ناديا خلوف
محامية وكاتبة روائية وقصصية وإعلامية، ومترجمة عن الإنكليزية والسويدية، مقيمة في السويد.
أوراق 11
أوراق المقالات
نحلم جميعاً أن يكون لدينا عائلة، ومكان للدفء والرحة والاستقرار والأمان، هو المكان الذي نشعر فيه أنفسنا أحراراً لو كانت الحياة تسير بشكل طبيعي، ربما لا تسير الحياة على النّحو الذي نرغب به أحياناً، ويكون شريكنا لديه قوة غير متكافئة مع قوتنا فيؤكد سيطرته على طريقة عيشنا، نعيش في ظل الإساءة الدّائمة، تصبح أحد طقوسنا اليومية. يمكن أن تكون الإساءة من الرجل، أو المرأة حسب قوة الشخص الاقتصادية، وهي بشكل عام تكون من قبل الرّجل، لكنّ الضحايا هم أكثر من شخص، ومن حيث المبدأ فإن الإساءة تؤثر على الأطفال أيضاً، لكن أكثر حالات الإساءة من الزوج لزوجته، وربما من الأخ الأكبر أحياناً.
الوضع ليس واضحاً على الدّوام. الخوف من الانتقام من الشريك المسيء قد يمنع الضحايا من طلب المساعدة المطلوبة. يمكن أن يؤدي هذا النقص في الدعم العاطفي إلى زيادة الخوف والقلق والاكتئاب والغضب والإجهاد، وبالتالي الرضوخ والانسحاب الاجتماعي، هذه الجراح النفسية والعاطفية للعنف المنزلي مدمرة، يمكن أن تُطارد الضحايا لسنوات عديدة، وتسلبهم القدرة على عيش حياة كاملة، فيما لا يمكن الكشف عن هذه الجروح، وغالبًا ما لا يتم علاجها، فيكون للعنف المنزلي تأثير مضاعف يمزق نسيج حياة الضحية، يمكن أن تستمر الآثار النفسية والعاطفية والاجتماعية للعنف المنزلي لفترة طويلة بعد انحسار العنف، وحتى بعد أن تترك الضحية الشريك الذي يسيء معاملتها.
أغلبنا مرّ بأشخاص متنمرّين سواء داخل الأسرة، أو من الشريك، واختبر مدى عمق الإيذاء، عندما يتحول الإنسان إلى لاجئ في بيته، يسأل نفسه: لماذا يتمّ معاملتي بتلك الطريقة؟ هل لدي خلل عقلي؟
لدي نماذج كثيرة لجأت لي، عندما كنت أمارس مهنة المحاماة، بعد أن تخلى عنها الشّريك للمطالبة بحق مالي ولو بسيط، سوف أورد مثالاً واحداً: المهندسة سوسن.
سوسن ليس اسمها الحقيقي، لكنّ إفشاء السّر قد يعيد ألمها، وربما لم ينته الألم أصلاً، لذا فضّلت أن أعطيها اسماً مستعاراً.
تزوجت سوسن في سن الخامسة والعشرين، أي بعد تخرّجها من الجامعة مباشرة، وكانت قد استلمت عملها كموظفة، كان مرتب المهندس قبل عشرين عاماً يكفي للحد الأدنى للمعيشة. اعتقدت أن من وعدها بالحبّ سوف يفي بوعده، حاولت أن تتعامل برومانسية مع فارس أحلامها، حيث تودّعه بقبلة في الصباح، وتستقبله بحفاوة، لكنّه كان ينفر منها منذ اليوم الأوّل من الزواج، على حد قولها، لدرجة أصبحت تفكر: هل تزوجها من أجل دخلها المادي؟ وكانت الإجابة فقط حين تخلى عنها: نعم.
عندما يكون الإنسان ضحية لا يتعاطف معه الناس، حتى أمّها لم تتعاطف معها عندما تركها زوجها بعد أن سرق شبابها ومالها، أتت إلى مكتبي، وقد لفت رأسها بشال أبيض، كانت تمسح به دموعها.
بدا عليها الاضطراب النّفسي، لكن عندما بدأت تتحدّث عن الواقع الذي عاشته استغربت كيف استطاعت أن تصبر لخمسة عشر عاماً، تقول سوسن: عندما كان يعود عابساً في المساء أحاول أن أختفي من أمام وجهه كي أتفادى الصّدام، لكن لا مفرّ، كنت أستعد لتلقي الإهانة كي ينتهي الفصل اليومي. عندما كان عمر ابني شهر واحد اعتقدت أنّه قد ينتحر، كنت قد طلبت منه أن نتصور صورة مع ابننا، فصرخ دون سبب، قال أنّه سوف ينتحر، ركض في الشارع، ركضت خلفه بعد منتصف الليل وهو يصرخ: أنا مجنون. خفت عليه وركضت خلفه لأعيده، وكان ابني في حضني، عرفت لاحقاً أن السبب بسيط كي لا يدفع ثمن الصورة.
