عمر قدور: عارية تحت هلال رمضان

0

بينما ترصد كاميرا موبايل تلك المرأة شبه العارية، تعلّق امرأة أخرى بما معناه: يا ريت نصوّرها ونبعتها للحكومة.. لنقول “لهم”: شوفوا شلون الناس طق عقلها. قبل ذلك بثوانٍ، في حوار بين المرأة صاحبة التعليق ورجل قد يكون من أصحاب المحلات التجارية في الشارع، يخبرها الرجل بأن تلك المرأة تتردد إلى المكان، إلا أنها في الأمس أتت مرتدية ثيابها، وأنها للمرة الأولى تظهر شبه عارية هكذا.

مكان الحادثة هو مدينة حلب، والتسجيل الذي انتشر قبل ثلاثة أيام رافقته تعليقات تشير إلى قيام المرأة بالتسول وعرض جسدها مقابل المال، بينما ذهبت تعليقات أخرى إلى رفضها المال ومطالبتها بالغذاء فقط، رغم أن معروضات واجهة المتجر الذي تتوجه إلى صاحبه لا تشير إلى كونه متجراً للمواد الغذائية. المؤكد أن المرأة فاقدة توازنها، وأن امرأة أخرى صادف وجودها في المكان اعتبرتها نموذجاً على حالة أعمّ ينبغي للحكومة “المسؤولة” رؤيتها، يعزز من قولها هذا نبرة التعاطف التي يردد بها الموجودون دعاء: يا لطيف.. يا لطيف. 

من المرجح ألا ينفصل فقدان توازن المرأة عن طريقة التعبير عنه، أي تعبيرها بعريها، فهو يستبطن استخدام جسدها كسلعة مقابل سلع تحتاجها للعيش، حتى إذا كانت قد أصبحت في جنونها خارج المقايضة المعتادة. وكما نعلم تحدث المقايضة في الخفاء، على نحو لا يستثير الدهشة أو الغضب، ويتكفل التواطؤ الاجتماعي “تواطؤ الضرورة” بالتستر على تلك المقايضات صوناً لصورة المجتمع عن نفسه وعن نسائه. 

في مفارقة فادحة، كان الفايسبوك “المعارض” منشغلاً في التوقيت نفسه بالجدال حول مذيعة سورية قررت خلع حجابها، وحول سياسية معارضة غطت رأسها أثناء زيارتها لمدينة الباب “مراعاة” لمشاعر أهلها المنطقة. هكذا كان الجدال حول امرأتين تصرفتا بإرادتهن يطغى على حادثة تلك المرأة التي تعرت بسبب فقدانها عقلها، أي خارج إرادتها شكلياً، والتي تستحق الاهتمام “كظاهرة” بسبب الظروف التي أوصلتها إلى هذه الحال، أي إلى الحال الذي تسلك فيه سلوكاً يخالف ما كانت تفعله وهي بقواها العقلية السليمة. 

أسوأ استغلال لقضية المرأة القول بأن تعريها يفضح ما وصلت إليه الأحوال في المناطق التي يسيطر عليها الأسد، وهو صحيح ما لم يُستخدم كقول جامع مانع، أي كقول يعفي من التفكر في شأنها وشؤون أمثالها من النساء والرجال الضحايا. ثم إن هذه الصيغة لا تستغرق ما هو مشترك من معاناة معيشية لسوريين تحت سيطرة الأسد ونظيرتها لسوريين تحت سيطرة ميليشيات الأمر الواقع في مناطق سورية أخرى، حيث تتفاقم الحاجة الماسة إلى أبسط مقومات العيش في الجانبين، ومع تفاقم الفقر يتراجع منسوب الحرية بما تفرضه قوانين الحاجة على الجميع. 

