عمر قدور: كيف تقطع رأساً بيسر

0

بحسب الأخبار، حاول التونسي “جزار نيس” قطع رأس امرأة من ضحاياه الثلاث، إلا أن الأخبار لا تؤكد نجاحه في فصل الرأس عن الجسد على النحو الذي نجح فيه قبل أسبوعين الشيشاني عبدالله أنزوروف عندما ذبح المدرس صامويل باتي. أنزوروف “18 عاماً” ابن لعائلة لاجئة في فرنسا، بينما نظيره التونسي وصلها للتو عبر إيطاليا، وكأنه آت خصيصاً من أجل تنفيذ المذبحة. الاختلاف بين سيرة الاثنين لا صلة له بنجاح عملية قطع الرأس في المرة الأولى وما يبدو فشلاً جزئياً في المرة الثانية، ولا يعني من جهة أخرى أن عنق الضحية الأولى مطاوع للذبح بخلاف عنق الضحية اللاحقة.

من الفظيع جداً أننا نستطيع المقارنة بين عمليتي جزّ للعنق، لكن الأفظع هو إدراكنا أن قاطعي تلك الرؤوس هم بشر مثلنا، هم الصورة البدائية التي نفترض أننا تجاوزناها كبشر بزمن طويل وبأدوات للقتل أقل بدائية. أداة الجريمة هنا مثقلة بالدلالات، أسهلها وأقربها منالاً “وفق من يستهويه هذا النوع من التفسير الثقافوي” أنها مطابقة للأيديولوجيا القروسطية التي تسوق القاتل. ما يفوق التفسير السابق أهمية أن أدوات القتل تطورت على مستويين، مستوى الفاعلية الأكبر في إيقاع الأذى، ومستوى المباعدة بين القاتل والقتيل.

المباعدة بين القاتل وضحيته أو ضحاياه لا تقلل من حصيلتهم، بل من المرجح أن تزيدها بحكم التطور التقني، إلا أن المسافة تعطينا فكرة قد تكون مهمة عن القاتل. لدينا، في مذبحة نيس مثلاً، قاتل حاول قطع عنق ضحيته. هو لم يكتفِ بطعنها في أماكن قاتلة، كان يريد فصل رأسها عن جسدها. المرأة “التي توفيت بعنق قيد القطع” لن تعود لتقول لنا شيئاً عن لحظاتها الأخيرة، ومن المرجح أن القاتل الإرهابي لن يفعل ذلك. نحن لا نعلم مثلاً ما إذا كان كل منهما ينظر في عيني الآخر، وهل كانت تتوسل بعينيها أم تصرخ متوسلة أيضاً؟ أو، هل كانت تتوسل إليه، أم تتوسل إلى أحد المقربين منها أو إلى الله، كما يفعل كثر منا في لحظات الخطر؟

في مساء 14 تموز 2016، كان التونسي محمد بوهلال يقود شاحنة في نيس أيضاً، ويدعس عامداً المحتفلين بالعيد الوطني. أسفر الهجوم الذي تبناه داعش عن 84 قتيلاً، وقيل آنذاك أن الشاحنة كانت محملة بمتفجرات وقنابل يدوية لم تُستخدم في العملية. حتى عملية الدعس البدائية تلك، رغم حصيلتها المرتفعة، لا تُقارن بقدرة منفذي عمليتي الطعن الأخيرتين على الإمساك بالضحية والشروع في جز عنقها بيسر شديد، وبانقطاع تام عن عذاباتها الأخيرة وتوسلاتها. في الحالة الأخيرة، نحن إزاء علاقة “حميمة” بين القاتل وضحيته، إزاء ذلك التلامس الفيزيائي المباشر والقوي. ربما شيء من حرارة جسم الضحية تسرب إلى جسم القاتل، والأخير كان ملاصقاً لجسد ضحيته وممسكاً به وهو يرتعش كذبيحة. وكما نعلم، لم تؤثر تلك العلاقة بالقاتل، فهو ارتكب جريمته حتى وضع البوليس خاتمتها، وفي المرتين كان يصيح “الله أكبر”، وكأن هذا الهتاف سنده في ما أقدم عليه، أو في ما استطاع ارتكابه بيسر.

في حالات مشابهة شهدناها في سوريا، لم يكن مرتكبو المذابح يهتفون “الله أكبر”، والمذابح الأولى “بالسواطير والسكاكين” ارتكبها شبيحة الأسد، وكان من ضحاياها أطفال ونساء، وكان يصعب علينا أيضاً تخيّل أن يمسك أحد منهم بطفل ليذبحه وكأنه يؤدي عملاً سهلاً ومعتاداً كترتيب السرير مثلاً. بعد مذابح شبيحة الأسد بثلاث سنوات أتت مذابح داعش لتثير غضب العالم، خاصة بسبب الإمعان في الوحشية بتصوير شريط الذبح ونشره، وبالطبع كان لجنسية الضحايا الغربيين أن يمنح الأمر اهتماماً عالمياً واسعاً. السؤال المشترك الذي يطرحه شبيحة الأسد وعناصر داعش وأشباههم هو عن تلك القدرة على ممارسة الذبح في زمن لا يعز فيه الحصول على أدوات قتل تسهّل على المجرم تنفيذ جريمته، وهو سؤال يحتمل الدهشة والاستغراب مثلما يحتمل الاستنكار.