بعد أن أنجبت ابني الثاني أصبح الوضع أصعب، حيث أحتاج إلى الحليب والحفاضات، وأشياء أخرى، لكنه لا يعطيني مرتبي لأتصرف به، ولا يجلب حاجات الطفل، ولا حتى طعام الغداء. قرّرت ن أحصل على مرتبي، وألغي الوكالة التي أعطيته إياها، كانت معركة كبيرة، شققت خلالها ثيابي، وخرجت عارية إلى الشّارع، قلت له سوف أفضحك، فابتسم، وقال لي: يا لك من غبية! أنا أتفاءل بك، وأنا مقصر معك، أعدك أن أعمل على نفسي، عليك أن تتحمليني لأنّني عصبي. وضع على الطاولة خمسمئة ليرة سورية، وقال: سوف أدفع أكثر من مرتبك، تصرفي بخمسمئة في كل يوم، في اليوم التالي وضع ثلاثمئة، ثم خمسين، ثم امتنع عن الدّفع.
عندما كنت أطالب بحق الأطفال، كان يقول لي: اهتمي بنفسك، فللأولاد حياتهم، في كل مرّة أتعرّض للإيذاء، يأتي في آخر المساء ويعتذر منّي، وكأنه رسم خطة للتلاعب بي، كنت أعلّم الرياضيات في منازل الطلاب، دون أن أعلمه في غيابه كي أصرف على نفسي أقل القليل، كانت الحياة جحيماً، لم أجد البديل عنها، مع أنّ موضوع الأولاد لا يعنيه، لكن لا بد أن يعلن انتصاره ويأخذهم لو فكرت بالرحيل، يأخذهم ويرميهم عند والدته مثلاً.
إلى أين أرحل؟ فعائلتي لا تحترم المرأة، ولو قبلوني على مضض سوف أتخلى عن أولادي، نعم فقدت الحيلة فصمتّ إلى الأبد، لم أعد أطالبه بشيء، فكرت بالانتحار، أجلت الموضوع إلى أن يكبر أولادي، ثم سرّحت من عملي، طلب مني البحث عن عمل آخر لأنّه ليس لديه دخل، كان يصرف كل ما يحصل عليه على الطعام في المطاعم مع شاب أو فتاة ليس لديه فرق فقد كان مهندساً أيضاً، عندما سرحت من عملي كنت قاربت على الأربعين، فقال لي أنه نادم لأنه أنجب أولاده منّي لأنني مختلّة، غادر المنزل إلى منزل والدته، سطلوا اتهاماتهم ضدي على الفيس بوك، بعدها أرسل رسالة قال فيها: أنا سعيد جداً اليوم، لقد تخلّصت من طاقتك السلبية، ومن جنونك، وسوف أتزوج بمن تليق بي، غادر بهدوء، وكان قد أنهى أمره مع امرأة لديها دخل مقبول، ووراثة، و أنا اليوم لا أدري إن كنت سوف أطعم أولادي أم لا؟
خبرتني سوسن فيما بعد أنها لجأت إلى أحد شيوخ القبائل، وتعيش عندهم مقابل طعامها هي وأولادها، تعمل، تدّرس أولادهم، قالت لي أشعر أنني حشرة.
في عام 2015، قالت لي: وصلت أنا وأولادي إلى ألمانيا.
سألتها: من أين جلبت ثمن التهريب.
أجابت: كان قراري أن أصل اليونان، وأمارس الدّعارة كونها أشرف الأعمال التي عملت بها، وصلت لليونان، لم أمارس الدعارة بل عشت مع المهرّب فقط، فهرّب أصغر أولادي، ومن ثم عمل لنا لمّ شمل.
سألتها منذ أيام: هل أنت نادمة لأنك مارست الجنس دون عقد شرعي، أجابت:
بالعكس تماماً، كنت أنوي الرحيل بأيّ ثمن، وكان ثمناً ضئيلاً بالنسبة للأثمان التي دفعتها، لقد أنقذ المهرّب حياتنا، رغم أن قيم المهربين ليست كقيمنا لكنهم بالتأكيد أفضل من زوجي، ثم أردفت: نسيت أنني مارست الجنس مع المهرّب، لكنّني لن أغفر لنفسي عدم احترامي لها، كان عليّ أن لا أقبل بالذّل مهما كانت النتيجة، اليوم أعيش في الغرب، لكنّ الماضي ينخر في جسدي وروحي.
لدي عشرات القصص، جميعها مؤلمة، وهي حالات قد تكون في بعض الأحيان طبق الأصل، وغالباً ما تكون هذه الأنواع من السلوكيات القسرية والسيطرة موجودة في حالات العنف المنزلي، ويمكن أن يكون لها تأثير عميق على كيفية قدرة ضحية الإساءة على العمل اجتماعياً، حتى بعد ترك علاقة مسيئة، إذا كان الفرد معتمداً مالياً على شريكه المسيء، فإن أي قرار للهروب من الإساءة يحمل معه إمكانية حقيقية للتشرد.
