عمر قدور: ماالعمل إزاء أجسادهن؟

0

بالكاد انتهت الضجة التي أثارها مقتل الفتاة عيده الحمودي السعيدو حتى انتشر خبر مقتل الطفلة آية خليفو، خبرا القتل أتيا من مدينة الحسكة والمشترك بينهما قيام شخص أو أكثر من العائلة بقتل الضحية. في حالة عيده تولى القتل بالرصاص أحد عشر فرداً من عائلتها، بينما تولى الأب خنق طفلته آية بعد أن حبسها في البيت إثر تعرضها للاغتصاب من قبل ابن عمها. ما يثير الاستغراب في الحادثة الثانية أن الخنق نُفّذ بعد الحكم على ابن العم بالسجن من قبل قضاء “الإدارة الذاتية” بتهمة الاغتصاب، وربما أتى الحكم بمثابة تثبيت التهمة ما دفع الأب إلى تنفيذ حكمه أيضاً!

في إيراده خبر الجريمة الأولى أشار مرصد حقوقي، مقرّب من أوساط الإدارة الذاتية، إلى حدوث الجريمة في إطار العادات العشائرية، في حين تجرّم قوانين الإدارة هذا النوع كأية جريمة قتل أخرى. ولا يُستبعد أن تكون إشارة المرصد “المسيّسة” فيها تبرئة استباقية للإدارة الذاتية التي قد تقف عاجزة إزاء القتلة و”عاداتهم” البالية، وهو ما قد يحدث لأسباب مغايرة لما يسوقه المرصد إذ للإدارة حساباتها وتوازناتها السياسية والمجتمعية التي تؤخذ في الحسبان أكثر من القانون، وهذه ليست وصمة للإدارة الذاتية على نحو خاص إذ ليس جديداً أن يفلت قتلة “جرائم الشرف”، وأن يُفرطوا في التباهي بجرائمهم وتوثيقها في بلاد صارت أمثولة للإفلات من العقاب.

إننا بالعبارة السابقة نمسك بمدخل جيد لتنحية الاهتمام بتلك الجرائم، إذ لدينا من الأولويات السياسية والإنسانية التي تفرضها الكارثة السورية ما هو أجدر بالتوقف الدائم عنده من جرائم لا يجب المبالغة في عددها وعدد ضحاياها، فوق أنها مشكلة مركبة موروثة غير ملحة. إلا أن الدفع بمعاناة النساء إلى مرتبة متأخرة في سلم الأولويات يتناقض مع استخدامهن كسلاح في الحروب السورية، فسلطة الأسد واظبت منذ بروز الفصائل الإسلامية على إظهار المكانة التي توليها للمرأة ولو أن هذه المكانة شكلية، وقد رأينا تركيز الماكينة الإعلامية لحزب الاتحاد الديموقراطي على المقاتلات الكرديات مع إغفال جانب مهم وحساس مثل التجنيد الإجباري للفتيات وحتى القاصرات منهن، وبدا ذلك كله أكثر رأفة مما تفرضه الفصائل الإسلامية في أماكن سيطرتها على النساء من تقييد حريتهن في الملبس والحركة والعمل وهي تقدّم نفسها كحارسة لفضائل العفة. لا يقلل من فظاعة سلوك الفصائل وشرعييها ومسلحيها اضطرار شريحة واسعة من النساء في مختلف المناطق إلى التحجب “لباساً أو تنقلاً أو الاثنين معاً” بسبب الخوف من المسلحين وقدرتهم على استباحة أية امرأة يصادفونها في الطريق، وكانت إحدى الكنائس في مدينة اللاذقية قد أوصت قبل سنوات رعاياها من النساء بتوخي “الحشمة” كي لا تلفت أنوثتهن أنظار الشبيحة.

في خريف2018، وفي فيديو يوثق الجريمة، أردى بشار بسيس أخته رشا، وقيل أنه أفرغ في جسدها ثلاثة مخازن من الطلقات، بينما كان هناك صوت يشجّعه بالقول: اغسلْ عارك يا بشار. الجريمة وقعت في مدينة جرابلس، والأخ القاتل مقاتل في إحدى فصائل “درع الفرات” التي تسيطر على المنطقة، وبحسب بعض الروايات كان جسدها قد انتُهك من قبل بتعرضها للاغتصاب ما عُدّ عاراً ينبغي غسله بانتهاك أخير نهائي. 

قبل ذلك بنحو شهر عُثر على جثة ديانا عماد أبو حسون مرمية على طريق المطار في بلدة المزرعة التابعة للسويداء، الفتاة التي تبلغ السادسة عشرة قتلها أبوها بسبب تغيبها عن المدرسة. وكانت إدارة المدرسة قد استدعت الأب فوراً، وأبلغته بتغيب ابنته التي خرجت إلى الدوام كالمعتاد، وبحسب ما يُروى قال أحد الإداريين للأب: أبصر “بمعنى لا نعلم” بنتك مع مين بتكون رايحة هلق. سيكون من البطر الإشارة إلى أن عمر ديانا وقت مقتلها يُعتبر في العديد من الدول الغربية سنّ الخروج، أي السنّ الذي يُسمح فيه قانوناً للفتيات والفتيان بالخروج لوحدهم، مع ما يتضمنه هذا الحق من حرية التصرف بالجسد.

