِ المُضيءْ

-6-

هِيَ طِفْلَةٌ

لاقَيتُها في ألفِ حَقْلٍ

لسْتُ أعرِفُها تَمامًا

لسْتُ أعرِفُ غيرَ

لَونِ الثَوبِ والعَينَينِ،

قامَتِها التي مِثْلَ الفَرَسْ

ولَها جَناحا طائرٍ

في الفَجْرِ يَتْبَعُها خَيالي

لاهِثًا، شَبِقًا، طُفوليّا، عَنيدًا،

لسْتُ أعْرِفُها، ولكِنّي

سأعْرِفُها لأقْطِفَ عِطْرَها

-7-

سُوريّةٌ هِيَ مِن جَنوبِ الشَامِ،

مِنْ حَيْفا، ومِن يافا، أخَمِّنُ،

والتَقَينا في حُقولِ الغُورِ،

عندَ الماءِ، في نهرِ المَسيحْ

-8-

مَن أنتِ

مِن بين الإلاهاتِ،

انتظَرتُكِ قُربَ بِئرِ الماء،

كنتُ أشُمُّ دُفْلى رُوحِكِ الأبهى،

وأسمَعُ صَوتَ أجراسِ الحِصانِ

تَرِنُّ في البُستانِ، مُعْلِنَةً قُدومَكِ،

كَيْ نسيرَ إلى البساتينِ البعيدةِ،

نقْطِفُ القُبُلاتِ عن أشجارِها

مَن أنتَ

بَينَ الآلِهةْ؟

وأنا رَكِبتُ إليكَ خَيلَ الريحِ،

طِرْتُ إلى بَساتينِ الغِوايةِ فيكَ،

طِرْتُ، طَوَيتُ أزْمِنةً وأفلاكًا،

رأيتُ على طريق الماءِ إيثاكا

رأيتُ هناكَ عوليسَ البِحارِ،

رأيتُ بينلوبي ومِغْزَلَها العَجوزَ

رأيتُ رَهْطَ الأنبياءِ يُحَدِّثونَ،

رأيتُ سُورَ القُدْسِ؛

حيثُ المَهدُ والأقصى،

وعُدْتُ إلى حُقولي

في الكَرامةِ كَيْ أراكْ

-9- 

في بحيرة لوطْ

في بساتينها

كَمْ جرى

في عذاباتِها الطِفلُ

في رَملِها المَعدَنيّ،

وكَمْ تاهَ في ليلِ تاريخِها

لِلطُفولةِ

أسرارُها ومَواعيدُها

ولروح الفتى سِحْرُها

ومَواليدُها

-10-

في بِرَكِ البَيّاراتِ

وفي أحضانِ الشَجَرِ

الغافي قُربَ نُهَيْر

يجري في بُستانْ

الأفْقُ على غير العادةْ

ثَمّةَ ريحٌ صَفراءُ هنا،

وهنا طفلٌ يلهو بالماءِ،

وثَمّة شاةٌ تشربُ،

والطِفلُ يَغوصُ،

وتَثغو الشاة كما لو تصْهَلُ،

يبتعدُ الطِفلُ قليلًا،

ويَرى شاةً تبتعدُ قليلًا،

يَلهو النهرُ قليلًا،

يَضحكُ، يغضبُ، أو يتراقصُ،

قلبُ الطفلِ يغوصُ قليلًا،

يسترخي في وَهْجِ الماءِ، ويَصعدُ،

يسمعُ صَوتَ صهيلٍ يبتعدُ

وقليلًا تهتزُّ البيّاراتُ،

فيصعدُ رأسُ الطفلِ ويهبطُ،

يهبطُ، يصعدُ، ويَعومْ

لا يسمعُ أيَّ ثُغاءٍ،

ليسَ يرى شاةً،

والشاةُ ترى دربَ البيتِ وتبكي،

والشاةُ ترى البيتَ وتبكي،

أهلُ البيتِ/ الطفل يرَون الشاة.. فيبكونْ

-11-

أقمارُ رُوحِكِ

أمْ أنوارُ عَينيكِ

وضَوءُ قَلبِكِ

أمْ نيرانُ نَهْدَيكِ

تَسوقُني كُلُّها

في مائكِ الحاني

فتَنْتَشي الأرضُ

في رُوحي ووِجداني

12

بُسْتانُكِ البِكْرُ لي

رَوضٌ وأنهارُ

وماؤكِ السِحْرُ

أنوارٌ ونَوّارُ 

-13-

ريفيّةً كانتْ

وكُنتُ أنا صَهيلَ الماءِ،

سِرْنا في الحُقولْ

قُبُلاتُها الخَضراءُ أزهارٌ لقَلبي،

رُوحُها وَهْجٌ مِن الأنوارِ في رُوحي،

أقولُ تدفّقي حُلُمًا وأقمارًا

لنَحْرُثَ أرضَنا وحياتَنا

ونكونَ رُوحَ الأرضِ،

أو وردَ الحياةْ

-14-

أسافرُ في حُقولِكِ

تشْتهينَ الغَيمَ

في جَسَدي،

أعدّي زَهْرَةَ النارِ الشَهيّةَ

يا ابنةَ الياقوتِ والشُهُبِ

أنا كَرْمٌ شقيٌّ ناضجُ العِنَبِ

-15-

في البَراري أنا

كمْ أناديكِ في الحُلمِ،

