بعد ظهر الخميس تلقينا إيميلاً من مدير المدرسة، مفاده وجود حالة إصابة بكوفيد19 في صف ابنتي، لذا تطلب الإدارة عدم دوام تلاميذ الصف في اليوم التالي “الجمعة”، وتنصح بمراجعة الطبيب في حال ظهور أعراض المرض، ويوم الجمعة هو آخر يوم دوام قبل عطلة مدرسية تمتد لأسبوعين. يوما الاثنين والثلاثاء كانت معلمة الصف قد تغيبت، والمعتاد في هذه الحالات توزيع التلاميذ على الصفوف الأخرى. مساء الثلاثاء أرسلت المعلمة إيميلاً للأهالي تعتذر فيه عن التغيب لأنها مصابة بكوفيد 19، وتعِد بإرسال الفروض المدرسية عبر الإيميل. إثر رسالة المعلمة ألغينا بقرار شخصي كافة النشاطات الخاصة بالبنت، بما فيها الذهاب إلى المدرسة، لا خوفاً عليها فقط وإنما أيضاً خوفاً على الآخرين من أن تكون ناقلة للعدوى. بينما، هنا في فرنسا، استغرقت إدارة المدرسة يومين كاملين كي تتخذ القرار بعد رسالة المعلمة، إذا لم نحتسب هذا التأخير منذ تغيب المعلمة وشكها بإصابتها وإجرائها التحليل للتأكد، تأخير قد تكون كلفته باهظة من العدوى مع توزيع التلاميذ على صفوف أخرى.
يوم الثلاثاء الماضي صرّح رئيس مستشفيات باريس وضواحيها “39 مستشفى” بأنه بحلول الرابع والعشرين من هذا الشهر سيكون هناك ما لا يقل عن 800 إلى 1000 مريض بكوفيد 19 في العناية المشددة، والرقمان يمثلان من 70 إلى 90 بالمئة من طاقة المستشفيات، ويعني فيما يعنيه الوصولُ إلى النسبة الأعلى تضاؤلَ القدرة على استيعاب حالات حرجة من كافة الأمراض. يوم الأربعاء خرج الرئيس ماكرون بحديث تلفزيوني، أهم تبعاته العملية حتى الآن إعلان حظر التجول بين الساعة التاسعة مساء والسادسة صباحاً، مع وضع هدف لمختلف الإجراءات هو النزول إلى عتبة 4000 إلى 5000 آلاف إصابة يومياً. يوم الخميس نُفذت عمليات تفتيش في منزل ومكتب وزير الصحة، وفي منزل المدير العام للصحة ومسؤولة أخرى في الوزارة، وأيضاً في مكتب ومنزل رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب. وكانت قد قُدمت شكوى أمام محكمة عدل الجمهورية باتهام العديد من المسؤولين بـ”الامتناع عن مكافحة كارثة”، وهي المحكمة الوحيدة المخولة بمحاكمة أعضاء في الحكومة خلال وجودهم في مناصبهم، مع التنويه بأن حصانة رئيس الجمهورية تحميه من الملاحقة قضائياً إلى ما بعد مغادرته المنصب بشهر.
يوم الخميس كانت فرنسا تسجل 30621 إصابة مثبتة بكورونا، وهو رقم قياسي أوروبي منذ بدء انتشار الوباء. قد يختلف الأمر قليلاً إذا أخذنا الرقم نسبةً إلى عدد السكان، بوجود تشيكيا وبلجيكا اللتين سجلتا معدلات عالية، لكن بالمقارنة سجلت ألمانيا 7074 إصابة وعدد سكانها يتجاوز نظيره الفرنسي بـ18 مليوناً. جرس الإنذار الألماني قد قرع مع الوصول إلى عتبة 4000 إصابة يومياً، وهو الرقم الذي يطمح إليه ماكرون في مقابلته، وجرس الإنذار قرع في برلين عندما بدأت تقترب من تسجيل 500 إصابة يومياً، بينما كانت باريس تسجل معدل 3500 إصابة يومياً.
في منتصف حزيران أعلن ماكرون انتصاراً أول على الوباء، معلناً رفع كافة القيود التي سبق تخفيضها قبل شهر، ومن ضمن ما أعلنه آنذاك إتاحة فحوص اختبارات كورونا على نطاق واسع. جدير بالذكر أن فرنسا كانت في بعض الأوقات تجري 1500 اختبار وسطياً في اليوم، بينما في الفترة نفسها كانت ألمانيا تجري 60 ألف اختبار، من دون أن نغادر إلى الولايات المتحدة وإلى دول الخليج والعديد من الدول التي سبقت فرنسا على هذا الصعيد. في التاسع من الشهر الماضي أعلن وزير الصحة أن المجلس العلمي الفرنسي وافق على تقليص مدة الحجر “على المصابين” من أسبوعين إلى أسبوع واحد، ولاحظ وزير الصحة أن عدداً كبيراً من الفرنسيين لا يحترمون مدة الحجر الصحي! وطمأن الوزير الناس بقوله: “رغم عودة تفشي كوفيد 19 بشكل مقلق إلا أن هناك إمكانية لتجنب موجة ثانية”. في اليوم الذي أطلق فيه الوزير تصريحاته كانت الإصابات المثبتة في فرنسا ترتفع إلى رقم 8577 إصابة، والرقم كان حينها ثاني أكبر حصيلة منذ تفشي الوباء. تعليقات المتابعين على المواقع الإعلامية التي نشرت تصريحات الوزير أتت مزيجاً من السخرية والغضب، لأن الحصول على موعد من مختبر لإجراء التحليل كان يستلزم ثلاثة أيام، تليها ثلاثة أيام أخرى للحصول على النتيجة. أي أن المصاب “بأعراض خفيفة لا تقتضي مراجعة المستشفى” قد ينتظر أسبوعاً قبل التأكد من حالته، والأمر متروك لتقديره الشخصي في موضوع العزل أو التحرك ومخالطة الآخرين بشكل اعتيادي.
