مَن يتذكر أمجد يوسف؟ قد يُنسى الاسم في غفلة، لكن يستحيل على كثير من السوريين نسيان سفّاح حفرة التضامن، وما صارت ترمز إليه الحفرة من سوْق رجال مدنيين لم يفعلوا شيئاً ضد السلطة لإعدامهم ورميهم فيها، قبل انكشاف سوْق النساء إلى الحفرة ذاتها، بعد اختطافهن وربما اغتصابهن قبل الإعدام. في أواخر شهر أوكتوبر الماضي نقلت صحيفة الغارديان عن زملاء سابقين لأمجد أنه ما يزال على رأس عمله، وهذا بلا شك تعبير فظيع بمدلولاته، ويتوعّد أي سوري يفكر الآن في الثورة على الأسد: أمجد يوسف بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسه ذلك. كيف ومَن يُطمئن أمجد يوسف كي يتوقف عن تفانيه في “عمله”؟
هناك بعثي دَبَكَ وهتف للأسد في “ساحة السير” في مدينة السويداء، وفعل ذلك على سبيل استفزاز محتجين على الأسد نفّذوا اعتصاماً صامتاً في الساحة ذاتها. مرّ الأمر بسلام، بلا عنف، قبل أسبوع. لكن لا ضمانة في استمرار “التعقّل”، وربما تقتضي التعليمات الواردة إلى ذلك البعثي أو سواه أن يهاجم المعتصمين وأن يقتل منهم، ربما يحدث شيء من هذا القبيل أثناء كتابة هذه السطور، أو يوم الاثنين المقبل.
ثمة مثقف، كاتب.. فنان.. إلخ، وقف مبكراً في عام 2011 ضد الثورة. لم يكن هذا منتظَراً منه ضمن تصور دارج عن “النخبة”. لتبرير انحيازه راح هذا المثقف يحشد عدته المعرفية لإثبات صواب رأيه، ما يعني بالضرورة تجريد تلك الثورة من أية أحقية؛ إنها بموجب رأيه القاطع ليست حتى محل نقاش أو اختلاف. الحق أن هذا المثقف ليس ضد ذلك الحدث فحسب، بصرف النظر عن التسمية، هو ضد التغيير، وتورطه في الدفاع الضمني عن الأسد سيجعله أكثر “جذرية” لإثبات أنه على صواب، ولا شيء يثبت صواب رأيه بقدر استتباب الوضع للأسد. إنه، إخلاصاً لنفسه، سيكون ضد أي مشروع محتمل للتغيير.
في مثال ذلك البعثي، ربما تكون جريمته الأولى من نوع القتل غير المتعمد، لكن كما نعلم “عندما يخلو إلى نفسه” لن يشعر بالندم، فالسلوك النموذجي في حالته أن يحشد لنفسه كافة الذرائع التي يبرر بها فعلته أمام نفسه. الجريمة الثانية ستكون بالطبع أسهل من الأولى، وصاحبها أكثر شراسة وجذرية مما كان عليه عندما ارتكب جريمته الأولى. لا نجاري في هذا الاستنتاج ما يُشاع عن توحش أولئك الذين ذاقوا طعم الدم، وصاروا متعطشين لسفكه، فهذا البعثي في مثالنا ليس بمثابة دراكولا صغير.
إلى أن ارتكب البعثي جريمته الأولى كان موالياً، ومنذ فعلها صار شريكاً. هذا الفارق هو ما ينبغي الانتباه إليه بدقة، والانتباه إلى كل ما يحمله وما يحيط به من دلالات. الصورة المكبَّرة عن هذا التحول نراها في معتقلات الأسد، وهي ليست وليدة اندلاع الثورة، فمن المعلوم أن جلادي السجون يحيون احتفالاً بزميله المستجد عندما يرتكب جريمته الأولى، وقيامه للمرة الأولى بقتل معتقل هو عمادة بالدم ترمز إلى أنه صار عضواً فعلياً في محفل القتلة؛ لقد انتقل من الزمالة الشكلية إلى الشراكة الحقّة.
