عمر قدور: علويون وأكراد وسُنّة

0

يسود في أوساط السوريين الشعورُ بالإحباط أو الهزيمة، أو الاثنين معاً، على نحو غير مسبوق خلال السنوات العشر الأخيرة. الإحساس منتشر في المناطق الثلاث لأسباب مختلفة؛ الفاقة والانهيار المعيشي والخدمي في مناطق سيطرة الأسد، التهديد الروسي الذي تثقل وطأته في مناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركياً، الخوف من المجهول مع انسحاب محتمل للمظلة الأمريكية في مناطق الإدارة الذاتية “الكردية”. لا يخفى أن الأنظار في المناطق الثلاث تتجه خارجاً لمعرفة ما يُقرر لهم، وهذا لا يمنع تبادل الاتهامات “المحقة” بالتبعية للخارج بين مختلف الأطراف. 

تقسيم مناطق النفوذ الحالي هو شأن دولي، ولا يطابق الانقسام السوري الذي أودى بالثورة، أو باحتمال التغيير الديموقراطي لمن لا ترق له كلمة الثورة. وسيكون من السهل على كثرٍ إنكار آثار الانقسام الأول، ومن ثم إنكار أثره المدمر على فرصة التغيير السلمي الذي كان يستحيل حدوثه من دون غالبية سورية “متعددة ومتنوعة فعلاً وحقاً” تعزل الطغمة الحاكمة، وتعطل جزءاً معتبراً من أنيابها العسكرية والمخابراتية. ذلك الانقسام الأول يمكننا اختزاله بصعود الجماعات الثلاث، العلويين والأكراد والسُنّة، كجماعات مقابلة للثورة، على الضد منها وبديلاً عنها.

الصعود المقصود هنا هو الصعود الرمزي، أو المتخيَّل حسبما يروق للبعض، وهنا لا ينفع دحضه بآليات الإنكار التي استُخدمت بوفرة عن حسن نية أو عن سوئها وخبثها. في هذا السياق نستثني جماعات سورية أخرى، فالدروز والطوائف المسيحية “من ضمنها الأرمن” لهم من قبل الثورة تمايز قانوني يعترف بهم كجماعة مختلفة، والمقصود بذلك احتكام هذه الجماعات إلى قوانين أحوال شخصية “من زواج وإرث..” مختلفة عما هو معمول به لدى باقي الجماعات، وحصول الأرمن على حق تعلم الأرمنية في مدارسهم الخاصة، وهو حق لم يُمنح لجماعات عرقية أخرى على رأٍسها الأكراد. لنقل أن هذا التمايز وضع حاجزاً غير مرئي بين هذه الجماعات وباقي “السوريين”، أما الأخيرين فتكفلت العوامل السياسية والثقافية والذاتية والشخصية “من دون القانونية” بوضع الحواجز أو رفعها بينهم.

يفضّل البعض القول أن ما كان مكبوتاً، من انقسام ينطوي على الروابط ضمن الجماعة وتالياً الحواجز غير المرئية بينها وبين الجماعات الأخرى، أطلقته الثورة إلى العلن. إلا أن هذه مقولة شديدة التبسيط، وأحادية جداً إذ تنسب للثورة أثراً أشبه بالميكانيكي، من دون ملاحظة الأثر الأعمق لها، أي ملاحظة أثر الثورة المحرِّض لخصومها وبروزهم لمواجهتها؛ كل طرف من هذه الأطراف لموجباته ومخاوفه الخاصة منها. قد يكون صادماً القول، مع الاحتفاظ بالتفاضل القيمي بينهما، أن الثورة تكمل ما استثمرت فيه سلطة الأسد أو البعث. 

حسب مفهومنا لكلمة “الثورة”؛ هي تلك القيم التي نادى بها المنتفضون في البداية، قيم الحريات العامة والديموقراطية والمساواة أمام القانون. بالمجمل، كان مفهوماً أن ما يُنادى به هو النموذج الغربي، أو لنقل أنه بمثابة طموح أو مثال. ترجمة ذلك أن التغيير المنشود يهدف إلى تحقيق الحريات الفردية، من ضمن باقة الحريات العامة والتغيير الديموقراطي عموماً. بمزيد من الشرح، يهدد نظام الحريات سلطة الاستبداد أولاً، لكنه يهدد سلطات اجتماعية وجماعاتية ستسعى بكافة السبل كي تتصدى للخطر المقبل.