رُوحي تنادي جَمالَكِ في الغَيمِ،

لَيلي يُباغتُ نُورَكِ في أيّ حَقْلٍ،

أنا الحَقْلُ والنُور والليلُ والحُلمُ والغَيمُ،

إذْ نستريحُ على مطَرٍ في الحقولِ،

وصَدري هو النَسرُ طارَ إليكِ بأجنحة العِشق،

قَلبي هو الأجَماتُ الفسيحةُ في واحةٍ،

كُنتُ علّمتُ أجنحتي لُعْبَةَ الطيرانِ،

لِكَيْ أتعلّمَ، مِنكِ

لُغاتِ البِحارِ، لُغاتِ السَماء،

ولَغْوَ الصَحارى المُدَجَّجَ بالموتِ،

يا حَقْلَ رُوحي البَهِيَّ الأخيرْ

-16-

و.. هذي بلادي

سأعزِفُ أوتارَها، قَريةً قَريةً، 
ووراءَ التّلالِ أنادي سنابِلَها، قمحةً إثرَ سُنبُلةٍ،
وأمرّ مرورَ الفراشاتِ ترسُمُ وَرْدًا هُنا،
ومرورَ الطّيورِ تُغَرّدُ لَحْنًا هُناكْ

-17-

و.. أغنّي للزَهرةِ

كي تتفتّحَ

كي تفتَحَ أبوابَ العِطْرِ السِريّةَ

حتّى تَغسلَ رُوحي

وتُنظِّفَ قَلبي

وأغنّي لغُصون الزَيتون

وأزهار اللوز

وماء الينبوعْ

وأغنّي لِبَناتِ الجوعْ

سأغنّي كلَّ أغاني الحصّادينَ،

وللفلّاحاتِ أغنّي:

“مِنجَلي يا مِن جَلاهْ”

وأغنّي للورّاداتِ

كما غنّى جَدّي لعُيونِ الماءِ،

كما غنّى عَمّي للنَهرْ

-18-

وأراني

أدخلُ أحلامي

لأطاردَ أحلامَكِ،

فانتظِريني كيْ نَرفُل في الحُلمِ

وما بين الطين وبينَ النورِ

نُطَوِّفُ في السَهل الأبعدِ مِنّا

سَهْلٍ نزرعُ فيهِ رُؤانا

ونُعمّرُ أطلالَ قُرانا،

وتكونُ لنا قبل الطينِ

إلَهَتُنا بنتُ “فَلَسـْ…”

نَخلتُنا الأولى،

ونُسمّيها عَشتارَ، لتَمشي،

ونُعلّمُها أسماءَ “فَلَسْطينْ”

ونُعلّمُها أسرارَ الجَدّة سوريّةَ،

مِن إيبلا حتّى زنّوبيا،

ومِن الشامِ إلى بَغدادَ وحَيفا،

نكتُبُ أسرارَ الفلسفةِ الأولى

مِن أفلاطونَ، أرسطو، حتّى أفلوطينْ

وسنحكي تاريخَ الآلهةِ الأولى،

مِن أدوني حتّى قايينْ

-19-

مائي يُنادي حَقلَكِ،

الأزهارُ تأخُذُني إليكِ،

كأنّكِ الأمواجُ تخلعُ ثَوبَها

وتجيءُ في عُرْسِ الربيعْ

-20-

ها أنتَ ذا طِفْلٌ

بألفِ زَهْرَةٍ

على يَدَيكَ الطِفْلَتَينْ

وألفِ ألفِ نَجْمَةٍ

تُشْعِلُ نُورَ العَينْ

يا طِفْلِيَ

المنذورَ لِلمُغامَرةْ

طِفْلِي الذي ضَيَّعَهُ

جُنونُ أهْلِهِ وقَومِهِ

وعذّبوهُ ألفَ ليلةٍ وليلةٍ

في نِصْفِ لَيلِ الدائرةْ 

-21-

في الفَجْرِ جاءتْ بيْ إلَيّْ
ومَعَ النّدى شاهَدْتُ ألفَ قَصيدةٍ، 
تَمْشي وتَحْمِلُنـي لِكَيْ نَمْشي مَعًا، 
نَمْشي إلى جبَلٍ من الأزهـارِ.. يَمْشــيْ

-22-

خَضراءُ في

زمَن الصَحارَى

خَضراءُ أنتِ يتيمَةٌ

في حُفْرَةِ الزَمَنِ .. الغُبارِ

ووَحْدَكِ الحُريّةُ الخَضراءُ

في زَمَنِ العَبيدِ

يُطِلُّ من لَيلِ الجَواري

خَضْراءُ ليلَةُ حُبِّنا

في أخْضَرِ النَعْناعِ،

في بُستانِ جَدّيْ

قُرْبَ نَهْرٍ في “الكَرامَةْ”

النَهْرُ كانَ طُفولَةً

تَجْريْ مع الأشْبالِ

تَسْقي النَخْلَ والصُبّارَ

تَسْقينا حِكاياتِ القِيامَةْ

هذي حِكاياتٌ/  قِياماتٌ

مِنَ النَهرِ المُقَدَّسِ

بَيتُها الأغوارُ

مُنْذُ صَليبِ عِيسى

حتّى الفِدائيّين في الوِدْيانْ

………………

خَضْراءُ أنتِ،

وكُلُّ الأرْضِ صَحْراءُ

………….

