تسعى الكاتبة الصحافية والباحثة المصرية، سهير عبد الحميد، في كتابها “سلسال الباشا: الأسرار المخفية لأمراء وأميرات الأسرة العلوية” (الرواق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2023) إلى تقديم سيرة موضوعية لأبرز أمراء وأميرات الأسرة العلوية (نسبة إلى أسرة محمد علي)، وفق ما أوردته وقائع تاريخية، وبالاعتماد على العديد من الوثائق والمراجع والمصادر التاريخية، إضافة إلى مقابلات شخصية أجرتها الباحثة مع أفراد ينحدرون من تلك العائلة.
لا تخفي المؤلفة أن هدفها من الكتاب، هو الرد على التشويه، الذي تعرّض له تاريخ العائلة وسير أبنائها، منذ انتهاء حكمها في مصر فعليًا، بإقصاء الملك فاروق، وتوّلية وليّ عهده أحمد فؤاد في 26 تموز/ يوليو 1952، وشكليًا بالإعلان عن انتهاء العهد الملكي، وقيام الحكم الجمهوري في 18 حزيران/ يونيو 1953، حيث انتقص بعضهم من دور محمد علي باشا في تحديث مصر، ونسبوه إلى الحملة البونابرتية (نسبة إلى نابليون بونابرت) الفرنسية، وانتشرت شائعات بأن الخديوي، محمد سعيد، منح الفرنسي، فرديناند دي ليسبس، امتياز حفر قناة السويس على طبق معكرونة، وأن فاروق كان زير نساء. أما أمراء الأسرة العلوية فقد جرى تصويرهم على أنهم عاطلون بالوراثة، يرتادون ساحات سباق الخيل نهارًا، وصالات القمار ليلًا، والأميرات مدللات تافهات، لم يعرفن إلا حياة القصور، وملمس الحرير ومذاق التبغ ورائحة العطور، وأسهمت الدراما المصرية في إعطاء صور سلبية عن معظم الأمراء والأميرات.
إذًا، تريد المؤلفة إعادة كتابة تاريخ عائلة محمد علي، من خلال تسليط الضوء على سيرة حوالي 60 فردًا منها، ولم تركز على الحكام منها، مثلما ذهبت الدراسات التي تناولتها، بل على ما قام به أمراء وأميرات الأسرة، وإيراد تفاصيل عن محطات في حياتهم، وذكر ما شابها من دراما تفوق الخيال أحيانًا، وتفاصيل إنسانية يستوجب الوقوف عندها والغوص فيها. ولعل أهمية الكتاب تنبع من اعتماد المؤلفة على منهج محدد في الكتابة التاريخية، يتناول الجوانب المنسية في تاريخ العائلة، وتاريخ مصر، والكشف عن المغيّب والمهمّش والمقصي من الكتابات الرسمية والمتداولة، وبالتالي تعريف أجيال من المصريين، وسواهم من الذين لا يعرفون تاريخ تلك الفترة، التي عرفت أحداثًا هامة، وعبر تناول التاريخ بأسلوب أقرب إلى الرواية.