يحدث العنف المنزلي بين الناس من أي طبقة اجتماعية وأي عرق أو دين أو توجه جنسي، وجميع الفئات العمرية، هناك عوامل ثقافية ودينية تميل إلى التعامل مع هذه القضايا بشكل خاص، هناك العديد من الضحايا الذين يشعرون أن الإبلاغ عن مثل هذه الجريمة لن يؤدي إلا إلى المزيد من الأذى الشخصي، هناك العديد من الأسباب الأخرى لعدم الإبلاغ عن العنف المنزلي، ولكن البعض منها: الإحراج، والاقتصاد، والتشعبات القانونية، والتهديدات تجاه الأطفال، والمعتقدات الدينية، بصرف النظر عن كل هذه الحواجز، تشير التقارير إلى أن ضحايا الضرب هم من النساء بشكل غير متناسب، في كل عام، ذكرت ما يقرب من مليون امرأة تعرضهن للضحية من قبل المقربين.
يعتبر العنف المنزلي قضية ذات اهتمام عالمي، وتتميز بتاريخ حديث من التغيير الاجتماعي السريع في السياسة والممارسات المؤسسية، في بعض البلدان، يتفق معظم الباحثين وصانعي السياسات الآن على أن المشكلة العالمية هي في الأساس مشكلة عنف الرجال ضد النساء في العلاقات الحميمة، للعنف المنزلي ضد المرأة تاريخ طويل ومخزٍ، وتشير الدراسات الحديثة إلى أن ربع النساء على الأقل اللائي يعشن في علاقة زوجية أو شبيهة بالزواج قد تعرضن للعنف المنزلي، وتشير أدلة إضافية إلى أن الاعتداء الجنسي يمثل جانباً مهماً من هذا العنف، في جميع أنحاء العالم، من المرجح جدًا أن تكون النساء اللواتي يُقتلن في جرائم القتل قد قُتلن على يد شريك حميم أو شريك سابق.
تُظهر الأبحاث أن عنف الرجال يرتبط دائماً بأعمال ترهيب وسيطرة أخرى، لعنف الرجال عواقب مهمة على النساء اللائي يسيئون إليهن: تشير الدراسات إلى أن الإصابات الجسدية غالبًا ما تكون شديدة وأحيانًا دائمة، وقد تعاني النساء أيضاً من مشاكل صحية وعاطفية مستمرة، وتُشير الدلائل في مجموعة متنوعة من البلدان إلى أن النساء يجدن صعوبة كبيرة في ترك علاقة عنيفة بسبب التهديدات بمزيد من العنف، ونقص الدعم الاقتصادي والاجتماعي.
الإهانات والتهديدات والاعتداء العاطفي والإكراه الجنسي تشكل جميعها عنفاً منزلياً ليس من السهل تحديد المعتدين، حيث أن أغلبهم يمكن أن يبدو عليه الذّكاء، يكونون جديرين بالثقة وساحرين بشخصيتهم التي تجتذب الناس إليها، لكن في السّر يمثلون كابوساً، يتعلم الكثير من المعتدين العنف من أسرهم ويكررون الأنماط السامة مع شريكهم أو أطفالهم.
غالباً ما يعزل المعتدون ضحاياهم عن العائلة والأصدقاء والعمل وأي مصادر خارجية أخرى للدعم، قد يكون لديهم طباع متفجرة ويصبحون عنيفين أثناء نوبة مسيئة، بعد ذلك، يصبحون نادمين ويحاولون استمالة شريكهم بالسحر والمودة والوعود بالتغيير، لكن السلوك المسيء نادراً ما يتوقف.
العلاقات المسيئة تتمحور حول السيطرة والسلطة، وتتضمن التكتيكات الشائعة التي يستخدمها الجناة:
-نمط من العنف – حلقات تتخللها الاعتذارات والهدايا والوعود بالتوقف.
-عزل الضحية عن الأصدقاء أو العائلة أو الهوايات أو حتى وظيفتهم.
-بث الذنب في الضحية بسبب سلوكها أو الرغبة في مزيد من الحرية.
العنف المنزلي هو السبب الأكثر شيوعًا لإصابة النساء، مما يؤدي إلى إصابات أكثر من حوادث السيارات، يمكن أن تكون العواقب الجسدية قصيرة المدى، مثل الكدمات، والألم، وكسر العظام، أو طويلة المدى، مثل التهاب المفاصل، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والأوعية الدموية، وتشمل العواقب النفسية الدائمة الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
يعتبر ترك علاقة مسيئة تحدياً عاطفياً وعملياً، تتضمن العملية الاعتراف بالإساءة التي تحدث، وإيجاد الدعم للمغادرة بأمان، ومعالجة التجربة وما تبقى من الألم أو الخوف.
عندما تفقد الأسرة الأمان يتحول المنزل إلى سجن أو معتقل.