لن يستمتع بعد اليوم معتقلو سجن صيدنايا بمذاق الهمبرغر، وستتوقف شركتا ماكدونالد وكنتاكي عن التنافس على توريد الوجبات إلى ذلك السجن الشهير العريق. ربما يكون هذا خبراً ساراً لأصدقاء البيئة بسبب ما كان يخلّفه تغليف الوجبات من نفايات صعبة التدوير، وكذلك لأنصار التغذية السليمة الذين لطالما احتجوا على تزايد السمنة بين المعتقلين. “الطاقم الإداري” للسجن سيعاني أيضاً من انقطاع التوريدات العالمية، فالشركات الكبرى للتكنولوجيا الرقمية لن تتنافس على تقديم أفضل أنواع الكمبيوترات التي تضمن توثيق وأرشفة أدق تفاصيل السجن، وعلى تقديم ألطف برامج التعذيب الافتراضية لاستخدامها فقط مع “السجناء شديدي الخطورة”. وإذا تركنا باب السخرية موارباً، لن تتمكن بعد اليوم شركات ألمانية “بمنافسة من أخرى صينية مقلِّدة” من توريد الكرسي الألماني الشهير، وكذلك سيكون حال كارتلات التمديدات الصحية التي ستفقد أضخم سوق لرواج الأنبوب المسمى “الأخضر الإبراهيمي” المستخدم في ملامسة أجساد المعتقلين. سياسياً، لن يتأخر مندوبا روسيا والصين في مجلس الأمن عن إبراز المجاعة التي ضربت السجن، بسبب إضراب السجناء عن الطعام بعد انقطاع وجبات ماكدونالد وكنتاكي، وسيلوّحان بما عُرف بصور قيصر، “صور قيصر ذاتها”، لإثبات موقفهما.
إذاً، بعد طول انتظار، صدرت أول قائمة عقوبات أمريكية “خاصة بسوريا” في عهد بايدن، وبعد لوعة طالت وُضعَ سجن صيدنايا على قائمة العقوبات الأمريكية! وإذا كان مفهوماً وضع ضباط أو جلادين على قائمة العقوبات الدولية، ما لا يمكن فهمه “إلا على منوال الهزل المرّ في الاستهلال” أن يُعاقب سجن سوري كأنه منشأة لها زبائن سيكفّون عن التعامل معها تحت ضغط العقوبات، وكذلك هو حال سبعة سجون أخرى قد تكون الفائدة الوحيدة من إدراجها هي إطالة القائمة الأمريكية.
ضمت القائمة الجديدة أسماء ضباط مخابرات، وهذا مفهوم كإشارة رمزية ليس إلا. إذ من المعلوم أن ضباط مخابرات الأسد لا يودعون أموالهم بمنتهى الشفافية في بنوك الخارج “وحتى الداخل”، وليس من عادتهم قضاء عطلاتهم أو إجازاتهم خارج البلاد. أي أن وجود هؤلاء مع السجون الثمانية لا يعدو كونه رسالة رمزية، تقول من خلالها إدارة بايدن أنها تضع موضوع المعتقلين ضمن أولوياتها، وفي هذا استئناف لخطابها حيث دأب مسؤولوها على تقديم ما هو إنساني على ما هو سياسي، أو اعتبار الشأن الإنساني مدخلاً “ولو مديداً جداً جداً” إلى السياسي، بخلاف ما يراه كثر حول استحالة معالجة الشق الإنساني من الكارثة السورية ما لم يُعالج جذرها السياسي.
تريد إدارة بايدن الإيحاء بأنها ماضية في إقرار عقوبات جديدة على الأسد، لكن بطريقة لا بد أن يكون الأخير وحلفاؤه مسرورين بها، فالقائمة الجديدة تتفوق بالمطلق على سابقاتها لجهة انعدام تأثيرها حقاً لا كما اعتاد رهط الممانعة على إنكار آثار العقوبات. قد يُفسّر انعدام الفعالية المتعمد بإرضاء موسكو بعد موافقتها على التمديد لإدخال المساعدات الإنسانية عبر باب الهوى، وأغلب الظن أن هذا لن يرضي موسكو التي تريد مقايضة التمديد اللاحق “إذا حصل” بما هو أهم من إبقاء واشنطن على المنسوب السابق من العقوبات التي أُقرت في عهد ترامب.
من بوابة التوازن والشمولية بعثت إدارة بايدن برسالتها الأهم، فالعقوبات لم تعد حكراً على الأسد، إنها “متوازنة” بحيث تشمل أصحاب الانتهاكات من خصومه، وتتعقب منتمين إلى تنظيمات مصنّفة على قائمة الإرهاب. أي أن الإدارة الحالية تتجاوز هدف العقوبات بموجب قانون قيصر، وهو الضغط على بشار وردع حلفائه عن إنقاذه بإعادة الإعمار، على أمل أن يؤدي الضغط إلى تغيير سياسي بموجب القرار الدولي 2254. اللائحة الجديدة تعني عملياً وضع أنقرة تحت ضغوط إضافية بحكم سلطتها على الفصائل التي ترعاها، ووجود فصيل “أحرار الشرقية” في اللائحة الجديدة قد يكون أول الغيث.
