عاد تنظيم داعش ليعلن عن وجوده باستهداف متكرر لقوات الأسد في البادية الشرقية، بعد مضي عشرين شهراً على استسلام المئات من مقاتليه أمام قسد، في آخر معاقله في قرية الباغوز التابعة لدير الزور. القضاء على آخر معقل لداعش كان قد أنهى عملياً وجود التنظيم الوحيد الخارج عن السيطرة، لتصبح المناطق السورية كافةً ممسوكة من قبل القوى الخارجية، مباشرة أو بواسطة ميليشيات محلية أضخمها تلك التابعة للأسد.
قضية الإمساك بالميليشيات المحلية قد تفوق بأولويتها “الحربَ على الإرهاب”، فالحرب على جبهة النصرة “كهدف أو كذريعة” بقيت مجمدة من قبل الجانب الأمريكي، مقابل إصرار روسي يظهر ويختفي حسب إيقاع العلاقة مع أنقرة، ويحركه دائماً السعي إلى توسيع منطقة النفوذ الروسي ليس إلا. العبرة في تأجيل معالجة ملف النصرة هي في انصياعها، ولو ضمناً وعلى مضض، للنفوذ التركي وتفاهماته مع موسكو، وقبل ذلك في عدم إقدام النصرة على “حماقات” مشابهة لما فعله داعش بإعدام رهائن غربيين.
عودة داعش مؤخراً تخلخل استقرار مناطق النفوذ، إذ يدخل التنظيم مرة أخرى كلاعب قد يجبر لاعبين آخرين على تغيير أولوياتهم أو تكتيكاتهم القتالية. مثلاً، باستهدافه قوات الأسد، باتت الأخيرة وحلفاؤها مضطرين إلى الاهتمام بجبهة جديدة قد تنتقص من الاهتمام الذي تحوزه جبهة إدلب بالنسبة لموسكو، وقد تضيف أرقاً إضافياً للميليشيات الإيرانية الواقعة تحت ضغط الغارات الإسرائيلية.
هذا ليس تنظيم داعش كما غلبت صورته في الأذهان، ليس تنظيم الدولة الإسلامية “الباقية وتتمدد”. من مستلزمات الدولة كما شهدنا السيطرة على الأرض، ليحكم الخليفة بقعة مهما صغرت واعداً بالجهاد والتوسع لاستعادة أمجاد الخلافة الإسلامية القديمة. هنا وجه من أوجه الاختلاف بين داعش وتنظيم القاعدة، فالثاني اعتمد على معاداة الغرب ومحاربته قبل الشروع في إقامة الخلافة، مع أنه لم يوفّر الفرصة مع تقدّم حركة طالبان للسيطرة على أفغانستان وإعلان المُلا محمد عمر أميراً للمؤمنين بمباركة من القاعدة. بل كان إعلان خلافة البغدادي قد إستمال قسماً من مجاهدي القاعدة وطالبان، خاصة مع تواري “أمير المؤمنين” المُلا عمر الذي أُعلنت وفاته لاحقاً، ودخول طالبان في مفاوضات مع واشنطن.
لقد تحور داعش الذي لم يتوقف عن التمدد في أماكن جديدة، في ليبيا ونيجيريا والصومال والفلبين وأندونيسيا وباكستان وأفغانستان، أي أنه أثبت قابلية ومرونة في الانتشار، كلما لاحت فرصة في أماكن رخوة أمنياً. ومن المحتمل أن مقتل “الخليفة” أبي بكر البغدادي قد ساعد خلَفه على التخلص من أوهام الخليفة، وعلى إدراك سراب موضوع الدولة كهدف عملي، مع الإبقاء عليه كهدف نظري نهائي أسوة بتنظيمات إسلامية أخرى تبشّر بعودة الخلافة يوماً ما.