إذا كان صحيحاً مثلاً أن “النظام” بدأ الاستثمار العلني في الطائفية بتصوير الثورة ثورةَ سُنّة وتقديم نفسه حامياً للعلويين، وللأقليات “على البيعة بتعبير شعبي”، فإن آخرين من المقلب الآخر “لا المضاد بالضرورة” لم يوفروا فرصة لوصفها كـ”ثورة سنية”. أرادها الأسد ثورة سنية لتخويف غير السنّة داخلياً والعالم عموماً، وأرادها أصحاب “الدم السني الواحد” مشروعاً على مقاس الأيديولوجية الإسلامية. في حين لم يجد الأكراد أنفسهم لا هنا ولا هناك، وهذا ليس السبب الوحيد لنهوض الجماعة الكردية، فلدى الأكراد تجربة حزبية قومية بدأت منذ النصف الثاني من الخمسينات، فضلاً عن تجربة الفرع السوري لحزب العمال التي راحت تصعد في النصف الثاني من الثمانينات. 

من جملة ما تعنيه قيم الثورة “المغدورة” حق الأفراد في تأسيس الجماعات، وحقهم في الخروج منها، وهو حق لا ينقض الاستبداد وحده، بل ينقض أيضاً ما يُنظر إليه كحق “طبيعي” من حقوق الجماعات الدينية والقومية أيضاً، رغم انتماء الثانية منهما إلى منظومة الحداثة. من معرفتنا بالواقع فإن كل الجماعات السورية “ببعديها الواقعي أو المتخيَّل” ترفض تغييراً يهدد بعضاً منها بحرية الإيمان أو التدين أو عدمهما، ويهدد القضية القومية إذ يدرجها ضمن مشروع ديموقراطي وطني، ويهدد السلطة “الفعلية أو المتخيَّلة” لجماعة ثالثة، يُضاف إليها قضايا من نوع حرية المرأة عموماً، أو حريتها في اختيار شريك من خارج الجماعة لدى بعض الطوائف.

بالطبع لم يكن التغيير الديموقراطي “لو حدث” سينجز كل ذلك دفعة واحدة، المخاوف هي من مجرد الشروع فيه، ومن عدم القدرة على إيقافه لاحقاً. ولم تنجح محاولات تطمين الجماعات المختلفة، لأنه كان ثمة دجل أو تدليس فكريين في الاستشهاد بحقوق الجماعات التي يكفلها بعض الدساتير الغربية، فالحق أن حقوق الجماعات هناك هي استكمال لحقوق الأفراد في تأسيس الجماعات وحلها أو الخروج منها، بصرف النظر عن كونها جماعات دينية أو سياسية. وحتى التمييز الإيجابي لصالح بعض المجموعات المهمشة أتى خطوة متقدمة إضافية، لا تمس بأي حال الجوهر الحقوقي الذي ينطلق من الحرية الفردية وأولويتها.

لقد شهدنا خلال السنوات العشر الأخيرة كيف جرى تخوين المارقين مما يُفترض أنه الموقف الموحد للجماعات؛ تخوين العلوي المنحاز بلا لبس إلى الثورة، وتخوين السني الموالي، وتخوين الكردي المنحاز للثورة كمشروع ديموقراطي وطني. فكرة التخوين في هذا السياق تنطلق من عدم اعتراف الجماعة “المتخيَّلة أو الواقعية سيّان” بحرية الفرد المنحدر منها، عدم الاعتراف به ككائن سياسي مستقل، ولا شك في أن الإرهاب الذي مورس على المارقين ساهم إلى حد كبير في لجم أفراد آخرين وفي انضوائهم ضمن الجماعة. أما تركيز الأسد على واجهات سنية “بما فيها رجال ونساء دين”، والاحتفاء في الجهة الأخرى بعلويين أو أبناء “أقليات” أخرى، فلم يُنظر إليهما سوى كمحاولات تزيين عديمة الأصالة، وكذلك هو حال الإدارة الذاتية بإشراكها مكونات أخرى غير كردية. لا ننسى في كافة الحالات وجود رافضين لذلك الديكور، ينظرون بريبة إلى مقدار ولاء من هم من خارج الجماعة. 

حالة الجماعات السورية ليست استثناء بين النموذجين العراقي واللبناني على اختلافهما، وليس من قبيل الاستثناء أيضاً أن شهدت السنوات العشر الأخيرة ذاتها مسارين متعاكسين؛ الصعود الرمزي مقابل التحطم الواقعي للجماعات السورية. أحد أوجه الهزيمة أو الفشل السوريين أن التحطم الواقعي لم يقدم بعد درساً كافياً من أجل التحطم الرمزي، ولن ينجح مشروع التغيير يوماً طالما بقيت هذه الجماعات مستعدة للقتال والانتحار للحفاظ على سلطتها المادية أو المعنوية، ولو على الأطلال.

*المدن