معيار التوازن لا يطابق معيار الفعالية، ففعالية العقوبات على بشار مرهونة بتجاوبه مع العقوبات وهذا مستبعد بالمطلق، أو بتجاوب موسكو وطهران معها وهو مستبعد أيضاً، أي أن فعالية العقوبات على بشار وسجونه وضباط مخابراته هي صفر. أما العقوبات على أي فصيل ترعاه أنقرة فسيرتّب عليها مسؤوليات لا تستطيع التهرب منها كما تفعل موسكو وطهران، فتركيا تربطها علاقات تاريخية متشعبة بواشنطن والغرب عموماً، ولن يكون من السهل إدارة الظهر نهائياً إلى حلفاء الأمس القريب، ولن يكون سهلاً على أنقرة الوقوع بين مطرقة بايدن وسندان بوتين.
إن منطق العدالة يبقى في هذه الحالة شكلياً ومولِّداً لمزيد من القهر، فالتنظيمات الوحيدة والأشخاص المهددين حقاً بالعقاب هم غير المحميين بوجودهم تحت سلطة بشار. أما المجرم الأكبر ومساعدوه في التدمير والإبادة والتهجير فهم في منأى عن الملاحقة الفعلية والعقاب، بل لا يُستبعد لاحقاً مقايضة إفلاتهم من العقاب بـ”تنازلات” شكلية يقدّمونها ويرى “المجتمع الدولي” أنها كافية لتسوية “عادلة” للملف السوري. جزء من القهر الذي يولّده هذا المنطق عدم القدرة على مواجهته من منطلق العدالة ذاتها، لأن إفلات البعض من العقاب لا يعني إعفاء الباقين من الملاحقة والعقاب، ولأن انتهاكات المجرمين الكبار لا تبرر انتهاكات نظراء لهم أو مجرمين صغار.
وُضعَ فصيل “أحرار الشرقية” على قائمة العقوبات بسبب قتله هفرين خلف الأمينة العامة لحزب “سوريا المستقبل”، وكان أفراد من الفصيل قد وثّقوا عملية الإعدام الميدانية التي حدثت أثناء مشاركتهم في عملية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا للسيطرة على المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين في تشرين الأول2019. وإذا استمرت واشنطن في تقصي الانتهاكات وضم مرتكبيها إلى قوائم العقوبات فهناك بالتأكيد ما يفوق حادثة مقتل هفرين خلف على بشاعتها، ومن المرجح أن سيف العقوبات سيكون مسلطاً على غالبية الفصائل المدعومة من تركيا، أو بالأحرى سيكون مسلطاً على الداعم بشكل أساسي.
السؤال الشكلي الذي لا بد أن يقفز إلى الذهن: وماذا عن سلطة الإدارة الذاتية المتهمة بانتهاكات أيضاً؟ وفي حق خصومها الأكراد على حد سواء مع خصومها العرب؟ وماذا عن الاتهامات الموجهة إلى قسد أثناء الحرب ضد داعش، حيث اعترفت واشنطن نفسها بقصف مدنيين بالخطأ بناء على معلومات خاطئة “قد تكون كيدية أو ثأرية” مقدمة من قسد؟ وهل التحالف مع قسد ومسد سينجيهما من الضغوط الأمريكية بما أن لائحة العقوبات انتقائية ومسيَّسة في الأصل؟
لعل الإجابة الأقرب إلى البراغماتية المعهودة أن واشنطن لن تستبعد قسد ومسد من التصويب عليهما، وتوسيع إطار العقوبات فيه تهديد مؤجل لهما بقدر ما يكون أنصارهما فرحين مؤخراً بضغط العقوبات على تركيا. لم يكن السلوك الأمريكي محترماً عندما رمى مسؤولية قصف مدنيين على قسد مع علم واشنطن بالحساسيات الكردية-العربية، ولم يكن كذلك بعدم ضغط واشنطن كما يجب لإنجاز تفاهم كردي-كردي، أو لتحييد تأثير قيادات قنديل عن الشأن الكردي السوري، وتالياً تحييد أكراد سوريا عن صراع تركي-تركي بأدوات سورية. تورط الإدارة الذاتية في أخطائها أو انتهاكاتها لا يخرج عن الرغبة الأمريكية في تورط الجميع، وهم بالتأكيد لا يرتكبون انتهاكاتهم بناء عليها، إذ ليس أفضل من خصم أو حليف متورط، سواء للضغط والسيطرة عليه أو للتضحية به.
*المدن