عمر كوش: “التفلسف” بوصفه سبيلاً للحرية وبلوغ السعادة

0

لم تنقطع الأسئلة حول الدافع إلى ممارسة “التفلسف”، ومعرفة ماهيّة الباعث على هذا الفعل، أو السبب الذي يكمن وراءه، حيث يمتلك سؤال “لماذا نتفلسف؟” جذوراً عميقة في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني، إذ لم يتوقف الفلاسفة والمفكرون عن طرحه منذ بدايات الفلسفة، وظل يرافقها في مختلف مراحلها ومحطاتها، ويُعاد طرحه كلما لحّ السؤال بصيغ وأشكال مختلفة.

 وطرحت الفيلسوفة الفرنسية، لورانس فانين، هذا السؤال في كتابها التعليمي، “لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية” (ترجمة محمد شوقي الزين، ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية، 2021)، كي تدافع عن أهمية الفلسفة في عالم اليوم، وعن التفلسف بوصفه مسألة تخص الجميع، ولا تتحدد في سنّ معينة، وذلك تأسيساً على أن الفلسفة لا تنحصر في مرحلة معينة من عمر الإنسان، وهي في آخر المطاف وصفة للعيش معاً بين الناس، أو بالأحرى علاج من أسقام الوجود، لذلك لا تستنفدُ فعاليته في جميع مراحل الحياة.

وتكمن أهمية الإعلاء من شأن الفلسفة ومكانتها في عالم اليوم، كونها ضرورة لمواجهة الأوثان الجديدة فيه، التي يجسدها التهافت على جني المال والنجاح العابر والمعلومات المزيفة وطغيان المظاهر الخادعة. وهو عالم يحطّ من مقام الفلسفة، ونشهد فيه محاولات تسويق ادعاءات، قديمة جديدة، تزعم بأن الفلسفة معزولة عن الواقع وعفى عليها الزمان، وذلك كي تبقى منبوذة في مجتمعات عديدة، وخاصة مجتمعاتنا العربية، التي حاول بعضهم، ومنذ زمن بعيد، الحطّ من شأنها وقدرها، بل وقام بمطاردتها وتحريمها، إن لم نقل تجريمها وتكفيرها، وأفضى ذلك كله إلى بقاء الفلسفة طوال قرون عديدة مقموعة وملعونة في مرابعنا، بعد أن عاشت عصوراً ذهبية.

غير أن الإعلاء من قيمة الفلسفة ومقامها يجب ألا يغفل تبسيط التفلسف، الذي يضاف إلى جملة أفعال تتيح فهم الفلسفة، وإدراك أمثل لمعنى الوجود والعالم، وتجسدها أفعال الدهشة والتفكير والتثقيف، فضلاً عن إثراء المعرفة بقراءة وشرح أعمال الفلاسفة القدماء.

ولعل التساؤل والتفكير الفلسفي مفيدان للفكر الإنساني، كونهما يشجعان الناس على اقتناء مكان للحرية، وذلك بالابتعاد عن الوساوس والظنون التي يحركها المجتمع، وعن أحكامنا المسبقة التي تشوش التصورات، وتبدأ بتناول موقع “السؤال” في الفلسفة منذ أن انفكّ النشاط الفلسفي عن الخرافة والأسطورة، وراح الفلاسفة يتفكرون في أصل العالم وفي كيفية تشكل الحياة، ويطرحون أسئلة النشأة والمصير، التي ما تزال تشغل تفكير البشر منذ عهود مديدة وطويلة.

وإذا كان ممكناً “تعريف فعل التَّفلسف على أنه محاولة في التساؤل حول المعرفة في مواجهة الجهل”، فإن ذلك يستدعي تلمّس تأثير التفكير الفلسفي على سلوك الأفراد، وما الذي تضيفه المفاهيم الفلسفية إلى سلوكياتنا اليومية، من خلال طرح إشكالية القيم أمام الفساد، التي تفضي إلى طرح أسئلة حول مدى إسهام التفلسف في تعديل أفعال أفراد المجتمع، وردم الفجوة بين الحياة اليومية والعامة وغايات النشاط العقلي. إضافة إلى التساؤل عما إذا كان هنالك سنّ معينة للتفلسف، الذي يُطرح من اعتبار أن “أزمنة المجتمع الفرداني، الذي تبدو فيه الأنظمة الفكرية مقسمة ومميّزة”، وكذلك كل الفئات والطبقات الاجتماعية، وكل جيل من الأجيال، يقود إلى إزاحة المشكلة من سؤال “لماذا نتفلسف؟” إلى سؤال “متى نتفلسف؟”، وذلك على خلفية الاعتقاد بإسهام الفلسفة في المصالحة بيننا وبين الآخرين والعالم المعاصر، عبر الاستدلال إلى إدراك المعنى أمام العبث والعزلة، علّنا نفهم أنه أمام المصائب والكوارث تغدو الحكمة الفلسفية طريقاً لبلوغ الإنسان السعادة في الحياة، تلك السعادة التي تنهض على رهانات الوعي الفلسفي، المتمثلة في الاعتدال والنزاهة والحكمة.

