صار معروفاً على نطاق واسع أن عناصر من فصيل المعارضة “أحرار الشرقية” ارتكبوا جريمة بشعة عشية عيد النوروز، عندما قتلوا أربعة من عائلة واحدة في جنديرس لأنهم كانوا يشعلون النار التي تعدّ ركناً أساسياً من طقوس ليلة العيد. بعد يومين فقط، استهدفت قوات الأسايش الكردية مراهقاً عربياً يقود دراجة نارية في مدينة “الطبقة”، مخالفاً بذلك تعليمات تمنع مرور الدراجات النارية في الشارع الذي يتمركزون فيه.
القتلى الأكراد الأربعة من عائلة عثمان “المعروفة أيضاً بلقب بشمرك” قضوا برصاص عناصر الشرقية، والمراهق محمد ماجد الصالح تلقّى ثلاث رصاصات في ظهره. قد يُقال أن الحادثة الأولى سياسية بامتياز، لأن الدافع فيها منْع احتفال رمزي قومي، بينما الحادثة الثانية “فردية”، فيها في أقصى الأحوال تعسّف في تنفيذ قرار “إداري-عسكري”، والمراهق الضحية لم يُقتل لأسباب عرقية. لكن حتى إذا كان هذا المنطق يحتمل الصواب فهو غير كافٍ لأنه لا يواجه حساسية مقتل أكراد بأيد عربية، ومقتل عربي بأيد كردية، وآثار الحادثتين على الجانبين.
كي لا يكون هناك اختباء وراء الشكليات؛ يوحّد بين الحادثتين استسهال القتل، وفيهما تمّ استخدام الرصاص بقصد القتل لا بقصد التخويف مثلاً. بالطبع، قتلُ أربعة أفراد من عائلة واحدة فيه ما لا يحتاج إلى شرح لجهة القتل المتعمد، وفي حالة ذلك المراهق لا يمكن أن يُصاب بثلاث طلقات في الظهر لو لم تكن النية قتله؛ كان يمكن لو توفرت نية أقلّ أذى أن تُستهدف ساقاه، وإذا كان لا بد أصلاً من استهدافه لا يصعب التصويب على دولابي الدراجة النارية وإيقاعه مع ترك احتمال لنجاته. نذكّر بأن جهات حفظ الأمن في العالم غير مخوّلة بإطلاق النار بقصد القتل، إلا عندما تتعرض لهجوم من الطبيعة ذاتها، وعندما يعمد المهاجم المسلّح إلى استخدام سلاحه ضدها أو ضد الذين تتوجّب حمايتهم.
مثالُ المراهق القتيل ليس الأول من ضمن الانتهاكات المنسوبة إلى المنظومة الأمنية-العسكرية للإدارة الذاتية في حق السكان العرب، يُضاف إليها العديد من انتهاكات حرية الرأي أو غيرها راح ضحيتها أكراد وبقي الفاعل مجهولاً، أو معلوماً وبلا حساب. الحال أسوأ بكثير في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، وعفرين “التي تتبع لها جنديرس” لاقى سكانها الأكراد أكبر نصيب من الأهوال منذ احتلتها تركيا قبل خمس سنوات. لكن استباحة السكان الأكراد على هذا النحو ينبغي ألا تغطي على سلوك الفصائل الذي لا يستثني العرب من الانتهاكات، في أرواحهم أو أرزاقهم، ولا يستثني الطبيعة التي تعرّضت لتدمير واسع خاصةً بغرض تحطيب الأشجار وجني أرباح ضخمة من بيع الخشب للتدفئة.
أثارت حادثة جنديرس استنكاراً واضحاً بين معارضين عرب على وسائل التواصل، حتى إذا بقي دون الانتشار المأمول، بينما لم يلقَ المراهق القتيل في “الطبقة” تعاطفاً كردياً، ولو ضمن الحد الأدنى، باستثناء أصوات مبعثرة قد لا تتجاوز أصابع اليد. لا نريد بهذه المقارنة إعطاء أفضلية للمعارضين العرب، فما صدر عنهم من إدانات هي خطوة في الاتجاه الصحيح ليس إلا، أما تقصير نظرائهم الأكراد تجاه انتهاكات الإدارة الذاتية فهو استنكاف عن أقل ما يمكن فعله.
