قد لا يدوم أكثر من أيام قليلة الاهتمام الإسلامي العالمي بجريمة مقتل مدرّس فرنسي، ذبحاً على يدي شاب شيشاني قام بفعلته ضمن ما يراه واجباً شخصياً للدفاع عن الإسلام. وانحسار الاهتمام، أو كونه عابراً في الأصل، يضع الجريمة في حيزها الجغرافي الصغير، كجريمة واقعة في الأراضي الفرنسية، وعلى خلفية اشتباك “ثقافي” خاص بفرنسا. في فرنسا نفسها بعد امتصاص الصدمة، هناك من سيكون مطمئناً إلى أن الاغتيال وما سبقه وما تلاه حتى الآن صار من مألوف الأحداث في فرنسا، فلا غلاة التطرف الإسلامي سينفذون أعمال إرهابية بالجملة، ولا غلاة اليمين المتطرف “والمزايدون عليهم من اليمين التقليدي والوسط” سيضعون تهديداتهم ضد المهاجرين عموماً موضع التنفيذ.
ربما من المبكّر مع جريمة ذبح مروّعة، أن يتحدث أحد منا عن ضحيتين؛ المقتول والقاتل القتيل. ربما من المبكر أيضاً القول أن مسرح الجريمة كان معدّاً، من أجل جريمة ما لا بد أن تحدث، ثم صادف أن وُجد الاثنان على المسرح الذي اكتملت جاهزيته، بمنصته وجمهوره. إلا أن أي متابع عادي لمؤشرات الأسابيع الأخيرة كان في وسعه التنبؤ بحدث أو بأحداث عنف مقبلة، باغتيال أو تفجير إرهابي، أو بمواجهات على غرار مواجهات 2005 في الضواحي، حيث لم يقصّر وزير الداخلية آنذاك نيكولا ساركوزي في استخدام لغة بذيئة واستفزاز ذوي الأصول المهاجرة من سكانها.
جيرالد دارمانان، وزير الداخلية الحالي الذي سبق له أن أدار حملة ساركوزي الرئاسية، كان قد أطلق أول إشارة مفزعة مع نهاية شهر آب، إذ صرّح أثناء زيارة لمقر الإدارة العامة للأمن الداخلي بأن “الخطر الإرهابي ذا الجذور السنية هو التهديد الرئيسي الذي تواجهه البلاد”. مهما كان دوافع الوزير حينئذ، فقد كان تصريحه صادماً فيما لو بُني على معطيات حقيقة للخطر الإرهابي، وصادماً فيما لو كان بمضمونه أو بطريقة صياغته يحمل الكثير من التسييس، لأنه سيستفز ردود أفعال قد لا يخلو بعضها من العنف، وهذا البعض سيكون قد أدى ما يُراد منه سياسياً.
بعد حوالى شهر من تصريحه السابق، في زيارة له إلى معبد يهودي في عيد الغفران، قال دارمانان أنه هناك لتذكير الفرنسيين بالواقع “نحن في حرب ضد الإرهاب الإسلامي، وربما قمنا بشكل جماعي بتناسي ذلك”. قال الوزير أيضاً أن “اليهود هم بشكل خاص هدف للهجمات الإسلامية”، وهو تصريح لا يتناسب مع إعلانه عن إحباط 32 هجوماً خلال السنوات الثلاث الماضية، لم يخصص منها في حديثه السابق سوى حالة واحدة لشخص كان ينوي مهاجمة معابد يهودية. هذه المرة أتت تصريحاته مسنودة بحادث الطعن الذي ارتكبه باكستاني قرب المقر القديم لصحيفة شارلي إيبدو، بعد أن أعادت الأخيرة نشر الرسوم الكاريكاتورية الخاصة بالنبي محمد، تزامناً مع بدء محاكمة متهمين بالاعتداء على مقرها إثر نشرها الرسومات للمرة الأولى.
