عمر قدور: شريفة فاضل.. صانعة الأفراح في زمن الاستبكاء

0

سلطانة الطرب تؤدي دور سلطانة الطرب
في أبريل/نيسان1979، عُرض فيلم “سلطانة الطرب” من بطولة شريفة فاضل وفريد شوقي، الفيلم يتناول سيرة المغنية منيرة المهدية. كانت سلطانة الطرب “الثانية” تؤدي في الفيلم دور من حملت اللقب أولاً، كانت “فوقية محمود أحمد ندا” تتقمص شخصية “زكية حسن منصور” الملقّبة بالمهدية نسبة إلى مكان ولادتها.

يصحّ اعتبار فيلم “سلطانة الطرب” برمزيته تتويجاً لمسيرة شريفة فاضل، رغم أنه لم يكن آخر أفلامها، فهي بعد ست سنوات ستختتم مسيرتها التمثيلية بفيلم “تل العقارب”. في تل العقارب، حتى صوتها لم يعد كما كان من قبل، خاصة البحّة التي تغيرت طبيعتها فظهر فيها بعض “الخشونة”، وهذا ما ظهر جلياً في أغاني الفيلم “يا حلاوة الإيد الشغالة” و”سكّر حبيبي يا زماني سكّر” و”لمسة حبيبي”. في الأصل لا يبدو هذا المديح الجاد للكادحين “يا حلاوة الإيد الشغالة” من طبيعة أغانيها، ولعل فيه من الطرافة ما يشبه تقديم المطرب محمد رشدي في تتر فيلمها حارة السقايين بـ”مطرب العمال والفلاحين”!

يُذكر أنها بدأت مسيرتها الفنية، كالعديد من نجمات الغناء في ذلك الزمن، في حقل التمثيل، وحيث كان الغناء جزءاً من العدة السينمائية آنذاك فقد ظهرت مواهب بعضهن الغنائية لتطغى على الأصل. حسبما هو متداول، دخلت شريفة فاضل مجال التمثيل بفيلم الأب 1947، وفي العام التالي مثلت في فيلم “اللعب بالنار”، ثم في عام 1951 مثلت في فيلمين هما “أولادي” و”وداعاً يا غرامي”، ثم التحقت بعدهما بمعهد التمثيل كمستمعة نظراً لصغر سنها.

يستند الحديث عن صغر سنها عندما بدأت التمثيل إلى شيوع تاريخ عام 1938 لميلادها، وهو تاريخ غير صحيح على الأرجح، لأن ابنها “سيد السيد بدير” سيستشهد في حرب أكتوبر1973 وهو ملازم أول طيار. عليه يُفترض أن يكون قد ولد في بدايات الخمسينات، وليس من مصدر يشير إلى أنها تزوجت وأنجبت في سنّ مبكر جداً. المفارقة أن موقع “الهيئة الوطنية للإعلام” يعتمد عام 1929 كتاريخ لميلادها، ثم يشير إلى أنها كانت في الرابعة عشر عندما مثلت في فيلم “وداعاً يا غرامي-1951″، في حين ينبغي أن تكون وفقاً للتاريخين قد بلغت الثانية والعشرين!

إذاً، ربما ساعدت شريفة فاضل مكانة زوج أمها في الدخول إلى معهد التمثيل في الأربعينات، وربما تكون وهي طفلة قد غنت بحضور الملك فاروق الذي كان في ضيافتهم وأعجب بصوتها كما يروي بعض المصادر من دون تحديد الزمن، ربما تكون قد غنت له من أغاني ليلى مراد أو أسمهان الصاعدتين في تلك الحقبة. على كل حال، إذا ساعدها ثراء ووجاهة زوج أمها فلا يُستبعد أيضاً تأثير ذلك الدفع المعنوي الآتي من كونها حفيدة الشيخ القارئ أحمد ندا الملقب بـ”مؤسس دولة التلاوة”. لا نعثر على أية إشارة لصلة بين الشيخ ندا والسلطانة منيرة، بخلاف الإشارات عن كونه مقصداً لمطربين صاعدين أيامها مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم التي نصحها زكريا أحمد بالتعلم منه. وعلاقة الجَد بالطرب قديمة إذ يُذكر ذلك التباري القديم في تأدية المقامات بينه وبين المطرب عبده الحامولي، حين كان الحامولي يؤذن في “الحسين”، بينما ورث الشيخ ندا من أبيه منبر “السيدة زينب”.