في ما يخص النساء تحديداً، ثمة نساء تحجبن في مناطق سيطرة الأسد لإخفاء أنوثتهن عن أعين الشبيحة الذين لا يتورعون عن اغتصاب امرأة تروق لهم، وهناك خارج سيطرة الأسد نساء تحجبن بسبب قرارات لشرعيي الفصائل المسيطرة، أو خوفاً من عناصر تلك الفصائل إذا لم تكن هناك قرارات واضحة تخص الحجاب. نحن في الحالتين إزاء نساء ليس لهن أبسط حريات التصرف بأجسادهن، أي حرية التحجب أو السفور. 

يتحاشى السوريون حتى الآن الخوض في ما هو أشد منافاة للحرية، وما هو أبعد عن ذلك الشرف المتخيّل المزعوم، الشرف الذي تنوء المرأة تحت عبئه. تحت ضغط الفاقة، اضطرت نسبة متزايدة من النساء إلى بيع أجسادهن من أجل تأمين لقمة العيش لهن أو لأسرهن. هذا حدث ويحدث، في أماكن سيطرة الأسد وفي مناطق سيطرة الميليشيات، والزبائن في الحالتين من الفئة القادرة على الدفع وهي شريحة السلطة هنا وهناك. وفي الحالتين نحن إزاء بغاء اضطراري، تُحرم فيه المرأة واقعياً من حرية التصرف بجسدها، وفي مثل هذا الواقع لا تُصرف مقولات من نوع “تموت الحرة ولا تأكل بثدييها”، لأنها إذا صحّت فبنسبة ضئيلة وإلا كانت أماتت ألوف النساء وما يتبعهن من أفراد أسرهن.

الإشارة إلى وضع تلك النسوة لا تستهدف استثارة حمية حراس الشرف المزعوم، ولا يُنتظر منهم أو من سواهم فعل شيء لتغيير الواقع ضمن عجز السوريين عموماً. الهدف منها فقط تبيان الهوة التي تزداد عمقاً بين واقع السوريين وصورتهم التي يتخيلونها عن واقعهم، وهي صورة لا تأخذ في الحسبان آثار الدمار في مختلف أنحاء سوريا، ويتجاهل فيها “حراس الشرف” عجزهم أمام واقع يفرض شروطه، مثلما يتجاهل أنصار حرية المرأة عجزهم إزاء اللواتي تسلبهن الفاقة أبسط حرياتهن وحقوقهن. 

والحديث عن الفاقة يكتسب زخماً إضافياً مع قدوم شهر رمضان، بصبغته الاجتماعية التي جعلت منه شهراً للاحتفاء بالمأكولات أكثر منه شهراً للصيام، مع تأثير ذلك الإقبال المرتفع على أسعار المواد الغذائية، ثم على أسعار الألبسة لمناسبة العيد اللاحق. بتعبير مجازي، لدينا امرأة شبه عارية تحت هلال رمضان، امرأة تختصر حال النسبة الساحقة من السوريين هنا وهناك. لدينا في المقابل، سلطات أمر واقع لا تُبدي أدنى رأفة بالسوريين ولا أدنى حساسية تجاه مآسيهم، بل تمارس سطوتها بانفصال عن الواقع مشابه لانفصال الأسد عنه. من ذلك إصدار سلطة هيئة تحرير الشام “النصرة” قراراً بمنع المسحراتية من العمل بوصفهم بدعة لا أصل لها في السنة النبوية، وكذلك قرار النائب العام في جرابلس باتخاذ “كافة التدابير والإجراءات القانونية للحد من ظاهرة الإفطار العلني” وتقديم من يجهر بالإفطار إلى القضاء، وهذا إجراء معمول به أيضاً ضمن المناطق الواقعة تحت سيطرة الأسد.

كان لتلك المرأة المجهولة بعض الحظ، بتصويرها من قبل مجهول وبقليل من الاهتمام الذي نالته قصتها. فلو خرجت شبه عارية في خضم انشغال الناس بدراما رمضان التلفزيونية لما كانت أثارت حتى ذلك القدر المتواضع من الانتباه، وهذا ليس للانتقاص من الدراما التي مهما بلغت من الابتذال تبقى أكثر رأفة من التحديق في البؤس!     

*المدن