عمر قدور: لكن الأسد ليس إطفائياً!

0

يُنسب إلى الزعيم العراقي عبدالكريم قاسم قوله في خطاب له: يقولون في العراق ماكو بيض، إذا الدجاج ما قام يبيض آني أبِيض؟ بعض الذين عاصروا قاسم تداولوا الطرفة “التي لا ندري مدى صحتها” للانتقاص منه، فهو لا ينطق باللغة المتعالية لرجل دولة، خاصة إذا كان المعيار المقابل له خصماً سياسياً مفوَّهاً بالشعارات مثل عبدالناصر. وهو “أي قاسم” يتنصل من مسؤولياته كرجل دولة عن تأمين لوازم العيش بمنطق يصحّ شكلياً، إنما على نحو هزلي.

مع اندلاع الثورة ومطالبة الليبيين بتنحي القذافي، أطلق الأخير عبارة مشابهة بما معناه أنه لو كان رئيساً لرمى لهم الاستقالة في وجوههم، لكنه ليس رئيساً. على القياس نفسه، يجوز لنا “الدفاع” عن بشار الأسد في وجه منتقدي تعاطي سلطته مع الحرائق الفظيعة التي نشبت مؤخراً في أحراج وغابات ثلاث محافظات سورية، فهو ليس إطفائياً ليقوم بإخمادها، أو ليُنتقد على عدم فعله ذلك. استطراداً في الهزل، قد نضع اللوم على الأشجار التي لا تقاوم الحريق، وهو يصلح كاستطراد منطقي لمنطوق سلطة الأسد التي ألقت باللوم في الموجة الأولى من الحرائق على الأهالي. 

لكن الأسد ليس إطفائياً حقاً، وخارج الهزل أيضاً. وألا يكون إطفائياً فهذا لا يستتبع أن يكون قد أشعل الحرائق، وهي تهمة رددها البعض أثناء الموجة الأولى في مطلع أيلول الماضي ويرددها البعض اليوم. تهمة تبحث عن سند، مرةً بتفسير الحريق كسباً لمساحات فارغة من أجل شركات سياحة روسية، ولا ندري كيف تُدمّر أهم المعالم السياحية لإنشاء مشاريع سياحية مكانها! ومرة أخرى بتفسير الحريق رسالةً موجهة إلى موسكو التي تسعى إلى الهيمنة المطلقة، وفحواها ليس جديداً: الأسد أو نحرق البلد. أي أنه سيحرقها قبل تسليمها للروس. 

في محاولة فهم أسباب اندلاع الحرائق، وعدم التعامل معها كما ينبغي من قبل سلطة الأسد، مساحةٌ واسعة لترويج سيناريوهات لا تختلف عن التبرير للأسد بعبارة من قبيل أنه ليس إطفائياً إذا توقفنا عند ظاهرها المبتذل. هذه السيناريوهات تُخاطر بترويج فهم غير واقعي، أو غير مفيد أحياناً، لسلطة الأسد ولعلاقتها بمحكوميها، ولا يندر أن تكون قليلة الانتباه إلى أطوار السلطة وأطوار علاقتها بمحكوميها. على سبيل المثال، نستطيع القول أن الأسدية نموذج لإحراق البلد مجازياً وفعلياً، ويكون ذلك صحيحاً جداً من دون أن ينطبق على كافة الحرائق بالمعنى الحرفي أو الجنائي المباشر. ونستطيع فهم عدم اكتراث السلطة بموجتَي الحرائق خلال ما يقارب الشهر على أنه من طبيعتها، من دون فهم إهمالها استكمالاً لإشعالها المزعوم للحريق، فالإهمال كطبيعة مستدامة لها فيه ما يكفي من تجريم لا يفتقر إلى أدلة وبراهين. 

هل هناك بين المؤيدين المتحمسين للأسد من يعتقد في قرارة نفسه أن الأسدية حريصة حقاً عليه وعلى مصالحه؟ إذا وجدت نسبة تظن ذلك فمن المرجح أن تكون أقل من نسبة أولئك الذين يعتبرون الأسد طائفياً، ويمثل مصالح طائفته. نبدأ بالملمح الطائفي لا لكونه الرابطة الوحيدة بين الأسد ومحكوميه، وإنما لسهولة استخدامه في تفسير ما يستغلق على الأفهام ضمن علاقة غير متكافئة على الإطلاق. العقد المضمر بين الأسدية وأتباعها خالٍ من مسؤوليات مترتبة عليها، مسؤوليات هي عادةً من طبيعة القوى التي تسيطر على أجهزة الدولة ومواردها، لتأتي المغالطة الأولى والأساسية إذ ينتظر موالٍ سلوكاً عادياً من سلطة استثنائية، وعلى المنوال ذاته ينتقد معارض تلك السلطة التي يدرك استثنائيتها لأنها لم تظهر ردة الفعل الاعتيادية التي تظهرها سلطات غير استثنائية.

