ينقل موقع المركز السويدي للمعلومات SCI عن صحيفة Se24 السويدية مقالاً عن مسلسل معاوية الذي سيُعرض بعد أربعة أسابيع، خلال شهر رمضان المقبل. الموقع ينوّه بقوةِ ملاحظة الإعلام السويدي، من خلال هذا المقال الذي يشير إلى جدل مرتقب بين المسلمين من شيعة وسُنّة لمناسبة عرض المسلسل. نضيف إلى تنويه المركز، بقليل من المبالغة ليس إلا، أن قوة الملاحظة فيها حصافة وتهيئة للجمهور السويدي، إذ لا يُستبعد أن تشهد البلاد مظاهرات لغاضبين من المسلسل، وأن تتخللها أعمال شغب وعنف.
في الوقت نفسه، راح خبر المسلسل ينتشر بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي، والعنوان وحده كافٍ كمادة للتعليقات، من دون تحفّظٍ يفرضه التحدث فيما لم يُعرض ولا معرفة متاحة عن محتواه بعد. غياب التحفّظ، وحتى الأصوات المطالبة به، مردّه أنه مهما كانت المعالجة الدرامية لشخصية معاوية بن أبي سفيان فهي ستثير غضب جهة ما، إما الشيعة أو السُنّة، أو الفرقتين معاً.
قد لا يعرف أو يتذكر كثر مسلسلاً سورياً بعنوان “معاوية والحسن والحسين”، سبق أن أثار استنكاراً من علماء دين شيعة وأصدرت الحكومة العراقية أمراً بمنع عرضه على القنوات العراقية، وكذلك أصدر الأزهر بياناً يحذّر فيه القنوات المصرية من عرضه، لأنه يرفض تجسيد الصحابة في الأعمال الدرامية. نستبعد عن المسلسل السابق أن يكون على أي نحو منحازاً، فالرقابة “السورية” التي أجازت تصويره لن تتورط في انحيازات مكشوفة، والحديث هنا عن عام أسبق من عام 2011 الذي عُرض فيه العمل.
تاريخ عرض المسلسل السابق يفسّر لنا أنه لم يحظَ حينها بانتباه جماهيري، بينما بدأت الضجة حول المسلسل الجديد قبل أسابيع من عرضه. ففي ذلك العام كانت شعوب المنطقة بأسره تتابع مسلسلاً أكثر حرارة وواقعية وجاذبية، هو مسلسل الثورات العربية، مسلسل “الربيع العربي” الذي استُهل بتونس نهاية عام 2010. إذا شئنا اختزال الوضع، كانت الأبصار والجوارح متجهة إلى المستقبل، ولم تكن في وارد الانتباه إلى تنازعٍ على السلطة في زمن مغرق في القدم.
هكذا سيكون الانتباه المسبق إلى المسلسل الجديد كاشفاً التغيّرَ الذي حدث خلال اثني عشر عاماً، فاليقظة تجاه الماضي ليست ابنة اليوم، هي ابنة السنوات الأخيرة التي تفرّقَ فيه “الشعب الذي يريد” إلى شعوب وقبائل تتقاتل، بصرف النظر مؤقتاً عمّا إذا كانوا في الأصل شعباً أم لا. ورغم أن ما سُمّي “الصراع الشيعي-السنّي” قد هدأت وتيرته في السنوات الأخيرة، إلا أن تراجعه العسكري والإعلامي لا يعكس الأثر المستدام للحرب الدموية في السنوات التي سبقتها، في سوريا واليمن على نحو خاص. ثم إن وجود طرف يعتمد المظلومية المذهبية كأيديولوجيا للحكم والتوسع الخارجي سيتكفل دائماً بإبقاء جذوة الصراع؛ إنها تجارته المضمونة والمجزية حتى إشعار آخر.
على هذه الأرضية الممزقة، أتت فوراً الخشية من عرض المسلسل في هذه الظروف، وقد لا يغيب عنها السؤال الذي يتحرى خبثاً أو مؤامرة “لماذا الآن؟”. في هذه الخشية اعتراف بأن شعوب المنطقة غير قادرة على النظر إلى تاريخها، على الرغم مما يبدو استحضاراً مستمراً له. وأن يُسأل “لماذا الآن؟” في القرن الخامس عشر على تلك “الفتنة”، فهو سؤال يستدعي توأمه “ومتى إذاً إن لم يكن الآن؟!”.
