يصعب على صاحب إحساس نسيان تلك الأم التي تؤكد وجود ابنها بين ضحايا مجزرة مروعة من مجازر الأسد، ولا يصعب الانتباه إلى مغزى تأكيد الأم لمرات عديدة إضافية على أن البنطلون الذي يلبسه القتيل في صور المجزرة هو البنطلون ذاته الذي خرج به الابن، والذي “بحسب قولها” ناولته إياه بيدها. لقد امتلكت هذه الأم شجاعة التحدث عن ذلك في وثائقي لتلفزيون العربي، وامتلكت شجاعة التأكيد على مقتل ابنها، الشجاعة التي قد يفوتنا الانتباه إليها ما لم ننتبه إلى ركنين ينتقصان من فكرة الموت؛ لجوء أسرة القتيل إلى بلد أوروبي وعدم معرفة مصير جثة القتيل على وجه الدقة.
نتحدث هنا عن المعنى الرهيب لامتناع الموت عن الاكتمال، الموت كما هو معتاد لدى البشرية عموماً. نتحدث أيضاً عن المحتوى الفظيع لصناعة “اللاموت”، وبدايةً سيبدو من المستغرب حديثنا هذا عن سلطة احترفت صناعة القتل بكافة أشكاله.
أول ما ينتقص من فكرة الموت في حالتنا غيابُ الجثة وعدم معرفة مصيرها. في المعتاد لدى البشرية أن المحتوى الفيزيائي للموت حاضر دائماً، وغيابه هو الاستثناء، بينما نتحدث في حالتنا السورية عن عشرات الألوف من القتلى الذين لا تُعرف مصائر جثثهم. المعلومات المتوفرة عن مقابر جماعية سرية، أو عن محارق للجثث، تعطينا تصوراً عاماً عن مصير الجثث، إلا أنها لا تعوّض على نحو فردي ما هو ملموس في الموت.
بسبب غياب الموت الملموس، يجب عدم لوم “بل احترام مشاعر” مئات الألوف من الأهالي الذين لا يصدّقون موت أحبتهم، ومنهم من أُبلغوا من قبل السلطة نفسها بموتهم في المعتقلات. غياب الجثة يدعم الميل الطبيعي إلى إنكار الموت، و”صناعة اللاموت” الأسدية تعزز ذاك الميل إذ تنكشف حالات لمعتقلين تبين وجودهم أحياء رغم إبلاغ أهاليهم بمقتلهم. ربما يكون الإبلاغ عن موت معتقل بينما هو حي خطأً من أخطاء بيروقراطية المخابرات، إلا أنه يخدم الصناعة المذكورة على أتمّ وجه، وهو يزرع الشك حتى في رؤوس من يُفترض أنهم “ارتاحوا” منه.
في الدائرة الأوسع للضحايا، ملايين السوريين الذين اختبروا تجربة الموت عن بعد باتوا يدركون ما يعنيه غياب الوجه الملموس للموت. الحديث هنا عن الملايين الذين لا يستطيعون المشاركة في المراسم المعتادة لجنازة مقرّبين جداً لهم، وعلى ذلك لا يستطيعون عيش تجربة الحداد المعتادة. إذا كان الغياب والفقدان من أوجه الموت فهما متحققان أصلاً في هذه الحالة، ولا يضيف خبر الموت سوى فكرة مجردة طالما أن سامع الخبر لا يستطيع الذهاب لإلقاء نظرة وداع على الميت، أو الذهاب لاحقاً لإلقاء نظرة على قبره.
في الحالة الأخيرة ثمة موت مثبت، لا شك فيه، لكن في جهة واحدة فقط، بينما ذوو الراحل مشتتون بين الداخل السوري والخارج، أو بين العديد من البلدان. هي حالة ملايين السوريين الذين صار الموت بالنسبة لهم مجرد فكرة حدثت بعيداً عنهم، وحتى فقيدهم هو مجرد فكرة في رؤوسهم عمّن عرفوه قبل سنوات، فكرة لا تطابق حقاً ذاك الذي رحل. كذلك سيكون حالهم عندما يموتون في الشتات، ورغم تطور وسائل الاتصال والتواصل فإنها لا تعوّض التواصل الفيزيائي المقطوع، ولا تجعل الموت البعيد “غير الملموس” أقرب إلى التصديق بالمعنى العميق لذلك.