خَضْراءُ أنتِ،

وأنتِ في صَحرائنا..

الماءُ، الحَدائقُ، والقَمَرْ 

…………

خَضْراءُ أنتِ

كَحَفْلِ مُوسيقا

كبَيتٍ مِن فَرَحْ

…………..

خَضراءُ ثورتُنا

حُقولٌ مِنْ نَدى

خَضراءُ مِنْ وَجَعٍ

ومُوسيقا و..  شامْ

خَضْراءُ

مِثْلَ غَمامَةٍ

فوقَ الحُقــولْ

-23-

مَطَرٌ سَيَهطِلُ

مِنْ جَنوبِ الأرْضِ،

أرْضِ الشامِ،

مِنْ بَلَدِ اليَتامَى

 …………..

صَحْراءُ نَحْنُ

فَلا ماءٌ ولا شَجَرُ

رَمْلٌ ونَفْطٌ وليلٌ عافَهُ القَدَرُ

………….

صَحْراءُ نَحْنُ

وَوَحْدكِ الخَضْراءُ

يا جنّةً

ركَعتْ لَها الأعداءُ

…………..

صَحْراءُ نَحْنُ

وَوَحْدكِ البُسْتانُ

عَيناكِ بَحرٌ،

ما لَه شطآنُ

………….

صَحْراءُ نحنُ

وماؤنا صَحراءُ

ودِماؤنا، ماءً غَدَتْ

في عالَمٍ يَغْتالهُ الجُبَناءُ 

…………..

لا ماءَ في أمْطارِنا

لا ضَوءَ في أقْمارنا

لا حُبَّ في أشْعارِنا

وسَماؤنا سوداءُ أوْ بَلهاءُ

…………

خَضْراءُ أنتِ

كأنَ صَوتَكِ زعْتَرٌ أو نَعنَعُ

هلْ أنتِ هذا النُورُ يَسْطَعُ

في الذُبولِ، وفي الهَباءِ،

وفي ظَلامٍ، مِن ظَلامٍ، يَطْلَعُ؟

-24-

كالطَيرِ نحنُ

سَماؤنا أسماؤنا

والحُبُّ يخلقُ غيمَها

والغيمُ يركضُ في معارجِها

كخَيلٍ مِنْ ورَقْ

…………..

كالطَيرِ نحنُ

سَماؤنا أسماؤنا

لِسَمائنا أسماؤها

الأسماءُ غامضةٌ وناقصةٌ

وتَرفُلُ بالشَقاءِ وبالمَطَرْ

…………….

كُنّا رَبيعيّينِ

والأنوارُ تَغْمُرُنا

فَمِنْ أينَ الظَلامْ ؟

مِنْ أينَ جاءَ لنا خَريفُ الدمْ؟

-25-

سأكونُ أنتِ

أكونُ حَقْلَكِ

نُورَكِ الأسمَى

وقد لا أشتهيكِ

وأشتهي الأخطاءَ في عينيكِ

عَيناكِ البِداياتُ الوحيدةْ

……………..

ها أنتِ

ها أنا ذا

كأبهى عاشِقَينْ

-26-

سأبوحُ بالذكرى

بألوان الطُفولةْ

وأبوحُ بالصُورِ الخَجولةْ

وأشُقُّ قلبي

مثلَ نَهر في الحُقولْ

سأشُقُّ قُمصانَ الهَباءِ،

لكَيْ أرى رُوحي الغَريبةَ

مثلَ نجمٍ في التُرابْ

رُوحي التي في نُورها أمشي

يُراودُني ويخدعُني الأفولْ

………….

رُوحي تئنُّ

تَجوحُ، تصرُخ

تائهًا أمشي وراء صُراخِها

قد كانَ لي امرأةٌ

وألقَتْني إلى ذئبِ السَرابْ

مَن كانت امرأتي

وما دُنيايَ في هذا اليبابْ؟

كيفَ امّحتْ رُوحي

وجفّتْ،

كيفَ داهمَها الغيابْ؟

جيشٌ من الغِربانِ

في رأسي

وجيشٌ مِن مُلوكِ الجِنّ

أسلَمَني إلى الزِلزالِ،

أسْلَمَني، وغابْ

……………

كنّا معًا

في رحلةٍ للحُبِّ،

في بيتٍ مِن الأزهارِ،

بيتٍ كُلُّه ليلٌ،

وليلٌ دونَ أسوارٍ،

ولا نارٍ لتَهديَنا

إلى أرواحِنا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here