تبدأ سيرة أفراد عائلة محمد علي من سيرة الأميرة، أمينة هانم، بنت علي باشا، زوجة حاكم مصر محمد علي باشا، التي بقيت عشر سنوات بعيدة عنه، وتحملت مسؤولية تربية الأبناء، ولم تكن تعرف سوى اليسير عن أخبار زوجها، وبعد تلك السنوات استدعاها زوجها بعد أن استتب له الأمر، وهدأت الأحوال، واستقرّ به المقام، حيث يروي الجبرتي تفاصيل حفل استقبالها في ميناء بولاق، وكيف اصطفت نساء الحاشية لاستقبالها، وقدمن الهدايا لها ولأولادها. لكن، على الرغم من إحساسها بالفخر بوصفها السيدة الأولى في تاريخ الأسرة العلوية، إلا أن إحساسها انقلب إلى إحباط، حين “شاهدت الجواري الحسان كاللؤلؤ المنثور، ثم نظرت إلى المرآة فوجدت انعكاس صورتها، وقد زحفت عليها علامات تقدم العمر، فاتخذت أمينة هانم قرارًا بأن تنهي علاقتها بالباشا كزوج وزوجة”. وتصف المؤلفة أن قرارها أملاه عليها كبرياء امرأة يمنعها أن تتقاسم زوجها مع كل تلك الجواري اللاتي يصغرنها سنًا، ويمتلئن بحيوية وعنفوان الأنوثة الغضة. ورغم ذلك بقيت أمينة هانم الزوجة الشرعية الوحيدة لمحمد علي طيلة حياته، لكن الجبرتي وصفها كامرأة قاسية ومتعجرفة، كما وصف التغير الدرامي في حياتها بعد وفاة ولدها الكبير طوسون الذي أصيب بالطاعون، وحزنت عليهما حزنًا شديدًا، ولبست السواد، وكذلك جميع نساء الحكم وحاشيته. ثم جاءت وفاة ولدها الأصغر إسماعيل، الذي أحرق حيًا في السودان على يد أعدائه، لتزيد من حالة حزنها وغمّها، وقررت اعتزال الحياة، والتفرغ للعبادة والأعمال الخيرية. وبعد رحيل ولديها وجهت أمينة هانم كل طاقة الحب والعطف على حفيدها “عباس”.
تفرد المؤلفة صفحات عديدة لسيرة عمر طوسون، ابن الخديوي محمد طوسون وحفيد والي مصر محمد سعيد باشا، الذي ولد في الإسكندرية عام 1872، ويُعدّ من أكثر من ساهموا في أعمال خيرية في مصر، وامتدت نشاطاته في المجال العام إلى الجانب السياسي والاقتصادي والأثري؛ حيث كان صاحب الدعوة لتشكيل وفد يمثل مصر أمام مؤتمر فرساي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقدم دعمًا للمقاومة الليبية في مواجهة الغزو الإيطالي، ودعم جيوش الإمبراطورية العثمانية في البلقان، كما وقف ضد سياسة الاستعمار الهولندي في إندونيسيا، واتخذ موقفًا حازمًا من دفع بريطانيا نحو انفصال السودان عن مصر في ذلك الوقت. وتبرّع طوسون لبناء نادي الضباط الوطني بأم درمان، وشيّد عددًا من المساجد في السودان، وأوقف عليها الأراضي، إضافة إلى أنه أوفد عددًا من أبناء السودان للدراسة على نفقته الخاصة. وكتب عنه طه حسين قائلًا “ليس في وادي النيل كله إلا من يعرف فضل الأمير الجليل الخفي بالعلائق بين مصر والسودان”. أما في الجانب الاقتصادي، فقد تولى رئاسة الجمعية الزراعية الملكية التي كانت تُعنى بشؤون الزراعة في مصر، وساعد في تطوير الإنتاج الزراعي، حيث كان يخرج كل صباح تقريبًا للاطمئنان على الفلاحين والمزارعين، ومتابعة نتائج جهوده في تحسين السلالات الزراعية، وخاصة تحسين محصول القطن، وبنى للفلاحين في أراضيه قرى فيها مرافق صحية ومدارس، وقدم للحكومة مقترحًا لتحسين أوضاعهم. وفي المجال الأثري، تمكن من اكتشاف عدد كبير من الأديرة الأثرية، وعثر على رأس تمثال الإسكندر الأكبر في خليج العقبة، وبقايا مدينة مغمورة في الماء، وقدم عدة دراسات وكتب في التاريخ والآثار. وامتدت اهتمامات طوسون إلى دعم المدارس والجمعيات الخيرية القبطية، وساهم في بناء مشفى قبطي، واعتبر أن مساعدته للجمعيات القبطية تدخل في إطار تقوية الإخوة بين المسلم والقبطي، اللذين يكونان عنصري الأمة المصرية. وبقدر اهتمامه بالمسيحيين، كان اهتمامه باليهود، بوصفهم مواطنين مصريين، حيث وصفته صحيفة “المنبر اليهودية” بأنه صديق كريم للجالية اليهودية. وقد لجأت المؤلفة إلى تقديم محطات من حياة عمر طوسون على شكل مشاهد زمنية اختزلت فيها حياته، بوصفه شخصية استثنائية في التاريخ المصري الحديث، وفي تاريخ الأسرة العلوي، واعتبرته أمير الإسكندرية وأبا الفلاحين فيها.