ظهور داعش في البادية السورية نموذج عن التكتيكات التي يستطيع بها التنظيم إرهاق الآخرين بكلفة قليلة، خاصة إذا توفر له مقاتلون على استعداد كافٍ للتضحية مع مهارات عالية في التخفي. البادية “نظرياً” مكان مكشوف لا يصلح للاختباء، لكن هذه الميزة التي يخسرها التنظيم تخسرها على نحو مضاعف وأشد الميليشيات النظامية التي تقاتله. الأخيرة، بطبيعة تنظيمها وطبيعة تحركها، ستكون هدفاً يسهل رصده بسبب ثقل حركته ومعداته وحجمه البارزين للعيان بخلاف عناصر داعش المعتمدين على الحركة المستمرة، وعلى معدات خفيفة يصعب رصدها، ويسهل نقلها رغم آليات الرصد المتطورة لدى الخصوم.
في البادية، لن تحل موسكو معضلة هجمات التنظيم بسياسة الأرض المحروقة التي لا تتقن سواها، وقد تغطي على عجزها بإلقاء اللوم على الغرب الذي لا يترك لها السيطرة التامة على الأراضي السورية لتعالج موضوع “الإرهاب”! قائمة التبريرات الأسدية جاهزة، بالقول أن التنظيم يحظى بمباركة غربية، والشكوى من العقوبات الغربية التي تعيق حربه المزعومة على الإرهاب أيضاً. لا يُستبعد أن تكون سلطة الأسد فرحة بمقتل عناصر لها بتكرار هجمات داعش، فها هي مرة أخرى “ضحية” التنظيم الإرهابي الذي يخيف العالم كله، ها هي في الموقع نفسه مع الغرب.
لن تتوانى طهران، بلسان موسكو أو سلطة الأسد، عن التركيز على خطر داعش الكامن في البادية على امتداد الحدود بين سوريا والعراق، أي تماماً في المنطقة التي يُراد إبعاد السيطرة الإيرانية عليها، والتي تُعدّ حلقة أساسية في السلسلة التي تربط طهران بالضاحية الجنوبية. مع داعش، ثمة خطر متفق عليه دولياً، يصلح لتغييب الخطر المتفق عليه أمريكياً وإسرائيلياً. وقد يأتي العون من مسؤولين أوروبيين ينتبهون جيداً إلى خطر داعش، ولا يرون خطراً في النفوذ الإيراني وجرائمه في حق السوريين وسواهم.
أما أقوى الآمال التي تبنى على عودة داعش فهي تتعلق بانتهاء ولاية ترامب وتنصيب الديموقراطي بايدن، لعل الأخير يرى في خطر داعش مخرجاً جيداً لتعاون غير مباشر مع طهران، لعله يسلك طريق أوباما. لا ننسى أن عودة داعش تقدّم هدية لبايدن بتفنيد ادعاءات ترامب حول هزيمته التنظيم، ولو أتت العودة خارج مناطق نشاط القوات الأمريكية فقد يكون الأهم استخدام ذلك في الدعاية السياسية الداخلية.
ثم إن خطر داعش قد يكون مزدوجاً، فيطال قوات قسد المحمية أمريكياً، والموعودة بدعم أقوى في عهد بايدن. استهداف قسد قد يكون على نحو موارب استهدافاً للقوات الأمريكية، بل ربما تُستهدف القوات الأمريكية “باسم” داعش لجس نبض العهد الجديد، ومعرفة مدى استعداده للرد على المصادر الحقيقية للهجوم أو الجهات التي تقدّم دعماً لوجستياً للتنظيم. لقد كان الوجود الأمريكي المحدود محمياً نسبياً بالخشية من “تهور” ترامب، وربما تُختبر عزيمة الرئيس الجديد عما قريب.
قد لا يكون داعش صنيعة مخابراتية كما يروّج البعض، هذا لا ينفي مرونته وقابليته للتعاون مع أجهزة مخابرات لها باع مشهود في التعاطي مع هذه التنظيمات. ظهور داعش الأول استُخدم للتغطية على جرائم الأسد، وعلى جرائم أزلام طهران في بغداد. عودته، بقدرة أكبر على التخفي، ومع الضائقة التي يعيشها الأسد وحلفاؤه يُرجح ألا تكون بريئة من استكمال الأذى الذي ألحقه بالسوريين والعراقيين من قبل. الإجابة على ذلك هي في الغرب، فإما أن يقرر رؤية ما وراء داعش، أو أن يبقى مصراً على تجاهل العلاقة الوثيقة بين إرهاب يجتهد لإظهار محليته وآخر يجتهد لإظهار عالميته.
*المدن