عمر قدور: هكذا نجا الأسد من الاغتيال وعفا عن المعتقلين

0

من المحتمل جداً أن يكون بشار الأسد قد خالف سيناريو إيرانياً ينص على تعرضه لمحاولة اغتيال، أثناء وصوله لأداء صلاة عيد الفطر في جامع الحسن في حي الميدان الدمشقي. إعلام الأسد نفى خبر محاولة الاغتيال، بينما نشرته وكالتا “مهر” و”إيسنا” الإيرانيتان نقلاً عن خبر عاجل أوردته قناة المنار! 

ربما يكون قد خالف أيضاً المخطط الإيراني فاختار مسجداً غير ذاك الذي ينبغي أن يشهد محاولة الاغتيال، فاختياره جامع الحسن في الميدان له دلالة يعرفها السوريون جيداً؛ لقد اختار مكاناً كانت تنطلق منه المظاهرات في عام 2011. بهذا الاختيار، أراد الأسد التأكيد على انتصاره، بل التشفي بالذين ثاروا ضده، ولا يستوي مع الاثنين أن يتعرض لمحاولة اغتيال تجعل منهما منقوصين أو محل شك. هو أيضاً، على الأرجح، لا يحب محاولات الاغتيال وإن أتت وهمية بتدبير من أهل البيت.

ربما، على عجل، أتت الفكرة: لماذا لا يكون هناك عفو عن المعتقلين يُحدث الضجة التي كان يُفترض أن تُحدثها محاولة الاغتيال؟ في الحالتين، سيكون الأسد في مركز الاهتمام، إن نجا وإن عفا، والثانية منهما تعزز من فكرة انتصاره، وتُذكّر بأنه القوي المتحكم الذي يمسك بيديه حيوات ما يزيد عن مئة ألف معتقل. وداعاً للأضواء التي سُلّطت على أمجد يوسف، وينبغي أن تعود الأضواء إلى مستحِقها عن جدارة أكبر. 

هكذا كُتب لمجرم “مجزرة التضامن” أن يتسبب بالمهزلة التي أتت لسرقة الأضواء منه، إذ يجب أن ينسى العالم فظاعة “حفرة التضامن” وينشغل بـ”مكرمة” العفو غير المخطط لها أصلاً. لكن لا لسوء التدبير فقط، أتى إطلاق سراح مئات المعتقلين ليؤكد على طبيعة السلطة، فيكون العفو تماماً بمثابة مجزرة جديدة. وعلى منوال المجزرة التي يُراد طمس أخبارها، تكون فظاعة مجزرة العفو بكونها دلالة على المخفي الأشد هولاً. الألوف من أهالي المعتقلين، الذين تجرؤوا وتجمهروا في ساحات رئيسية في دمشق لسؤال الخارجين من المعتقل عما إذا التقوا هناك بأحباء لهم، هم أيضاً رأس جبل الجليد من بين مئات الألوف الذين لم يشاركوا بسبب الخوف أو اليأس أو البعد الجغرافي، بما في ذلك تهجيرهم خارج البلاد.

ويستحق منا ما حدث أن ندحض فرضية سوء تدبير مستجد، لأن ما يحدث سبق للسوريين معايشته بعيداً عن الكاميرا التي صارت لاحقاً متاحة في جيب أي حامل موبايل. في مثال ليس الأقسى، لكاتب هذه السطور قريبان اعتقلا في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين، ومن دون أن تُعرف صلتهما الفعلية بالتنظيم لغياب أية محاكمة علنية. منذ لحظة الاعتقال، لم تعد هناك إطلاقاً أخبار عنهما؛ كبر الأولاد ثم الأحفاد ولا أخبار. ماتت أمهما وهي تقول “الله يذكره بالخير” عندما تأتي سيرة أي منهما لتؤكد لنفسها وجودهما على قيد الحياة، وقد عرفتْ مدناً وبلدات وقرى وهي تحمل صور ابنيها وتذهب لعرضها على معتقل أُفرج عنه هنا أو هناك من دون أن تحظى بخبر عنهما. ولو ملكتْ نصف كيلو من الذهب “هو التسعيرة المعروفة لزوجة مدير سجن شهير” لضحّت به على أمل الحصول على مجرد خبر عنهما، رغم المخاطرة بخسارة الذهب بلا خبر.