من المحتمل جداً أن تكون المهدية قد نشأت على أغاني الحامولي وألمظ، وفيلم سلطانة الطرب يبدأ في قصر لأحد الباشاوات مع مجموعة تغني دور “يا ما أنت واحشني”. للوهلة الأولى سيمر سماع الدور بحكم المعتاد عندما نكون في سياق الطرب، لكن يلزم قليل من التمهل لتذكّر أن الدور لم يكن قديماً دائماً، بل كان أيامها من الألحان الجديدة التي قدّمها محمد عثمان الذي توفي عام1900. لا بأس في التذكير بأن بعض ألحان محمد عثمان سيبقى لغاية اليوم بمثابة ممر للذين يجربون أداء الطرب، ومن ألحانه الأكثر شيوعاً دور “أصل الغرام” وموشح “ملا الكاسات”، من دون أن ننسى لحنه الرائع لدور “كادني الهوى”. ولدور “يا ما أنت واحشني” ميزة في زمنه، إذ يُقال أن محمد عثمان لحّنه على مقام الحجاز كار بعد سفرته إلى إسطنبول حيث لم يكن المقام شائعاً في مصر من قبل، وهو بهذا المعنى جمع الجانب الإحيائي للدور الذي يُسجّل لصاحبه مع الجانب التحديثي.

في النصف الثاني من ثلاثينات القرن، كانت قد بدأت تظهر نتائج الثراء الفني الناجم عن اجتماع موجتي التأسيس والتحديث معاً. كانت قد تأسست إذاعة مصر، وكان استديو مصر قد أُفتتح في 1935 كأول استديو للإنتاج السينمائي كنايةً عن تأسيس هوليوود الشرق، وراحت أجهزة الفونوغراف تنشر تسجيلات للمطربين والملحنين الجدد والمخضرمين مثل سيد درويش ومنيرة المهدية ويوسف المنيلاوي، وصولاً إلى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب. غير بعيد عما سبق، العديد من جمعيات الفن التشكيلي التي أنشئت في تلك الحقبة لن يكون بلا أثر على الطفلة التي تعيش في كنف واحد من أثرياء مصر، ففي زيارة إلى بيتها في العام 2020، لمناسبة عيد ميلادها، ستنشر جريدة “اليوم السابع” لوحات لشريفة فاضل لا يمكن أن ترسمها سوى من تعلّمت الرسم في الصغر، ربما قبل أن يطغى التمثيل والغناء عليها.

الطريف أن شريفة فاضل ستقول، في أكثر من حوار تلفزيوني، أنها كانت تحلم بأن تصبح مثل أم كلثوم. إلا أنها مسيرتها ستُتوج بلقب “سلطانة الطرب” الذي يعيد إلى الأذهان منيرة المهدية، والتي لطالما انشغلت الأوساط الإعلامية بما كان يُعتبر منافسة بينها وبين أم كلثوم انتهت لصالح الأخيرة منهما. بخلاف ما حلمت به يوماً، كان من الصعب عليها اقتفاء أثر الست، فهي من مزاج مغاير تماماً، مزاج يصعب عليه الانضباط. والحال هذه كان من المنطقي أن تفشل الأغنية التي فضّل السنباطي إعطاءها إياها بعدما لحّنها للستّ “خليك بعيد”، ظناً منه أنها تناسب صوتها أكثر مما تناسب أم كلثوم، بل تروي شريفة فاضل أن الجمهور عندما بدأت في أداء تلك الأغنية قابلها بالاستهجان طالباً منها العودة إلى لونها المعتاد. وهكذا، يحدث أحياناً أن يكون الحلم خاطئاً، أو أن يكون الواقع أكثر صواباً منه. غير بعيد عن الصواب أن تنتج شريفة فاضل فيلماً واحداً في حياتها، تحت مسمى شريفون، هو فيلم سلطانة الطرب. 