في حادثة قتل المراهق مثلاً، يتدنى رد الفعل المأمول من قبل ناشطين أكراد إلى حد الاعتراف بالحادثة وعدم تجاهلها، والمطالبة بالتحقيق فيها. هذا حدٌّ دون السياسة واصطفافاتها، وفيه رفض لمبدأ الانتهاكات نفسه كي لا تحدث في حق الأكراد الخاضعين للإدارة الذاتية. أيضاً، ردّ الفعل هذا مطلوب لأن الذي يتجاهل حادثة القتل كمن يطلق النار على قدميه أو رأسه، فهو يبرر لأولئك العرب الصامتين على جريمة جنديرس، وهو ضمناً كمن يضع جريمة مقابل أخرى، ودماً بدم، ليكون القتلة متساويين على الجانبين.
حتى إذا لم يحدث هذا علناً، لا يُستبعد النظر إلى مقتل المراهق كعمل ثأري، ومبررٍ بناء على ذلك، ثم يُبنى على التبرير تبرير آخر لعدم محاكمة القتلة في جنديرس. وهكذا تؤسس الجريمة الحالية لثأر لاحق، ويبرر القتلة من كل طرف أفعال القتلة من الطرف الآخر، بينما ينشغل الضحايا في جدال مَن منهم كان الضحية الأولى، ومظلومية مَن منهم لها الأولوية على مظلومية الآخر.
كسْرُ هذه الحلقة الدموية، على صعيد قوى الأمر الواقع، يقع على عاتق القوة التي ترى نفسها الأفضل، أو تلك التي يُنظر إليها بوصفها الأقل سوءاً. فإذا كانت الإدارة الذاتية ترى نفسها في هذا الموقع فهي الأولى بأن تقدّم النموذج الأفضل، وأن تحاسب أي مرتكب على انتهاكاته، من دون تمييز بين الضحايا. وهي، إذا فعلت ذلك، لا تكسر حلقة الثأر والثأر المضاد فحسب بل تقدّم النموذج المطلوب كي لا تكون سوريا بأكملها أرضاً للإفلات من العقاب. النموذج الأفضل مطلوب أيضاً من أولئك المواظبين ليل نهار على تكرار اتهام قسد بأنها إرهابية وانفصالية، ولا يجدون أنفسهم مطالبين بتقديم تجربة وطنية فيها حدّ أدنى من العدالة واحترام الحريات الشخصية والعامة.
وإذا كان من السذاجة توقّعُ أن تفعل سلطات الأمر الواقع ما لم تفعله خلال عشر سنوات، فإن من المهم في هذه الظروف أن يبادر مَن هم خارج تلك السلطات إلى التبرؤ من انتهاكاتها، لأن الصمت عليها يؤوَّل على نطاق واسع بأنه موافقة وتشجيع. لا تتعلق إدانة الجرائم “والمنطق الثأري من ورائها” بالأخلاق وإنما بالسياسة أولاً، إذ لن ينجو أحد بخطاب الكراهية والتحريض، وواهم من يظن أنه سينتصر عاجلاً أو آجلاً بمزيد من الدماء، أو بمزيد من التطرف والعنصرية.
يستطيع عرب وأكراد خارج تلك السلطات الشروع في تقديم نموذج مغاير لها، يعزلها تدريجياً أو يدفعها إلى تغيير نهجها. ومن شروط ذلك ألا ينتظر طرفٌ المبادرةَ من الآخر، أو يلومه لأنه لا يبدأ بها، وألا يشترط طرف الحصول على نتائج فورية لمبادرته من الطرف الآخر، فالتخلي عن خطاب التحريض والثأر ليس في الأصل هبة تقدَّم للآخر، بل يُفترض أنه لأجل أصحابه أولاً. كذلك هو حال الاعتراف بحقوق غير منقوصة للآخر، إذ يُفترض ألا يكون مشروطاً. قد يبدو هذا صعباً أو مستحيلاً، إذا تناسينا أن العرب والأكراد يعيشون في أسوأ الأحوال، وأن الطرفين مهدَّدين بالتحسر على هذا الزمن المضيَّع بالأحقاد.
*المدن