عن التفاؤل والتشاؤم: من ملك الحيرة إلى كانديد ثمّ هابرماس

0

موفق نيربية، كاتب وباحث ومعتقل سياسي سابق

مجلة أوراق العدد 13

الدراسات

من الطبيعي أن يبدو المتفائل أقلّ فطنةً من المتشائم، أو أن الثاني أقلّ حماقةً من الأول. يظهر الأمر جلياً على الأخصّ عند تثبيط همم المقدمين على أمر والمنخرطين فيه بحماسة واندماج قد يكون ذاهلاً عمّا حوله أحياناً. في العقد الأخير انتعشت هذه الظاهرة كثيراً، وازدادت حدّتها وتباعد طرفيها إلى حدٍّ مزعج. هنالك بين السوريين من يتفاءل بقرب انتصار ثورتهم وسقوط نظام الطاغية، وهنالك مَن يتشاءم ويقول إن ذلك قد انقطع وأصبح حلماً بعيد المنال.. على الأقلّ، يمكن ملاحظة تنامي عدد مَن يقولون “ألم أقل لكم؟!”؛ ليظهر “البوم” في النتيجة أكثر المخلوقات حكمة ومعرفة.

لنبحر قليلاً في التشاؤم والتفاؤل إذن، ليس بعيداً عن الشاطئ، في المنطقة ما بين الهزل والجد…

فأجدادنا كانوا أيضاً مهتمّين بهذه المسألة كغيرهم من الأعراق، التي تتقارب تواريخها في هذا الخصوص وتتشابه في الأعمّ الأغلب. وكانت قصة النحس والفأل لدى المنذر بن ماء السماء- ملك الحيرة- من أوائل القصص التي ترددت في أسماعنا منذ الصغر. تتلخص تلك القصة في أن ذلك الملك- على قياسات الصحراء- قد قام بقطع رأسي صديقيه العزيزين بعد أن لعبت الخمرة برؤوسهم جميعاً في إحدى الليالي، فدفنهما في اليوم التالي، وبنى لهما قبرين فاخرين أسماهما بالغريّين. جعل لنفسه بعد ذلك يومين في العام، أحدهما للنحس وثانيهما للسعد، في أولهما يقتل أول من يظهر عليه من الصحراء ثمّ “يُغرّي” بدمه القبرين، وفي ثانيهما يجزي ويكرم أول من يخرج عليه.

كان هنالك يومذاك التطيّر، والاستقسام بالأزلام، ثمّ جاءت الاستخارة في الإسلام لتحلّ مكانهما. ولدى الشعوب الأخرى كان شيء من ذلك عبر التاريخ مختلف في بعض التفاصيل، ومتفق في معظمها. أمّا في عصر التنوير، فقد جاء عصر العقل، وأثار حماسة للتشاؤم أحياناً وللتفاؤل في أحيان أخرى. ولعلّ رواية “كانديد” للفرنسي فولتير مثال كبير الأهمية في دلالاته، وهو الكاتب التنويري الكبير في القرن الثامن عشر، قبل الثورة الفرنسية العظمى.

في ذلك الكتاب، تورية مواربة- قليلاً- للصراع ما بين التفاؤل والتشاؤم، يفضح فيه فولتير، بسخرية لاذعة معروفة عنه مبدأ التفاؤل ويمسح به الأرض. وكان ليبنتز قد وضع المبدأ الذي يقول: “إن كلّ شيء على أحسن ما يمكن، ولا يمكن أن يكون هنالك ما هو أحسن من واقع الحال”.. يناقش فولتير الموضوع من خلال بطله كانديد- صريح، مخلص- الذي كان خادماً طيّب القلب لأمير في شمال غرب ألمانيا، له بعض المكانة عند سيده، حتى غضب عليه لعشقه ابنته وتقرّبه منها، فطرده شرّ طردة من ملكوته.  وفي ترحاله يبدأ برؤية الحروب والموت والشقاء، ويلتقي فيما بعد بشخص يعرفه اسمه   “بانغلوس”، كان يعمل لدى السيد نفسه قبل تغيّر حظه أيضاً، وهو الذي يجسّد التفاؤل ويفلسفه، ليؤكّد دوماً أن لكلّ معلول علة، ولذلك كلّ شيء يكون على أحسن ما يمكن على رأي ليبتز المذكور. ويثابر بانغلوس في الكتاب على مناقشة كلّ من يستعرض أمامه دور الإرادة والاختيار فيما يحدث من مصائب وكوارث، قائلاً إن “جميع ذلك كان ضرورياً، لأنه من المصائب الخاصة ينشأ الخير العام، وإن شئت فقل إنه كلّما زادت المصائب الخاصة تحسّن كلّ شيء”… هنالك شخصية ثانية في الرواية تمثّل التشاؤم اسمها مارتن، لا ضرورة للحديث عنها هنا لأنها ثانوية أساساً لدى فولتير بمقدار احترامه لتفوّق التشاؤم، وهو الذي كان يعاني مثل كانديد من حياة صعبة وتشرّد مديد وسجن أو تهديد بسجن، وفي ذلك ربّما ما يفسّر بعض تشاؤمه!

