لا يُنتظر من اجتماع موسكو الرباعي الإعلان عن نتائج دراماتيكية مفاجئة، لكن اجتماع وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات لن يكون أيضاً على سبيل النزهة أو السياحة. كان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار قد أعلن عن انعقاد الاجتماع اليوم “الثلاثاء”، وسبق لوزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو أن أعلن عن اجتماع رباعي لوزراء الخارجية في مطلع الشهر المقبل. ورغم أن أوغلو أشار إلى أن الهدف “هو إعادة إحياء المسار السياسي الذي لم يسفر عن أية نتيجة حتى اليوم”، إلا أنه صرّح أيضاً بأن المسار يمضي خطوة خطوة “وفق خريطة طريق محددة”.
في الحديث عن لقاء موسكو الحالي، وربما المقبل، من المستحسن قراءة تصريح أوغلو من طرفيه؛ فهو يتحدث عن عدم الخروج بنتائج سياسية، وفي الوقت نفسه ينوّه بمضي المسار حسبما هو مرسوم. والتنويه لا تنبغي قراءته على محمل إجرائي فقط، لأن الجوانب الإجرائية تم تجاوزها منذ الاجتماعات المخابراتية الأولى بين هاكان فيدان وعلي مملوك، والتي مهّدت لانطلاق المسار الثلاثي مع موسكو، قبل انضمام طهران برغبة تركية لتحاشي التعارض بين الوصيين الروسي والإيراني.
هناك تقدّمٌ ما في المفاوضات، وبما يخالف تصريحاتٍ لمسؤولي الأسد أو إعلامه، وبما يخالف التسريبات التي توحي بأنه يعارض الرغبة الروسية في دفع هذا المسار، ويفضّل عليه مسار التطبيع العربي، وكأن المسارين في متناوله بمطلق الحرية. ولئن كانت الحصافة تدحض التهويل من تأثير المسار الرباعي على صعيد تقرير مستقبل سوريا، فهي أيضاً يجب أن تدحض الاستخفاف المطلق بالمسار ذاته، وبما قد ينجم عنه من تفاهمات غير معلنة يدفع ثمنها سوريون في مناطق سيطرة الأسد ومناطق النفوذ التركي.
للتوقيت أهمية كبيرة، على مقربة ثلاثة أسابيع من الانتخابات التركية، ومفاتيح فوز أردوغان فيها ليست في جيب الأسد، لكن الأول سيكون مسروراً إذا حصل على هدية تقوّي من حظوظه، والهدية محددة بانتصار ما على وحدات الحماية الكردية المنضوية ضمن قسد. أما الثمن الذي يدفعه لقاء ذلك فلن يكون منظوراً من قبَل الناخب التركي، لأن المقايضة برمتها في سوريا، وجزء مما يقبضه الأسد قد يكون على حساب سيطرة الجولاني في إدلب، وجزء آخر قد يتعلق بتأمين الطرق الرئيسية، فضلاً عن تنشيط المنافذ الحدودية المباشرة بين تركيا والأسد.
بخلاف علاقته التي ساءت مع بشار الأسد، تربط أردوغان علاقات وثيقة بكل من بوتين وحكّام طهران، والعلاقة مع الجانبين صمدت وأثبتت متانتها رغم تباين التوجهات في سوريا، ورغم التنافس على مناطق نفوذ بعيدة عن سوريا. وإذا كانت لموسكو وطهران دوافع لاستغلال التوقيت، والضغط على أردوغان لانتزاع تنازلات في سوريا، فقد يكون فوزه في الانتخابات أهم لهما من كسب سوريٍّ زهيد بطبيعة الحال.
تضع السياسة الأمريكية سقفاً للتفاهمات التي يمكن إبرامها بين أنقرة والأسد، وهو غير منخفض جداً فضلاً عن أنه متحرك، وليس من ضمانة في أن لا يتأثر لاحقاً بما يفعله آخرون في سوريا. المظلة الأمريكية لا تغطّي قسد في كافة أماكن توجدها، لذا قد تدفع الأخيرة ثمناً حيث تتواجد بموافقة الأسد أو موسكو. قد يكون ريف حلب الشمالي من الأماكن المحتملة، فأنقرة طالبت مراراً بالسيطرة على تل رفعت ومحيطها، ومن بين الاعتبارات إبعاد قسد عن عفرين نهائياً، ما له دلالة معنوية أكثر منها ميدانية.