ابنة الباشا في زمن الأفندية
يصادف أن تبدأ شريفة فاضل مسيرتها الفنية في المرحلة التي ستشهد أهم حدث عام، هو انقلاب “الضباط الأحرار” على الملك فاروق، لتمضي مسيرتها “وهي ابنة الباشا رمزياً” في زمن الأفندية. واستخدامنا تعبير “زمن الأفندية” يحتمل العديد من الدلالات، أكثرها إيجابية هو كسر ما قد يعنيه زمن الباشوات من احتكار.

من الحقبة السابقة عليها، ورثت الناصرية زخماً صاعداً بقوة في مختلف حقول الثقافة والفنون. بطبيعة التطورات المقرونة بتقدم الزمن، كانت السينما تتقدم، والأغنية خلال عقد مضى كانت قد دخلت ما يمكن تسميته بمرحلة التأسيس الثانية، مدفوعة بنشاط الإذاعة وتطور تقنيات الصوتيات. وصولاً إلى الستينات، كان هناك ثراء ووفرة غير مسبوقين على صعيد الأغنية، لكن في مقابل الغنى اللحني راح النمط المهيمن يستقر على نوعين؛ ما بات يُعرف بالطرب الكلثومي، نسبة إلى أغانيها المطوّلة، وأيضاً ما بات يُعرف بالأغنية الكلثومية، نسبة إلى التفجع العاطفي الذي صار موجة كاسحة.

لم تنضوِ شريفة فاضل في الموجة العاطفية الغالبة، ولم يكن لديها ذلك الانضباط الذي يؤهّلها للمضي في الخيار الطربي الكلثومي. لقد كانت روحها أقرب إلى الطرب البهيج الذي راح يتوارى تحت ضغط الموجة الجديدة، وبهذا شيء من الأمانة لزمن مضى كانت وعوده أكثر تنوعاً. لم تكن الأغنية العاطفية السائدة ستقبل من ضمنها مثلاً أغنية “عاملي مش واخد باله” لشريفة فاضل، فالسائد أبعد ما يكون عن كلمات من قبيل “عاملي مش واخد باله.. وف إيده سيجارته وفنجاله. وغلُبت أفوت جنبه وأرجع.. ما رفعش عينيه عن جورناله. قال يعني مش واخد باله”.

لم يكن وارداً في اللون العاطفي السائد استخدام نثريات الحياة “سيجارة، قهوة، جريدة”، فضلاً عن ذلك اللعب المرِح بين رجل وامرأة، وأكثر من هذا: إسناد دور الدلال والتمنع للرجل، والدلع المبادِر بوضوح للمرأة. مع ما يناسبها من ألحان بهيجة عموماً، سنرى صوراً مشابهة للمرأة التي تبادر، التي ترفض، التي تضع شروطها، التي تخشى الهجر من دون إغراق في التفجع أو تسول الحزن، في أغنيات أخرى مثل “وحياتك يا شيخ مسعود” و”فلاح”، وبالطبع في الأغنية الأشهر “حارة السقايين”.

سينال اللون الذي تؤديه شريفة فاضل نجاحاً مستحقاً، إلا أن الترسيمة الغالبة ستطردها خارج المنافسة الخاصة بالأغنية العاطفية، لتبقيها في الهامش. سيُطلق عليها لقب “المطربة الشعبية”، وسيعفيها هذا “من الناحية الإيجابية” من ضراوة المعارك بين المغنين العاطفيين للاستحواذ على الشهرة. هي بنفسها ستصرّح بذلك في لقاء تلفزيوني، إذ تقول إن عبدالحليم حافظ كان يفضّل رفقتها لتشاركه الغناء في جولاته الخارجية على مغنيات أو مغنين يؤدون اللون العاطفي ذاته الذي يؤديه، إنها خارج المنافسة.