خارج سوريا يظهر أقوى أثرُ غياب المستوى الاجتماعي للموت، لكن المستوى نفسه يتبدد في سوريا أيضاً بحكم انقسام العائلات ودوائر القربى والأصدقاء بين مناطق نفوذ أشبه بدويلات مغلقة الحدود فيما بينها. هكذا، لن يحضر مراسم الدفن والعزاء سوى عددٍ يتناقص من المقرّبين الذين عرفوا الميت، وسينحسر المعنى الاجتماعي للموت والحداد.
نعلم أن الفقد هو شعور شخصي، وندرك أيضاً أن للموتِ وطقوسِه جانباً اجتماعياً ينتقص غيابه من الإحساس بالموت، والجانب الاجتماعي متصل بالميت لا فقط بمن يتلقون العزاء. إن مشاركة أوسع ممّن عرفوا الميت هي بمثابة تأكيد اجتماعي على الفقد، وعلى وقوع حدث الموت بالمعنى العام. هذا ما لم يعد يحدث ضمن واقع الشتات السوري، وهو ما يمتنع حدوثه عندما تمتد فكرة إنكار الموت، أو عدم التأكد التام من حدوثه، إلى نطاق يتعدّى المعنيين به مباشرة.
في إدراك لأهمية الجانب الاجتماعي، جزء من الصناعة الأسدية للموت واللاموت مقترن بترهيب أهالي الضحايا ومنعهم من إقامة الحداد المعلن. هذا ما بدأ منذ مستهل ثمانينات القرن الماضي، حيث كان الترهيب منصرفاً على نحو خاص إلى معتقلي وقتلى الإخوان المسلمين وأهاليهم، فكان من الممنوع بشكل قاطع الإعلان عن موتهم بنعوات مطبوعة أو من منابر المساجد، وكذلك إقامة مراسم الحداد العلنية. أكثر من هذا، كان كثر من المعارف يتحاشون تقديم العزاء لأهالي الضحايا، ولو خلسة، خوفاً من العقاب.
بالعودة إلى تلك الحقبة، يمكننا القول أن صناعة “اللاموت” بدأت قبل أكثر من أربعة عقود مع ألوف المعتقلين الذين لم يُعرف مصيرهم، أو لم يُعرف مكان دفنهم، ومع الألوف من ضحايا المجازر الجماعية الذين لم يُعترف بمصيرهم أو مكان دفنهم، وفي طليعتها مجزرة حماة الكبرى. بعبارة أخرى، ليست هذه الصناعة ابنة اليوم، وليست ابنة ارتجال من أي نوع. إنها صناعة مجرّبة من قبل، وأبعادها الفظيعة معروفة جيداً، وهي معتمدة كنهج توأم لصناعة القتل الكبرى.
في الصباح الباكر لعيدي الفطر والأضحى، اعتادت نسبة عظمى من السوريين زيارة قبور المقرّبين. في هذا التوقيت وفي سواه، توالى في السنوات الأخيرة انضمام زوار جدد إلى المقابر من أهالي المقتلة السورية، فضلاً عن الوفيات الطبيعية، ومَن يتصفح وسائل التواصل الاجتماعي يكاد يظن أن السوريين لا يفعلون شيئاً سوى الموت. أخبار الموت هذه تحجب واقع أنه غير متحقق تماماً لكثر من السوريين، وتحجب معاناة مئات الألوف على الأقل مع الشك الفظيع المتعلق بمصير أحبائهم. نحن ربما لا نجازف بالقول أن ملايين السوريين بحاجة إلى لمس ذلك الموت الذي سمعوا به، بحاجة حقيقية إلى التخلص من عدم اليقين المدمر، بحاجة إلى الاعتراف والعزاء، بحاجة إلى أن تنزل تلك الدموع العالقة منذ سنوات في العيون.
*المدن