ويحضر التفلسف مع فعل التساؤل، الذي يلح علينا بدوره نتيجة الدهشة، لكنها ليست دهشة ساذجة ومغفَّلة، بل دهشة حَدْسية، تُشجِّع على الفضول المعرفي وعلى التفكير والتأمُّل، وتتعلَّق بالتساؤل حول الظواهر، والعمل على فهمها، حيث تنهض الدهشة الفلسفية على عملية استخلاص المعنى بالاستناد إلى المراس التفسيري والخبرة التأويلية، وعلى تجسد المعنى بالرمز، ثم يأتي الاستجلاء كثمرة المبادرة العقلية، لذلك علينا أن ندرك أهمية الفضول المعرفي، إلى جانب ضرورة الدهشة في البحث عن الحقائق، فضلاً عن قيمة الشك المؤدي إلى الفكر الفلسفي، ودور محبة الحكمة في الضبط الاستدلالي والاستقلالية الثقافية، لأن حصول الفكر الفلسفي يرتبط بالقدرة على الاندهاش من وقائع الحياة اليومية العادية والأشياء التي تحيط بنا في العالم.

 وتذهب الفيلسوفة لورنس فانين إلى الخوض في الجدل حول التفلسف من أجل الفعل، كي تؤكد أن الفلسفة ليست علماً وحسب، بل تتجسد في سلوك فكري يمهّد للفعل، بحيث ينقسم الفعل الإرادي إلى أربع محطات، تتمثل في السبق والمشورة والقرار والفعل، وتخلص إلى أن الحثَّ على الفعل لا يعني الاندفاع إليه من غير اختبار الإمكانات التي نمتلكها، في حين يقود البحث عن الحقيقة إلى نوع من التطهير والزهد، عبر إحداث قطيعة مع النظام الانفعالي والحسّي، وبما يقتضي بذل جهد كاف للتحرر من الانفعالات والخيالات، وذلك من أجل التسامي نحو الحكمة المنشودة.

ولا تنفصل الفلسفة عن مفهوم حرية الإرادة، لذا تتطلب التخلص من كل ما يضيّقُ الخناق على حرية التصرف والاختيار، في حين يستلزم الاشتغال الفلسفي إطلاق عنان العقل حراً، من دون التقيد بأي قيود أو بلوائح ومحددات، أو الارتكاس إلى رتابة الحياة اليومية والكسل، وبناء علاقة مع وقائع الحياة، يتم فيها ارتقاء الإنسان نحو مرتبة أكثر اكتمالاً بفضل ملكة العقل، وعدم الارتهان إلى الاستلاب المفضي إلى الإقالة من التفكير والعصف الذهني، حيث يتأسس على مقام التفكير الفلسفي صحة العقل والنفس، وبما يفضي إلى النهوض بمستوى الإدراك والفهم، واكتساب المرونة اللازمة لتدشين انطلاقات جديدة، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بالفلسفة وتوظيف مبادئها لتحسين القدرة على التفكير، وذلك لأنه “كيفما تكن طبيعة أفكارك المعتادة تكن طبيعة عقلك”، وبالتالي فإن المطلوب من الإنسان هو حسن الاستعمال، بالرغم من أن “كل إنسان يملك عقلاً، لكن لا يحسن استعماله دائماً، إما لأنَّه لا يفكرُ كما ينبغي أن يفكرَ، وإما لا يطبق فكره على الأشياء بشكل صحيح”.

وتجادل لورانس فانين بأن كلاً من مرحلتي الشباب والشيخوخة تصلحان لممارسة التفلسف، مع اختلاف وتباين الأساليب والآثار في كل مرحلة، وذلك بالاستناد إلى أن الفلسفة تتيح للشابات والشبان النظر إلى المستقبل برويّة وتبصّر، واتخاذ خيارات معقولة، وامتلاكه القدرة على كبح الرغبات غير الضرورية، وتفتح أمامه أبواب العمل والمهنة بسهولة والتوجه نحو المستقبل.

ولا شك في أن فتح التفلسف على كل المراحل العمرية للإنسان مسكون بهمّ جعل الفلسفة متاحة للجميع، وليست مقتصرة فقط على الفلاسفة أو المتخصصين فيها، وعلى الحلقات الأكاديمية الضيقة، وذلك لأن الفلسفة ليست “مهنة” ثلّة من الناس يعيشون في صوامعهم أو أبراجهم العاجية، أولئك الذين ينشغلون بقضايا يصعب أو يتعسر فهمها والإحاطة بها من قبل العوامّ والبسطاء، لذا حرص فلاسفة كثر على حثّ الناس على ضرورة “التفلسف” منذ الصغر، وألا يتوقفوا عن ذلك عند بلوغ الشيخوخة، لأنهم بحاجة إليها في كل مراحل العمر لمواجهة المخاطر والتحديات، وخاصة في عالمنا الراهن الذي يواجه فيه البشر تحديات وأزمات سياسية واجتماعية وبيئية خطيرة، ونواجه فيه نحن السوريين نظام الأسد الوحشي، وبأمس الحاجة إلى مقاومة وحشيته، والدفاع عن حقنا في الحياة والخلاص من الاستبداد

*تلفزيون سوريا