ولنتقدّم اختصاراً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وننظر في هابرماس، الذي رفض مؤخراً جائزة مجزية تمنحها دولة الإمارات للفائزين بها، مستنداً إلى سجلّ حقوق الإنسان في ذلك البلد. وحصل إثرها على الكثير من المديح والتقريظ، مع أن له سجلاًّ فكرياً ملتبساً، يختلف حوله الآخرون، بمن فيهم زملاؤه في مدرسة فرانكفورت، التي التزم مفكروها بالنظرية النقدية، وتراوحت درجة مفارقتهم للماركسية بين واحد وآخر.. المقصود في هذه المقالة هو علاقة هابرماس بالتفاؤل والتشاؤم وحسب… مع أن رفضه للجائزة كان ليغري بالتوقف عنده أيضاً.

 يرتبط مفهوم التفاؤل لدى هابرماس بمفهوم الحداثة، ويرتبط التشاؤم لدى المتفائلين بمفهوم ما بعد الحداثة، بشكلّ من الأشكال. هنا قد يتّضح سبب ما ينال الحداثة والتفاؤل معاً من اتهامات بالقصور والبساطة أو السطحية، بالمقارنة مع تعقيدات أكثر معاصرة لما بعد الحداثة والتشاؤم معاً.

لعلّ من المناسب تقديم تعريف بسيط لكلٍّ من التفاؤل والتشاؤم، وكذلك للحداثة وما بعدها، بالإذن من الذين يعرفون ذلك بالطبع. فالتفاؤل حالة ذهنية يشعر فيها الفرد بالأمل فيما يخصّ شيئاً أو أمراً أو شخصاً. والتشاؤم عكس ذلك، من خلال الشعور باليأس.

 في حين أن مفهوم الحداثة أكثر هشاشة من أن يُعرَّف، ولكنه تميز بقطع عميق مع التقاليد، يتضمّن ردَّ فعل قوي أمام الآراء الدينية والسياسية والاجتماعية الراسخة في المجتمعات البشرية، بما في ذلك من تاريخ ومؤسسات. وتحتفي الحداثة بالبطولة والقوة والالتزام الجمعي، لكنها تركّز أيضاً على فوضوية الحياة قبلها، وتتضمّن اعتباراً أيضاً للعقل الباطن وعلم النفس. فيها تأسيس على رؤية طوباوية للإنسان والمجتمع، وإيمان راسخ بالتقدّم إلى الأمام. لكن أعداءها يركزّون على تقديمها أيضاً كأساس لتبرير النازية والفاشية والشيوعية، والشمولية عموماً.

أمّا “ما بعد الحداثة”، التي ظهرت في أواخر القرن العشرين أو نصفه الثاني، فتتميز خصوصاً بفلسفة الشك إضافة إلى الذاتية أو النسبية، مع حساسية شديدة لدور الأيديولوجيا في الحفاظ على السلطة السياسية والاقتصادية واستدامتها. كما أنها تميل إلى التركيز على رفض الظواهر الاجتماعية الناشئة أو المتطورة في المجتمعات الرأسمالية الغربية. كما تترابط في فضائها من وجهة نظر علم الاجتماع مع الفضاء الماركسي بتركيزه أيضاً على بنية الرأسمالية وعيوبها.

بالإذن من أهل الاختصاص، تمثّل الحداثة عند هابرماس فترة تاريخية ينشأ فيها العقل والفعل التواصلي نتيجة لغياب النظام عن العالم. الحداثة حاملة لمشروع التنوير، تتضمّن توسّعاً في ثقافة سياسية ونظام تكون فيه الديمقراطية والتحرر والحرية فضائل نقدية. في الأساس، يمكن قياس تقدم الحداثة مادياً من خلال قدرتها على توفير الديمقراطية والتحرر والحرية لجميع الأفراد. بالمقابل، يكون الانحطاط هو فشل الحداثة في تأمين الديموقراطية والتحرر والحرية لجميع الأفراد، مع سماحٍ للاغتراب والهيمنة وأنواع “الشذوذ” الأخرى بالتقدم والتعميم. يتعلقّ الأمر هنا بالقيم التي حملتها فلسفة التنوير- والحداثة ابنتها- ومكتسبات الإنسانية منذ أواخر القرن التاسع عشر خصوصاً. وواضح هنا أساس عداوة جماعة ما بعد الحداثة لفلسفة الحداثة انطلاقاً من “رجعيّتها” المستجدة، ولكونها هدفاً سهلاً للنقد مع تعقيد ظواهر جديدة من التقدّم والعولمة، إضافة إلى” طوباويّتها” واعتمادها على الجمعي خصوصاً.