على العموم لا تُظهر واشنطن اكتراثاً ملموساً بالجغرافيا الواقعة خارج مظلتها العسكرية شرق الفرات، ولا تُظهر اكتراثاً بالتحركات الدبلوماسية المتعلقة بالشأن السوري، لأنها إذا تجاوزت الحد ستصطدم بالعقوبات الاقتصادية وبالوجود العسكري الأمريكيين. الركيزة الأساسية لاطمئنان المعارضة السورية واطمئنان قسد، رغم العداء المتبادل، هي في الموقف الأمريكي لا في الركون إلى مواقف حلفاء آخرين. طبّاخو المسار الرباعي يعرفون هذا جيداً، وهم أيضاً مطمئنون إلى الهامش الواسع المتروك أمريكياً.
السلبية الأمريكية تجاه الشأن السوري قد تفسّر الكثير من التحركات الدولية والإقليمية، فتوقف الفعالية الأمريكية سياسياً دفع القوى الأخرى إلى النشاط، لا حباً بالأسد أو قبولاً به، بل لأن حالة الجمود والتعفن لا تناسبها مثلما تناسب واشنطن. من هذه الزاوية، قد لا يكون تحرك بعض الدول العربية للتطبيع مع الأسد منافساً للتحرك التركي، أو على الضد منه، فتحرك بعض العرب مدفوع أيضاً بسلبية واشنطن، وبأن سلاح العقوبات لا يردع مثلاً تجارة الكبتاغون على المدى القصير. أما أنقرة فقد يئست بسبب عدم تجاوب واشنطن معها وعدم وضع قسد على لائحة الإرهاب الأمريكية، وهي تحاول عزلها في نطاق المظلة الأمريكية ما يقوّض مكانتها كورقة متعددة الوجهات.
إن السؤال عما تخبئه طبخة موسكو يقع في المنطق السياسي، لا ضمن تحرّي مؤامرة ما. في السياق ذاته، يمكن توقع ظهور نتائج لتفاهمات موسكو مع اقتراب الموسم الانتخابي التركي وصولاً إلى أواخر الشهر المقبل، لأن استطلاعات الرأي ترجح عدم فوز أحد من مرشّحي الرئاسة في الجولة الأولى، والاضطرار إلى جولة الحسم بعد أسبوعين من الجولة الأولى المقرَّرة في 14 أيار.
لا تستطيع واشنطن فرملة المسار الرباعي، على نحو الدور الذي كان لها في مواجهة الاندفاعة السعودية للتطبيع، ولا استعداد لديها لتقدّم لأردوغان ما يبعده عن الأسد. أما سياسة واشنطن بعدم التحرك الدبلوماسي المباشر بالشأن السوري، وعدم الانخراط في أي مسعى من أي نوع، فهي خدمت وتخدم أنقرة إذ تظهر الفعالية التركية الوحيدة المتاحة أمام الأسد وحلفائه. بل تُملي عليهم الواقعية السياسية التعامل مع “الممكن” التركي، طالما أن واشنطن ممتنعة عن الخوض فيما تريد حقاً وراء ربط وجودها بهدف لا تبدو له خاتمة هو القضاء “نهائياً” على الإرهاب.
ستحتدم المعركة الانتخابية في تركيا، ومن شبه المؤكد ألا تكون الساحة السورية بعيدة عن سخونة جارتها. ستكون الأسابيع الثلاثة أو الخمسة المقبلة عصيبة على ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، إذ يُستخدمون في التجاذبات الانتخابية، وستكون عصبية أيضاً “وربما دموية” على سوريين داخل سوريا سيُرغمون على دفع الثمن كما فعلوا من قبل، وكما سيفعلون لاحقاً، وكأن قدرتهم على ذلك لا تنضب!
*المدن