عندما عادت إصابات كورونا إلى التزايد المستمر والملحوظ، بقيت أجواء الاسترخاء سائدة بتأثيرٍ من أداء رسمي مبطن باللامبالاة. وأكثر التصريحات تواتراً كان عدم العودة إلى الحجر العام، وكأن هناك إصراراً مقابلاً على فرضه، أو كأنه لا توجد مساحة من الاحتمالات بين الحجر وبين إشاعة أجواء من التفاؤل الكاذب. هناك في الجوار وغير الجوار دول لم تفرض الحجر العام في الموجة الأولى، وخرجت منها بخسائر أقل على صعيد الأرواح رغم كثرة الإصابات. الطاقم الصحي الفرنسي، بخلاف الإمكانية المتاحة له، استحق الإشادة لقدرته “الاستثنائية على التكيف والتعبئة” بموجب تقرير أولي للجنة خبراء ستنشر استنتاجاتها النهائية في كانون الأول. اللجنة تفيد في تقريرها أنها “وجدت إخفاقات واضحة في التوقع والاستعداد والإدارة”، وأشار خبراء اللجنة إلى نقص مخزون الطوارئ من الكمامات، كما أشار واحد منهم إلى بطء السلطات في تكثيف فحوص الكشف عن المرض.
في تلك الأثناء، مع عودة تزايد أرقام الإصابات، كان الرئيس ماكرون منشغلاً على نحو غير مسبوق بالسياسة الخارجية، من ليبيا إلى لبنان إلى المواجهة التركية-اليونانية، وأخيراً النزاع بين أرمينيا وأذربيجان. في بلد مركزي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة، هناك وزن معنوي يعبّر عنه موقع الرئاسة الذي بقي بعيداً عن تطورات الوباء في الداخل، تاركاً المعالجة لرئيس حكومة مغمور لا يتمتع برصيد معنوي. عدم الاكتراث الرئاسي لا يأتي اعتباطاً، مثلما لم تأتِ اعتباطاً أول إطلالة رئاسية خُصصت للتصدي لما سُمي “الانعزالية الإسلامية”، وكأنها الأزمة الأكثر إلحاحاً وراهنية التي تواجهها فرنسا. تلك جميعاً كانت رسائل تتوج سياقاً من عدم الاكتراث كما يجب بأكبر تحدٍّ صحي تواجهه البلاد، إلى أن لم يعد هناك مفر من مواجهة الرئيس الكارثة المتفاقمة وقول شيء ما عنها.
في حديثه التلفزيوني أعطى ماكرون إشارات متناقضة، ومنها ما يطمئن شرائح واسعة من المجتمع. هو مثلاً قال أن الفيروس يصيب الشرائح “المتواضعة”، حيث يعيش الناس في منازل صغيرة، وهناك عدة أجيال تعيش في البيت نفسه. بصياغة أخرى، ينتشر الفيروس في أوساط المهاجرين ولعل هذا يطمئن غيرهم، وكان خبرٌ عابر مع نهاية الموجة الأولى قد نص على أن معظم الوفيات كان بين كبار السن وأولئك المولودين خارج فرنسا! أما ماكرون فيقول أن حوالي ثلاثين ألف وفاة في الموجة الأولى كان 90% منها في صفوف من هم فوق الخامسة والستين والباقي بين المصابين بأمراض مزمنة، بينما أبدى اطمئنانه بسبب عدد الوفيات القليل في الموجة الثانية في دلالة على اكتساب الخبرة الطبية. في الوقت نفسه قال ماكرون أن نصف الحالات الموجودة في الإنعاش حالياً لأشخاص تحت الخامسة والستين، وأن تلك الأقسام وصلت إلى حالات ضغط لا تُحتمل، وطواقم التمريض منهكة منذ الموجة الأولى. وهذا الوضع يعيد طرح التساؤلات حول الاستجابة الحكومية البطيئة عمداً، أو البطيئة وفق أسوأ ما يُشاع عن البيروقراطية الفرنسية.
هناك حتى الآن تسع شكاوى تم قبولها من بين تسعين شكوى تلقتها محكمة عدل الجمهورية، تتراوح الاتهامات التي اعتمدتها المحكمة وتلك التي فتحت نيابة باريس تحقيقات فيها بين “عدم تطبيق توصيات منظمة الصحة العالمية” و”عدم تماسك التدابير الحكومية المتخذة” و”عدم استباق الأمور بالمعالجة خاصة في شأن الكمامات”، وصولاً إلى تهمتي “القتل غير العمد” و”تهديد حيوات الآخرين”. قبل أن تغبط الفرنسيين على سيادة القانون، تذكّرْ عزيزي القارئ ذلك المدير الذي تأخر يومين على الأقل كي يطلب بقاء التلاميذ في بيوتهم بسبب إصابة في صفهم، فهو ليس حالة شاذة، إنه يطبق القانون. في وسعك أيضاً عزيزي تجربة ازدحام المواصلات في باريس “التي لم يرَ فيها الرئيس مشكلة”، ورؤية نوافذ عربات المترو مغلقة مع تهوية سيئة جداً وغياب ملحوظ لجهة تتأكد من ارتداء الركاب كماماتهم وفق التعليمات. قد لا يخلو ذلك كله من المرح، إذ يصعد إلى العربة متسول عبر الغناء ليذكّرك بالزمن الجميل، ويصدح إلى جانبك بأعلى صوته، ولا تنقصه الفكاهة إذ يهتف بحماس: نحن معاً سنقتل الفيروس.
*المدن