في آب2015 قُتلت سوسن زين العابدين محمد في طرطوس وهي بعد في “شهر عسلها”، جريمتها أنها عادت إلى بيت الزوجية من العمل متأخرة ساعتين عن المعتاد، ولم تعترف بالخيانة الزوجية خلال تعذيب أذاقها إياه زوجها لثماني ساعات، من دون أن يتدخل الجيران الذين سمعوا صراخها ولو بإخبار الشرطة، ليلقي بها الزوج أخيراً من الطابق الرابع. الصفحات الموالية عزت الجريمة حينها إلى تأثير الفكر “الظلامي الداعشي”، وكأن هذا النوع من الجرائم لم يكن يحدث من قبل لدى غالبية المجتمعات المحلية السورية وبغطاء من القانون الذي يمنح القاتل أعذاراً مخففة تصل في الكثير من الأحيان إلى التملص شبه التام من العقاب. أما إلغاء البند الخاص بـ”جرائم الشرف” مؤخراً فهو أيضاً لتجميل صورة سلطة الأسد، لأن الإلغاء لم يقترن بإلغاء ما يُسمى الدافع الشريف “المخفف للعقوبة على جرم القتل” في بنود أخرى من القانون. 

كان داعش، من ضمن العروض البصرية الفظيعة التي قدّمها، قد أقام حدّ الزنا “الرجم حتى الموت” على نساء في سوريا والعراق. أما جبهة النصرة فاختارت حينها طريقاً “أكثر حداثة”، إذ أعدمت النساء بإطلاق الرصاص على الرأس، وتصوير عملية الإعدام كما فعلت في قرية حفسرجة في ريف إدلب، وقبلها بأسبوع في بلدة معرتمصرين في ريف إدلب أيضاً. كان فيديو معرتمصرين قد نال انتشاراً أوسع، وفيه تُعدم امرأة خمسينية بتهمة امتهان الدعارة، عملاً بالآية: وإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتلوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. في الفيديو كانت المرأة تتوسل إلى قتلتها كطلب أخير لم يُلبَّ لها: الله يرضى عليكم، خلوني شوف ولادي.. الله يوفقكم، مشان النبي، خلوني شوف ولادي.

كي لا نحسن الظن، ليست الكارثة السورية الأكبر والأعم هي السبب في عدم إيلاء تلك الفظاعات حقها من اهتمام يتعدى لحظة وقوعها، فالتجارة بالنساء وتسييس ما يتعلق بها لم يتوقفا رغم الكارثة ذاتها. بل إن كسب التعاطف مع الضحية استلزم في معظم الحالات التركيز على أعذار مقبولة اجتماعياً تبرر للضحية فعلتها من المنظور نفسه. هكذا مثلاً يُستحضر صغر السن أحياناً، أو يُصغّر للاستعطاف كما في مثال عيده الحمودي السعيدو، أو توسل تلك المرأة لترى أبناءها قبل الموت، أو تبرئة الضحية من الشكوك كما رأينا في حالة سوسن زين العابدين محمد التي قيل أنها عندما تأخرت كانت رفقة أخيها، وكذلك في حالة ديانا عماد أبو حسون التي قيل أنها كانت رفقة زميلات لها في السوق. الفظيع الإضافي في حالة ديانا، والعديد من الحالات المشابهة، هو منح الضحية قرينة البراءة بـ”نجاحها” بعد إخضاعها لفحص العذرية.

الإسهاب في سرد ما سبق لا يستغرق إلا جزءاً يسيراً من العنف المباشر الممارَس على أجساد النساء، بينما يبدو السؤال المسيِّر لثقافة سائدة هو: ما العمل إزاء أجسادهن؟ وهو سؤال يستهدف “تأميم” أجساد النساء لصالح مؤسسات تبدأ بالعائلة والمجتمع الأضيق وتنتهي مع قمة السلطة السياسية والدينية. ولعل واحداً من أوجه الخصوصية البشعة غياب المدّعين الشخصيين، فالذين يأخذون عادة صفة الادعاء الشخصي هم القتلة. لا ينفع هنا ذلك الجدل الخجول الذي يسعى لتبرئة الإسلام من هذه الجرائم، باستحضار حد الزنا واستحالة إقامته عملياً، طالما بقي من غير الوارد في الأمد المنظور تبرؤ الهيئات الإسلامية المؤثرة منها.

إعادة ملكية الجسد الحصرية إلى صاحباته باتت تتطلب موقفاً أكثر جذرية، موقفاً يعترف بحقهن في التصرف بأجسادهن، والاعتراف بلا مواربة بحقهن كفاعلات في الحقل الجنسي لهن حرية التعاقد الذي يقررونه. انطلاقاً من هذا الفهم، من الأفضل الخوض في هذا المضمار على أرضية لا تفتش عن “أعذار” للضحية “وللقاتل ضمناً”، فهي لا تستحق التعاطف لأنها مثلاً عذراء، أو لأنها عندما تغيبت عن البيت أو المدرسة كانت رفقة صديقاتها. 

الانتصار لتلك النسوة، ولعموم النساء، هو في الدفاع عنهن على افتراض أنهن فعلن “أسوأ” ما يُتهمن به واعتباره حقاً لهن، سواء راق ذلك أم لم يرُق لغيرهن. إنه في المعنى العميق انتصار أيضاً لرجال لا يهدرون طاقاتهم ولا يأسرون أنفسهم في سؤال التسلط “ما العمل إزاء أجسادهن؟”، رجال لا يخافون من أجساد النساء ولا تتملكهم إزاءها عقدة الخصاء.

*المدن