الخوف من مواجهة التاريخ كما هو حتى في مجمل كتبه قد يعكس ارتياح شرائح واسعة إلى ما تعرفه وتمسّكها به، لكن من المؤكد أنه يعكس تمسّك مختلف السلطات برواياتها عن التاريخ، وهي روايات مبسَّطة بحيث تخدم هدفاً لا تحيد عنه. جدير بالذكر أن التاريخ الإسلامي نفسه تعرّض للغربلة و”التنقية” لأسباب أيديولوجية سياسية معاصرة، بدءاً من المحاولات الإحيائية لما سُمّي عصر النهضة. لدينا ثلاث روايات رئيسية، الإسلامية بفرعيها السُني والشيعي، والرواية العروبية، والرواية اليسارية. هذه الروايات التي لم ينتهِ مفعولها، منفردةً ومجتمعةً، تقول أن الماضي كان دائماً هو البضاعة الأيديولوجية المفضَّلة.
للتاريخ نفسه تجار وحراس بمراتب وأهواء مختلفة، ما يعني “بخلاف ما يجب أن يكون” أنه ليس ملكية عامة، ليس مشاعاً، وتداولُ بعض مراجعه الأصلية شبه محظور. هو في هذا مطابق للحاضر، من حيث عدم وجود فضاء عام مشاع للجميع، ومن حيث سيطرة قلّةٍ على الموارد العامة الاقتصادية، وفي رأسها الثروات الطبيعية، فضلاً عن السيطرة على المجال العام الثقافي والرمزي، ومنه الدين والتاريخ. بعبارة أخرى، معظم الذين سيختلفون بعد أسابيع حول مسلسل معاوية هم أشخاص ممنوعون من معرفة التاريخ بيسر، وممنوعون من امتلاكه، بمعنى أن يكون لهم الحق فيه على قدم المساواة، ومن نافل القول أنهم لا يمتلكون حاضرهم وإلا كانوا امتلكوا ضمناً ما سبقه.
تتوقع صديقة لبنانية على وسائل التواصل خروج مواكب من الموتوسيكلات عقب كل حلقة من المسلسل، للاستنكار أو لتوجيه رسائل إلى أبناء الطائفة المقابلة. وينبغي أن نكون ساذجين لتدهشنا الخشية العامة من مسلسل، أو السيناريوهات القاتمة المتخيلة الآن عما قد يحدث بموازاة عرضه. مع قليل من حسن النية أو الطيبة، هذه هي المقدمات النموذجية التي تؤدي إلى استحسان المنع بحجة نقص أهلية المتلقي.
نعود للتأكيد على أن المخاوف تخص مسلسلاً لا تُعرف تفاصيله حتى الآن، فهذه نقطة تنطوي على عدم الاهتمام بمضمونه، وعلى أن حجم المسبقات لدى الجمهور يتغلب سلفاً على المضمون وعلى طريقة تناوله فنياً. في حالة غير شاذة أيضاً عن كل التجاذبات التي نعيشها، سيبحث معظم الجمهور في المسلسل عما يعرفه من قبل، وهو مستعد للانقضاض وركل وصفع كل ما لا يود معرفته. سيكون الدفاع عن هذه المعرفة المحدودة المجتزأة بمثابة دفاع عن الكرامة الشخصية، دفاع قد يبدأ من بغداد أو وسط بيروت، مروراً بوسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى ستوكهولم!
قد يجوز لنا القول تالياً أن عدم انتظار المضمون يعني أن الجمهور المهيأ ليمارس العنف غير مبالٍ ضمناً بمعاوية، أو بالحسن والحسين، بقدر حاجته بين الحين والآخر إلى ذريعة يفرغ بسببها غضبه المكبوت. لذا، ستكون ردود الأفعال مرتبطة “قبل العديد من الاعتبارات” بالإجابة عما إذا قد حانت لحظة انفجار الغضب؟ التكهن بالإجابة يلزمه بعض المعرفة بعلم نفس الجماعات والسياسة معاً، ولا بأس بقليل من الجيولوجيا أيضاً!
*المدن