بعد خمسة أيام من تصريحات وزير داخليته في عيد الغفران، أتى حديث الرئيس ماكرون عن “الانفصالية الإسلامية” ليعزز المخاوف، لا لأحقيته أو عدمها، وإنما بسبب التوقيت وما قبله والخطوات الرسمية اللاحقة، والتي يتوقع أن تستفز طيفاً يتراوح بين متطرفين إسلاميين، وبين ذوي أصول مهاجرة يرون في ذلك كله ميلاً نحو اليمين المتطرف، وتعبيراً عن عنصرية ثقافية لا يُستبعد أن تضيّق عليهم مختلف مناحي حياتهم. كان من السذاجة انتظار ردود أفعال على خطاب ماكرون مختلفة عما شهدناه، فالإسلام في أزمات عديدة وغير متماثلة لعدم تماثل الشعوب التي تعتنقه وعدم تماثل ظروفها، وهو ليس في أزمة واحدة على نحو ما قال ماكرون، وإذا كان لا بد من تشخيص أزمة محددة فالأولى مواجهة أزمة “الإسلام-فرنسا” بتميزها عن سواها، وبخلطة جذورها وأسبابها المحلية والوافدة معاً. بصياغة أخرى، سؤال الأزمة مزدوج ومركب وخاص: لماذا المسلمون تحديداً يصطدمون “بعنف أحياناً” مع فرنسا؟ ولماذا لا يحدث الاصطدام نفسه مع دول غربية أخرى ينتشرون فيها بكثافة قد لا تقل عن فرنسا؟
صامويل باتي، المدرس الضحية، كان يؤدي وظيفته كالمعتاد، وهو ليس جزءاً من جبهة معادية للمهاجرين أو للإسلام، هو وجه فرنسا الحر التنويري المتسامح. من جهته، عبدالله أنزوروف “18 عاماً” أدى دوره النموذجي كإرهابي متطرف، قروسطي حتى بسلاح جريمته. الاصطدام المروع بين الاثنين لم ينجم عن أي احتكاك شخصي سابق، هو حصيلة لأجواء “الحرب”، وهذه كلمة سرعان ما استخدمتها مارين لوبن بقولها تعقيباً على الجريمة: الإسلاموية تشن حرباً علينا، يجب أن نطردها بالقوة من بلدنا. ماكرون ألقى وعيده: “لن يمروا”. في حين برزت على شبكات التواصل الاجتماعية كلمة “استيقظوا” مرفقة بعبارات من نوع “لا يمكننا العيش مع هؤلاء؛ سيذبحوننا”. ستتكرر كلمة “استيقظوا” الموجهة لذوي الأصول غير الإسلامية مع تجرؤ العديد من السياسيين على إشهار رغباتهم، ها هو مثلاً تيري مارياني العضو في البرلمان الأوروبي يقول: العلاقة بين الإرهاب والهجرة واضحة. ما الذي ننتظره لطردهم؟ الفرنسيون يريدون أفعالاً، لا المزيد من الكلمات.
أقوال قادة اليمين واليمين المتطرف، وشعارات أنصارهما على وسائل التواصل، ليست أقل من الدعوة إلى حرب أهلية مفتوحة ضد فرنسيين مسلمين من أصول مهاجرة، وفي حدّها “اللبق والمهذب” ليست أقل من الدعوة إلى هندسة اجتماعية واسعة النطاق تطاول تلك الشريحة. من أولى الثمار على الصعيد الرسمي الطلب من دوائر اللجوء النظر بـ”حرص” أشد في الطلبات المقدمة إليها، وقرار طرد 231 شخصاً، بينهم 180 ثمانون سجيناً، و51 حراً، تراهم السلطات خطراً على الأمن العام. أي أنه ستُعتمد سياسة متشددة إزاء طالبي اللجوء، وسيكون سيف الترحيل مسلطاً على المقيمين بخلاف ما هو معروف عن فرنسا تقليدياً لجهة عدم قيامها بترحيل الأجانب.
قد تنسجم الإجراءات الرسمية الأخيرة حتى ما مع نقرأه عربياً على وسائل التواصل، من دعوة الذين لا يريدون الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة إلى مغادرتها. لكن ما يسهل قوله، ويبدو صحيحاً جداً على صعيد الشكل، قد لا يكون كذلك واقعياً. في الواقع، لدينا مئات الألوف “إذا لم نقل ملايين” من اللاجئين الذين لم يتح لهم أصلاً ترف اختيار منافيهم، وفي بحثهم عن الأمان أقام بعضهم في أول بلد غربي أتيح له، والبعض الآخر قُبض عليه في هذا البلد ولم يستطع إكمال مسيرته إلى بلد آخر يقصده. على سبيل المثال، هناك عدد ضخم من اللاجئين الذين كانوا يقصدون إنكلترا عبر فرنسا، وقُبض عليهم واضطروا إلى طلب اللجوء فيها.
ضمن أجواء مركبة من القهر الذي يعيشه اللاجئون، ومنها النظر إليهم ككائنات بيولوجية ينبغي أن تكون ممتنة فحسب لمن قدم لها الأمان، لا نعلم ما الذي دفع شاباً يودّع للتو مراهقته كي يرتكب جريمة مروعة؟ أو لماذا كان هذا الشاب لقمة سائغة لمتطرفين دفعوا به إلى ارتكاب جريمته عن قناعة تامة؟ لقد قتل المدرّس الذي كان يحتاج من يدله عليه، وربما كان لحظتها يقتل أيضاً منفاه الذي خذله، وسلوكه عقب الجريمة أقرب إلى المنتحر من المجرم المتمرس الباحث عن مهرب.
يبقى أهون الاحتمالات هو ذاك الكلاسيكي الذي يفيد بإثارة قضية التطرف الإسلامي مع موسم انتخابي، يبدو أنه افتُتح مبكراً جداً، وفي هذا الموسم تتلاقى مصالح أطياف من اليمين واليمين المتطرف “وربما الوسط” مع متطرفين إسلاميين يكسبون بما يراه مسلمون استفزازاً لمشاعرهم، وبما يراه مهاجرون غير متدينين مزيداً من العنصرية التي لن تفرق بين إسلامي وغير إسلامي. أسوأ الاحتمالات أن تكون هذه المرة مختلفة حقاً عن سابقاتها، وأن لا يكون الحديث عن الحرب مجرد جعجعة؛ أن تكون قد حانت لحظة المواجهة الكبرى بين أزمة الإسلام وأزمة فرنسا.
*المدن