تنفتح سيرة أميرات وأمراء عائلة محمد علي باشا على عدد من الشخصيات التي كان لها دور فاعل ومفصلي في المشهد التاريخي المصري، مثل الأمير حليم وعلاقته بالماسونية وأحمد عرابي. وتسرد المؤلفة مواقفهم المناصرة للقضايا الوطنية، التي فقد بعضهم لقبه ثمنًا لها، كالأمير عزيز حسن، الذي تم نفيه من قبل الإنكليز بسبب مواقفه الوطنية. وهناك من كان له إسهاماتهم في الحياة العلمية والثقافية، كما فعلت الأميرة فاطمة إسماعيل صاحبة الفضل في تأسيس جامعة القاهرة، والأميرة أمينة إلهامي التي أنشأت مدرسة متخصصة للحفاظ على الحرف والفنون اليدوية التراثية، وتخرج فيها المعلمون المهرة في كل المجالات. كما اهتم بعضهم بالجوانب الاجتماعية والثقافية، حيث برزت أديبات، مثل الأميرة قدرية بنت السلطان حسين كامل، وأختها سميحة التي كانت نحاتة رائعة، والأمير يوسف كمال الذي أصدر موسوعة جغرافية، والأمير إسماعيل داود صاحب الفضل في تأسيس الحياة الرياضية في مصر، والأمير حيدر فاضل أول من ترجم القرآن إلى الفرنسية. كما تتناول المؤلفة الأوقاف الخيرية، التي أنشأتها نساء من الأسرة العلوية، وشملت مدارس وأسبلة وكتاتيب خدمة للمجتمع، ومن بينها مبرّة “محمد علي” الخيرية، التي أنشأتها الأميرة “عين الحياة” لعلاج النساء والأطفال، وتناوبت أميرات من الأسرة على رئاستها. بالمقابل، هناك شخصيات فاسدة ومتورطة من الأسرة، فالأمير سعيد حليم، مثلًا، تورط في مذابح الأرمن التي ارتكبتها الدولة العثمانية، وذلك على الرغم من حديثه عن الإصلاح الفكري والديني، والأمير محمد علي توفيق، الذي تودد إلى الإنكليز من أجل تحقيق مسعاه الشخصي في الجلوس على كرسي العرش، وذلك على الرغم من افتتانه بالفن والعلم والرحلات. أما الأميرة نازلي فاضل، التي كانت صاحبة ثقافة واسعة، وطرحت أفكارًا حول تحرير المرأة، فقد كانت صديقة للمحتل الإنكليزي، وكانت تعتبر أن مصر ليست مهيأة للمطالبة بالاستقلال.
الحاصل هو أن المؤلفة ابتعدت عن كتابة سيرة وتاريخ الحكام، من ولاة وملوك وسلاطين، لتروي سيرة أمراء وأميرات، وتزيل التشويه الذي اعترى صورهم، لكنها لم تخرج عن دائرة الحكم، وعن منطق التاريخ الرسمي، الذي كُتب كي يكون تاريخًا ومرجعًا وحيدًا، وبقيت ضمن كواليس ودهاليز أروقة وقصور العائلة العلوية، التي حكم أبناؤها مصر طوال الفترة الممتدة من 1805 إلى 1952، ولم تقم بفحص سير الأمراء والأميرات من مصادر متعددة، وكان الأجدى تناول أحوال عامة الناس الذين عايشوا تلك المرحلة، الذين لم تأت على ذكر إلا شذرات من أحوالهم، وبما يخدم سير الأمراء والأميرات.
(ضفة ثالثة)