عمر قدور: كيف صارت سوريا بلا ثورة وبلا نظام

0

لن نعدم في هذه الأيام، لمناسبة ذكرى انطلاق الثورة السورية، أصواتَ المتحمّسين الذين سيرددون أن الثورة مستمرة. ثمة كليشيه جاهزة، لطالما صادفناها هنا أو هناك، مفادها أن “الثورة فكرة والفكرة لا تموت”. ولا يصعب على شخص متوسط النباهة اكتشاف ما في العبارة الأخيرة من إنشائية جوفاء، ومن خلطٍ بين سعيٍ بشريٍّ مستدام “إلى الحرية أو العدالة…إلخ” وبين الثورة كفعل ملموس، يأتي دائماً على هيئة قَطْعٍ عنيف مع الواقع السائد؛ غالباً بعد استنفاذ ممكنات الأخير.

قد يقول ما تبقى من أنصار الأسد أن الثورة فشلت وانتهت بدليل بقائه في كرسي الرئاسة، ووفق هذا المنطق تكون الكارثة السورية في مناطق سيطرة الأسد نفسه مجردَ ثمن مقبول من أجل بقائه. وتكون سوريا ذاتها بموجب منطقهم هي تلك المساحة التي تنتشر فيها قوات الأسد وحلفاؤه، لتُستثنى تلقائياً مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية ومناطق سيطرة فصائل معارضة، وليكون هناك اعتراف ضمني بأن رئيسهم هو رئيس قسم من السوريين، ليس من ضمنهم الباقون مكرهين تحت حكمه. 

كان بشار الأسد، وفي العديد من المناسبات، قد قدّم نفسه رئيساً لجزء من السوريين فقط. منذ إطلاق الثورة، دأب إعلامه على تقديم إشارات يفهم منها السوريون المعنى الطائفي الضيق، ثم جرى تقديم معنى طائفي أوسع قليلاً بتقديمه حامياً للأقليات. هو نفسه، بحديث شهير، تباهي بأن مناطق سيطرته صارت أكثر انسجاماً بعد إبادة وتهجير الملايين. في الواقع لا نحتاج الإشارة إلى إتيانه بالإيرانيين وميليشياتهم ثم بالروس لإثبات عدم وطنيته، فالأخيرة يقرّ بها عندما يفرح بالتخلص من حوالى نصف السوريين.

ينبغي أن نتوقع فوراً هذا السؤال المضاد: وهل “ثورتكم” أحسن حالاً منه؟ من الواقعية أن تكون الإجابة بـ”لا” كبيرة، وبأن الثورة مشت في طريق مشابه للطريق الأسدي. أيضاً، لسنا بحاجة للتدليل على ذلك بالإشارة إلى تبعية الهيئات الناطق باسم الثورة لجهات خارجية، أو بتبعية ما تبقى من الفصائل العسكرية كافة لتركيا. الدلائل الواضحة على أن “الثورة” تدنّت عن أفقها الوطني نجدها لدى الذين ظهروا أكثر تمسكاً بأن الثورة مستمرة، ومن خلال خطاباتهم الإسلامية “السُنّية” أو من خلال خطابات عروبية تكاد لا تتمايز عن البعث إلا بتمايز أصحابها الطائفي أيضاً!

لقد شهدنا خلال سنوات مَن يدافع مثلاً عن جيش الإسلام الذي جهرَ قائدُه بعدائه للديموقراطية، واليوم لا نفتقر إلى من يدافع عن الجولاني علناً أو ضمناً بمختلف الذرائع، وما بينهما كثرٌ يعتبرون الفصائل المسيطرة على “المناطق المحرَّرة” ممثلةً لقيَم الثورة، ولا يشوبها سوى بعض الانتهاكات هنا وهناك، وهي انتهاكات بموجبهم يمكن مصادفتها في جميع الثورات، بما أنه لا ثورة نقية عبر التاريخ! إذا شئنا تعداد الذين اعتُبروا جزءاً من الثورة، وعبّروا كلاماً أو سلوكاً عن ازدرائهم الحرية والديموقراطية، سيلزمنا الكثير من الوقت والمساحة. ما يهمنا أن هؤلاء وأتباعهم قد انحدروا بالثورة من مطلب وطني إلى مطلب فئوي، لا يغيّر من الواقع أن يكون البعض منهم قد انحدر كردّ فعل على ممارسات الأسد.