يظلّ يورغن هابرماس بلا شك واحداً من أبرز المفكرين الاجتماعيين المعاصرين، وما زال يُحتفى به حتى الان وهو قد زاد عمراً عن التسعين. ارتبط اسمه بمدرسة فرانكفورت، مع أنه اختلف مع معظم نجومها الأقرب إلى الخصومة مع مفهوم الحداثة، إلّا أنه بعد مفارقة لمركز المدرسة ونشاطها لفترة في الخمسينات عاد إليها في الستينات وأدار عملها. إضافة إلى رفض الكثيرين لفكرة كون نتاج هابرماس مؤسساً على النظرية النقدية، يرفض بعضهم أيضاً ما يرونه من ابتعاد منعكس في أعماله عن الماركسية أيضاً. وفي ذلك كلّه، كان التفاؤل المرتبط بفلسفة الحداثة علامة على فكر هابرماس ودراساته، خصوصاً بعد تحرره نسبياً من تلك السوداوية المتعلقة بظهور النازية وآثارها المدمّرة، وقبل ظهور التعقيدات الحديثة التالية لدخول ظاهرة العولمة على الخط، وكذلك الإرهاب ومفهوم “مكافحته” الذي أخذ يضغط على العالم منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويقلّل- نسبياً وحسب- من تفاؤله. في حين كانت أفكار التشاؤم والشكّ والذاتية ووقائع العالم الحديث وأخباره سلاحاً لمخالفيه في الرأي، الأكثر “ذكاءً”.

وبتقريب الأمر وتقليبه محلياً، يبدو أننا نستطيع رؤية الحداثة والتفاؤل و”البساطة” لدى كثير من الثوّار السوريين الحريصين على تحقيق النصر يوم ثاروا، من دون أن نغفل عن وجود “ما بعد الحداثة” والتشاؤم أو الشك عند عدد ملحوظ أيضاً من الثوار، الذين كانت الثورة بذاتها محطّ اهتمامهم من دون تركيز وأهمية كبيرة لعملية تحقيق النجاح أو النصر.. ربّما هكذا، من دون تأكيد. يمكن أيضاً ربط الأمر بالفلسفة السياسية، ومدى وجود السياسة في صفوف السوريين بين الثوار والمعارضين… لأن التفاؤل مفروغ منه لدى من يتملّك الوعي والبرنامج السياسي، في حين أن التشاؤم والشك والذاتيّة أقوى وأكثر استحكاماً عند غيره.. وربّما يظهر لذلك بعض “الغباء” على محترف السياسة، وبعض “الذكاء” على من ينبذ السياسة أو تنبذه بعيداً عنها.

وببساطة مرة أخيرة: يمكن للمتفائل أن يفقد بعضاً من رؤيته، أو لا يغطّي ببصره كلّ الواقع ومظاهره أمامه؛ كما يمكن للمتشائم أن يتملكه الإحباط ويقعد بهمته عن النشاط والفعل. أو- بطريقة أخرى- يمكن للتشاؤم أن يحسّن من قدرتنا النقدية على تقليب الأمور وصياغة رؤيتنا، وللتفاؤل أن يحسّن من مزاجنا وقدرتنا على التغيير وحشد القوى أثناء العمل لتحقيقه.

وكما قيل “ليس عليك أن ترى كلّ شيءٍ من خلال منظار ورديّ (في الواقع، هذا سيئ!)، ولكن تجنَّب اتخاذ الموقف المتشائم حين تظهر الوقائع السلبية سائدة وطاغية ودائمة لا يمكن التحكم بها”.. وحاول أن تراها كوقائع “محلية” و”مؤقتة” و”يمكن تغييرها”.

في “مبدأ بوليانا” الذي يؤكد ميل الإنسان الفطري إلى النظر إلى الأشياء بإيجابية، أنها كانت طفلة تنظر دائماً إلى الجانب المشرق، حتى لو اشتمل على واحد أو أكثر من أبواب التعاسة والشقاء، ولا تتذكر إلا الأشياء السعيدة، وتعتقد أن العالم وساكنيه على أروع ما يمكن أن يكون. في حين تقول ظاهرة “تأثير بيغماليون” في علم النفس إن الآمال الكبيرة حافز ممتاز للعمل الدؤوب والناجح. 

وفي النهاية، لا يخفف التشاؤم من سوء الأخبار السيئة، ولا يزيد التفاؤل من حُسن الأخبار الجيدة!