نحن فقط على سبيل التبسيط نستخدم مفهوم الموالاة بحيث يطغى على ما يستجدّ فيها من شراكات، فأمجد يوسف هو شريك، وذلك البعثي القاتل شريك من نوع ودرجة مختلفين قليلاً، والمثقف الذي دأب على التصويب على خصوم الأسد بقصد تحويل الأنظار عن جرائمه هو شريك أيضاً. بعبارة أخرى، عند عتبة من التورط لم يعد هؤلاء يدافعون عن الأسد؛ إنهم يدافعون عن أنفسهم، ومن المرجّح أن يكون دفاعهم عن أنفسهم “والأسد معاً” أشدّ بكثير مما لو كان دفاعاً عنه فقط.
نرجّح في الظروف الحالية، ووفق الآلية هذه، أن الأسد لديه الآن أقل نسبة من الموالين منذ وراثته السلطة، بينما منذ عام 2011 بدأ يكتسب أكبر نسبة من الشركاء الذين تعمّدوا بالدم. تزايدُ عدد الشركاء يشرح لنا جانباً من الصعوبة البالغة للثورة على الأسد حالياً، فهو يحظى بوفرة من المقاتلين المستعدين للقتال بضراوة خوفاً على أنفسهم من طائلة أي تغيير.
لقد رفض الأسد مبدأ المشاركة السياسية الذي طالب به المتظاهرون بدءاً من آذار 2011، وسارع إلى إفلات الشبّيحة والمخابرات على المتظاهرين، ليصير هؤلاء القتلة هم شركاءه. نجاح هذا التكتيك في اكتساب شركاء دمويين لا يجب أن يُعزى إلى ألمعية خاصة، فهذا التكتيك هو في غريزة البقاء المعهودة لدى الطغاة. ثم، علينا الانتباه إلى الواقع بأكمله، فحلفاء الأسد أيضاً “بدءاً من الحليف الإيراني” شجعوا تورطه في الدماء، ثم بالمزيد منها، كأفضل ضمانة ليبقى شريكاً لهم. لا نستثني قوى إقليمية أو دولية أخرى رحّبت سراً بدمويته، وعن دراية بأنها بقدر ما تضعفه خارجياً فإنها تزيد من عدد وشراسة شركائه الداخليين الذين سيمانعون أي تغيير.
بانتهاكات منسوبة إلى فصائل معارضة وإلى قسد، لا تصبح الأرض السورية مسرحاً للإفلات من العقاب فحسب، وإنما يكسب الأسد شركاء من طالبي السلطة لا طالبي التغيير، من دون مساواة بينه وبينهم بالنظر إلى دوره المؤسِّس للمقتلة وحجم ارتكاباته. هذا ما يجعل التسوية المحتملة أقرب ما تكون إلى اتفاق أمراء الحرب، أي من دون المرور بمشروع مصالحة لا بد أن يتضمن قدْراً من الحديث عن العدالة، أو تعويضاً للضحايا وذويهم. هكذا، تحت يافطة التغيير، نكون في المحصلة أمام تحالف أوسع يحول دون التغيير، على الأقل ما دام المتورطون في الدم أحياء.
سؤالُ “مَن يُطمئن هذا القاتل” سيبقى ماثلاً ما لم تحدث ثورة واسعة سريعة ساحقة، تستبق تصدي هؤلاء لها وإنجابهم شركاء دم جدد. الاحتمال الآخر، وقد طالب به المتظاهرون ذات يوم، هو تدخل دولي يفرض مصالحة تستثني رؤوس الإجرام، وقد أتى التدخل الدولي لاحقاً على نحو يعزز الانقسام ويرعى تلك الرؤوس، ليصبح التدخل الداعم للديموقراطية أبعد منالاً من سيناريو الثورة الشاملة. إنها حلقة رهيبة من تراكم البؤس وأسباب التغيير، ومن تكاثر أعدائه المهدَّدين به. على مقاسها، وبما يخالف كل منطق وكل عدل وأخلاق، يأتي السؤال: مَن يطمئن أمجد يوسف وذلك البعثي الذي يدبك في الساحة استعداداً للقتل…. إلخ؟
*المدن