نحن ننظر إلى القتلة قائلين لأنفسنا: يا للهول، إنهم بشر مثلنا. القتلة الجزارون لا ينظرون إلى الضحايا قائلين الكلام ذاته، هم لا يرونهم بوصفهم بشراً، أو في أحسن الأحوال لا يرونهم بشراً مثلهم، على السوية ذاتها مما تستحقه كلمة كائن بشري. الانقطاع عن الضحية، لحظة الإمساك بها والشروع في ذبحها، يستحيل من دون تنزيل قيمتها إلى ما دون القاتل لتصبح مجرد شيء يمسك به ويمزّقه، بل ينبغي أن يقطّعه ليكون عالمه “البشري” أجمل وأنقى. بالذبح يُرهَب الخصم المحتمل الذي يرى كم هو لا بشري من وجهة نظر القاتل، ويُمتحن القاتل أيضاً بالوصول إلى عتبة عليا من الإخلاص لقناعاته. إطلاق الرصاص أو إلقاء القنابل، وحتى العمليات الانتحارية، لا تحمل المستوى نفسه من “الإخلاص” الذي يحمله شخص يذبح شخصاً آخر من دون أن يراوده الإحساس أصلاً بأنه يذبح إنساناً مثله.

واحد من الأخطاء التي يسهل الوقوع فيها أن ننظر إلى أولئك القتلة ونسارع إلى القول: إنهم ليسوا مثلنا. ذلك يضمر نزع صفة البشرية عنهم، على النحو الذي يفعلونه هم بضحاياهم. علّة الاستعجال في التبرؤ من القتلة هي في تضييع فرصة التفكر بهم جيداً، بدل الإسراع إلى اعتبارهم خارج الحيز البشري، والإسراع إلى التفسيرات السهلة التي قد تصلح جزئياً ومؤقتاً كأن يتوقف تفسير الإرهاب عند حده الثقافوي بدلالة منفذيه الحاليين، وفي الغرب تحديداً. التفسيرات السهلة السريعة لا تريح العقول فقط، وإنما تعفي من لديهم القدرة من اتخاذ إجراءات أوسع وأبعد لحماية الناس من التحول إلى جزارين، بوصف هذه الإجراءات هي الأضمن والأمثل لحماية الضحايا.

لدينا اليوم ظاهرة الإرهاب الإسلامي، وهي ظاهرة معاصرة لا يفيد بشيء النظر إليها بأسوأ أنواع الاستشراق، سواء من قبل غربيين أو من قبل بعض أبناء المنطقة. صحيح أن ادعاء القداسة هو زعم خاص بهذا التطرف، لكن معاداته الغرب ومعاداته نسبة كبرى من المسلمين أيضاً هنا شأن سياسي “بمعنى ظرفي وزمني”. ما لا ينبغي إغفاله للحظة أن الإرهاب الإسلامي يتغذى على وهمي القداسة والتفوق، التعبير الدارج عن الأخير هي العنصرية، والعنصرية ليست صفة تقتصر على الإسلام أو على الأديان؛ إننا نراها في خطابات القوميين واليمينيين، واليوم أكثر من أي وقت مضى ثمة خوف من تداعياتها على العالم. بالعنصرية، تحت أي زعم كان، يرى العنصري ذاته بشرياً بينما يرى الآخر المختلف أقل جدارة من الناحية الإنسانية، وهذه عتبة ترشح أصحابها لارتكاب مختلف الجرائم ضد من يرونهم أدنى، لا يُستبعد منه جزّ الرؤوس في وقت ما.

من دون اتفاق عالمي على نبذ مختلف أنواع العنصرية والعنف المعنوي والمادي الناجم عنها، يصعب تصور اتفاق على “الحرب على الإرهاب” أو اتفاق على أخلاقيتها وعدم اعتبارها انتقائية وفق المعايير الغربية. لقد رأينا الرئيس ماكرون يحذر من “الانفصالية الإسلامية”، وكان في بداية عهده قد أطلق تصريحه الشهير عن كون بشار الأسد مجرماً وتهديداً لشعبه بينما داعش تهديد للعالم. الفصل الموجود في ذلك التصريح مثلاً لا يشجع على بناء قضية مشتركة، فضلاً عن أن الفصل بين مختلف القضايا العالمية لم يعد ممكناً. نحن جميعاً نحتاج رفع تلك السكين عن رقابنا، لكن مسؤوليتنا المشتركة لا تبدأ وتنتهي هنا والآن، هي “بحكم الجغرافيا وتاريخ طويل من الاشتباك” مسؤوليةٌ عن العنف على جانبي المتوسط، العنف الذي لا توجد وصفة سحرية لمنع سريانه بين الجانبين.

*المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here