أشيع، في سبب حدوث التجمعات الأخيرة لأهالٍ يشبهون تلك الأم، أن سائقاً أشفق على المفرج عنهم لدى مروره من أمام السجن، فأقلّهم إلى منطقة “جسر الرئيس” لكونها عقدة للمواصلات. وإذا نحّينا ما قيل عن فقدان الذاكرة الذي أصيب به تحت التعذيب العديد من المفرج عنهم، فإن وجهاً من الفظاعة يبرز في عدم إيصال فاقدي الذاكرة على الأقل إلى ذويهم. في التسعينات، عندما أفرج الأب عن معتقلين من سجن تدمر، كانت سيارات السجن توصلهم إلى كراج الحافلات الرئيس في حمص، ويُعطى كل منهم مبلغ مئة ليرة ثمن تذكرة موحد إلى وجهات مختلفة قد لا يكفي المبلغ للوصول إليها. نعم، هي مئة ليرة؛ الفارق بين الأمس واليوم.   

ولا لمرة، في عهد الأب ثم الابن، خرج من يقول أن هناك عفواً عاماً حقيقياً وأخيراً؛ تعبير “تبييض السجون” ليس له وجود في قاموس السلطة. كان يمكن لو حدث ذلك في التسعينات مثلاً أن يكف الأهالي عن انتظار أبنائهم الذين لا يعلمون شيئاً عن مصيرهم، وأن يتجرعوا الإعلان عن مقتلهم رغم قسوته بديلاً عن فظاعة الانتظار وعدم اليقين. لم يكن ولن يكون هناك إعلان عن تبييض السجون، لا بسبب الإحراج من انكشاف عدد القتلى المهول، بل لممارسة تعذيب إضافي مستمر على ذوي الضحايا؛ هذا هو عقل السلطة الذي لم يتغير إلا في ارتفاع درجة استهتاره بمآسي المحكومين. 

في ذلك العقل أيضاً، أن شخصاً مقرباً من السلطة يُدعى جورج.أ. نال قسطاً من جفائها في التسعينات، عندما كان الأب يرسل إشارات إيجابية إلى الغرب بعد سقوط المنظومة السوفيتية، ولحاجته إلى موافقة الغرب لضمان مشروع التوريث. حينها “ضمن مناخ الانفتاح” نشرت وسيلة إعلامية أمريكية شهيرة ريبورتاجاً عن جورج.أ، مطلِقة عليه لقب أمير مسيحي الشرق، وسرعان ما شاعت الأخبار عن غضب منه، رغم عدم مسؤوليته عن ذلك اللقب، إذ لا يجوز أن يظهر سوري “مهما كان مقرّباً من السلطة” كنجم في وسيلة إعلام عالمية. 

حتى إذا كانت النجومية من نمط “نجومية” أمجد يوسف فهي مرفوضة، والتغطية عليها لا تأتي فقط من نافذة ستر عار الجريمة، وإنما أيضاً تأتي من باب وجود من يجب أن يحتكر الأضواء دائماً فلا تذهب إلى أحد سواه. لهذا أتت المناظر من دمشق وكأن غايتها التذكير بالمجزرة الكبرى التي تهون بالمقارنة معها مجزرة التضامن، والتذكير في الوقت نفسه بأن أمجد يوسف مجرد عامل صغير لا يستحق الانتباه في مصنع المقتلة الكبرى. ثم إن المجزرة التي ارتكبها قد انتهت فعلياً، بينما المجازر في مختلف السجون والمعتقلات مستمرة، وقرار استمرارها هو رهن مشيئة شخص واحد، شخص يستطيع أن يجعل من العفو مهزلة ومجزرة في آن. 

بعد شهور من انطلاق الثورة، ومن ممارسة الوحشية تجاهها، كان بعض الموالين “وحتى بعض المعارضين” يرغب في رمي مسؤولية استخدام العنف على مسؤولين أدنى. حينها خرج بشار الأسد ليضحك، وليسخر في خطاب له من فكرة عدم مسؤوليته، مؤكداً أنه صاحب القرار الحصري. في قرار العفو الأخير تأكيد من الصنف ذاته، تأكيد أدى بنجاح إلى نسيان أمجد يوسف.

*المدن