كان ثمة قناعة سورية قديمة، لدى نسبة معتبرة من الموالين والمعارضين، أن السلطة قادرة على إصلاح نفسها بالتخلي عن قليل من الجشع إلى النهب، وباعتماد القليل من معايير الكفاءة مع المحافظة على نسبة من المحسوبيات المعهودة في المناصب. بعبارة أخرى، تضمن السلطة لنفسها ولاء أوسع وديمومة مضمونة أكثر، في حال جعلت من الرابطة بينها وبين محكوميها أرأف بهم قليلاً. مثل هذه القناعة سيطل علينا من ثنايا محاولات خارجية لترميم وإصلاح “النظام”، أو لإعادة تدويره بتعبير غربي، على الرغم مما ارتكبه من جرائم، وأيضاً على الرغم من أن سلطة الأسد لم توفر مناسبة لإفهام حلفائها وسواهم أنها لا تعتزم التغيير. لن يكون منصفاً تفسير اجتماع تلك الرغبات من أجل مصلحة الأسدية واستمرارها، وممانعتها ما يخدم مصلحتها، بغباء تختص به ولم يحلْ دون بقائها نصف قرن حتى الآن. 

مرت الأسدية بطور أراد من خلاله الأب المؤسس بناء دولته، الطور الذي اكتمل وانتهى مع فكرة التوريث والشروع في تنفيذها. لقد رأينا كيف تحسس الوريث انتهاء صلاحية دولة الأب، من دون أن يكون مستعداً للانفكاك عنها. ما رأيناه شبيه بماكينة ضخمة تجاوزت عمرها التشغيلي، ومن المحتم دخولها في سلسلة لا تنتهي من الأعطال والأعطاب. لو نجحت الأسدية في مواجهة الثورة، بقوتها الخاصة وقوة مواليها، لكان هناك كلام آخر. أما نجاحها بسند إيراني ثم روسي فلا يدل فقط على انهيار عسكري، بل على انهيار وانتهاء صلاحية تامّين. ومن نتائج بقائها بالدعم الخارجي تدني ما لم يكن له قيمة حقيقية لديها، أي تدني منزلة جمهورها الذي لا يُحسب له فضل إنقاذها ومن ثم أحقية الشراكة معها، والشراكة مع الجمهور العريض تعني قليلاً من شبهة الدولة. 

أظهرت اللامبالاة الروسية والإيرانية إزاء الحرائق السورية أن شراكة قوتَي الاحتلال هي مع السلطة حصراً، بما هي عليه من احتقار لمحكوميها. ليس هذا وحده ما يعزز البنية المعتادة للسلطة، فإلى جانبه إدراكها أنها أصبحت مجرد سلطة أمر واقع محمية خارجياً، ويمكن استبدالها متى اقتضت مصالح الخارج. وفق هذا المعيار، وخارج التفاضل الأخلاقي، لا أفضلية لها على سلطات الأمر الواقع في أجزاء أخرى من سوريا، فلا واحدة منها تنعم باستقرار وترى مستقبلها بيقين كافٍ من أجل بناء شبكة مصالح أوسع، وأبعد زمنياً.

في غدٍ لا نعرف توقيته، قد يشعل أحد ناراً للاستخدام الشخصي فتمتد لتحرق ما تبقى من غابات وأشجار مثمرة في سوريا، إذا لم يكن الذي أشعلها “متكسب” صغير يريد المتاجرة ببعض الفحم، ويرى في ذلك حقاً له بالمقارنة مع مجرمين كبار. قد ينشب حريق ضخم في منطقة سكنية أو تجارية بسبب اهتراء أسلاك الكهرباء العامة، وقد ينفجر من الاهتراء أيضاً أنبوب رئيسي لمياه الشرب، قد تقع كوارث طيران لا يقلل من احتمالها سوى ندرة عدد طائرات النقل المدنية، وقد تحدث سيول وفيضانات في الشتاء بسبب عدم جاهزية أنظمة الصرف الصحي. أية كارثة كانت لتمر في دولة أخرى بلا خسائر قد تتضخم لتصبح كارثة كبرى، والقليل من النباهة يقتضي عدم التساؤل عن غياب الدولة، ويقتضي أيضاً عدم الاحتفاء وكأن الأسدية تثبت للمرة الأولى ما هي عليه.

*المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here