لإعفاء الثورة من هذا الانحدار يمكن القول أن الذين يتحدثون باسمها هم بالأحرى يستخدمون منطق الحرب الأهلية بوعي أو من دونه، وكان ذلك ليوفّر الكثير من الإنشاء “الثوري” والإنشاء المضاد له لو اعترف أصحاب الأول بأن السنوات العشر الأخيرة هي سنوات حرب، بما قد يتضمنه هذا التوصيف من تفضيل للسيء على الأسوأ أحياناً، ومن الانصياع للضرورات في معظم الأحيان. والأقرب إلى الصواب وصفها بالحرب الثلاثية في شقها الداخلي، إذ من الضروري احتساب قسد بطموحاتها التي تكبر وتصغر حسب موازين القوى في الميدان.

من المفهوم أن الأخيرة “قسد” ذات مشروع يطالب بالفيدرالية، مع قلة اكتراث بتحقيق الديموقراطية، وهي بهذا تنصرف إلى تحقيق مكتسبات خاصة تحت وحدة سوريا نظرياً، لكنها عملياً ليست ضمن الأفق الوطني، وغير مطالَبة من جمهورها بذلك. هذا التوضيح يهدف إلى القول أن القوى الثلاث الأساسية المسيطرة في سوريا ليست ذات أفق وطني، وأن الانقسام الموجود على الأرض تقابله مشاريع غير وطنية.

قد يكون من الضروري في هذا السياق الإشارة إلى الخطأ الشائع بوصف سلطة الأسد بـالنظام”، فالوصف ربما ينطبق عليه إلى حد ما قبل اندلاع الثورة، وقبل أن يُطرح الأسد رئيساً لقسم من السوريين. إن من خصائص النظام أن يتحلى بقليل من الوطنية، وبشيء من شبهة الدولة. نقصد بالوطنية أن يقدّم النظام خطاباً جامعاً، ولو كان يفرضه على محكوميه، أو يمنع صدور خطابات منافسة. لقد سعى الأسد الأب فيما مضى للارتقاء إلى مصاف الأنظمة باختياره ديكتاتوراً صغيراً مثل تشاوشيسكو كمثلٍ يحتذي به، قبل أن ينحدر مثَله الأعلى لاحقاً إلى النموذج الكوري الشمالي.

من دون مساواة بينها، لدينا ثلاث قوى محلية مسيطرة في سوريا، لا يقدّم أيّ منها خطاباً وطنياً قادراً على اختراق الانقسام الحالي. بالطبع تتحمل سلطة الأسد المسؤولية الأكبر بلا منازع عمّا وصلت إليه الأحوال، بدءاً بإيصال السوريين إلى الثورة كانفجار لا بديل عنه، مروراً بالإبادة والتهجير وجلب قوى الاحتلال، وصولاً إلى إنزال محكوميها إلى ما دون خط المجاعة. لكننا نعلم أن القوتين الأخريين، في أحسن أحوالهما ومع حفظ الفوارق بينهما أيضاً، لا تقدّم أي منهما نموذجاً يبعث على الأمل لدى عموم السوريين من حيث السلوك أو من حيث الخطاب.

بعد اثني عشر عاماً على انطلاق الثورة، يكاد اليقين الوحيد الذي يتعزز يوماً بعد يوم هو أن هذه السلطة لا تصلح حتى لتكون نظاماً ديكتاتورياً، إن كان من معنى محترم قليلاً للنظام الديكتاتوري! أما الهيئات والقوى المتبقية على أنقاض الثورة فميؤوس منها، إلى درجة اليأس من قدرتها على جعل تلك السلطة نظاماً في حال دمجهما ضمن تسوية ما. فوق ذلك كله، لا يسع القوى الثلاث إلا أن تكون قوى تفريق، بينما تُبقي الإرادة الدولية على سوريا موحدَّة نظرياً وقانونياً، وكأن الخارج بديلٌ عن الخطاب الوطني الغائب.   

*المدن