صانعة الأفراح
لئن كانت شريفة فاضل في عموم أغانيها تزرع البهجة، فهي بالمعنى الحرفي كانت المطربة التي تحيي الأفراح، أي الأعراس. بدأ ذلك إثر النجاح الساحق الذي حققته أغنيتها “مبروك عليك يا معجباني يا غالي.. عروستك الحلوة قمر بيلالي” من ألحان سيد مكاوي، ولهذا السبب غنت شريفة فاضل أغنيات غيرها الشهيرة كأغنيات للأعراس، مثل أغنية “دقوا المزاهر” لفريد الأطرش، وأغنيتيْ “اتمخطري يا حلوة يا زينة” و”مبروك عليكِ عريسك الخفة” اللتين أدتها المطربة سيدة حسن من ألحان الاسم المغمور أحمد الشريف، الملحن الذي أمضى أغلب حياته عازفاً على القانون في فرقة بديعة مصابني.

لعل هذا الجانب من مسيرة شريفة فاضل الفنية هو ما يقرّبها من لقب “المطربة الشعبية”، ولا نجدها تتبناه في حواراتها بقدر ما يأتي على ألسنة محاوريها. فأغاني الأفراح تحقق العديد من شروط الأغنية الشعبية، هي مثلاً تنفصل عن أصحابها، لتبدو كأنها وُجدت بلا تاريخ ولا ملحنين ولا مغنين معروفين. قلائل مثلاً قد يعرفون أن “دقوا المزاهر” من ألحان فريد الأطرش رغم أنه أكثر ألحانه شيوعاً، أو يعرفون شيئاً ما عن أحمد الشريف أو سيدة حسن يوازي معرفتهما بأغنيتيهما التي سبقت الإشارة إليهما.

في هذا النوع من الأغنية الشعبية تتقدم القيمة الاستعمالية “بتعبير اقتصادي” عما عداها، هي قيمة المناسبة “الزفاف”. لكنها لا تخلو مما قد يروق لمزاج شريفة فاضل، فهي أغنية مكتوبة بهدف إشاعة الفرح، وهي متخففة تماماً من بكائيات اللون العاطفي الذي كان سائداً. وهي إلى ذلك أغنية اللقاء المتخفف من دواعي الحرج والعفة المفرطة، في زمن راحت فيه تلك العفة المبالغ فيها تكتسب موقع المتعالي طبقياً ليصبح ما هو أقل منها شعبياً.

منير مراد.. لو لم يكن يهودياً؟
لن تكون شريفة فاضل مثار الحديث ذاته لو انتزعنا من مسيرتها ثلاث أغنيات من تلحين منير مراد؛ حارة السقايين، لما راح الصبر منه، الليل. الأولى والثانية منهما أعيد اكتشافهما من قبل مغنين جدد في العقدين الأخيرين، ونالتا شعبية واسعة، في حين بقي اللعب والتجريب الموجود في أغنية “الليل” بمنأى عن عبث المعاصرين. نصادف مثلاً على يوتيوب تسجيلاً لأغنية “حارة السقايين” من برنامج Arab idol نال أكثر من 100 مليون مشاهدة، بأداء محمد منير ونانسي عجرم، ولعل في هذا الرقم دلالة على نجاح اللحن لدى الأجيال الجديدة، رغم اجتماع محمد منير وعجرم على إفساده بجدارة.

يدخل محمد منير إلى أغنية “حارة السقايين” بما يشبه التفريد بدءاً من الكوبليه الأخير للأغنية “ما فيناش حاوريني يا كيكة.. ما فيناش لفّ ودوران”، وإذ يركّز على بعض المواضع مثل “أنا عايزة حب حنيّن” و”أنا عمري لا أحب الخاين ولا أحب الكدابين” فهو يبدو كأنه يعضّ على اللحن! إنه يدخل من الزاوية العاطفية التقليدية ونظيرتها الأخلاقية، وبناء على هذه القراءة المحدودة الضيقة يستبعد الكوبليه الثاني من أدائه للأغنية. وما فعله منير هو الدليل السيئ إلى الأغنية، والدليل السيئ على التراجع الذي لا يقتصر على الذائقة الموسيقية عن زمن إنتاج اللحن.

كالمعتاد في معظم الأغاني، الكوبليه الأوسط في “حارة السقايين” هو المركز، وكلماته هي التعبير الأهم عن روح الأغنية. نسمع فيه من كلمات حسين السيد “سيبك من البحر اللي أنت غرّقته نار ودموع، والأمل اللي أنا طمّعته وخلّيته يموت من الجوع، والليل اللي مالوش آخر، والقلب أبو شوق موجوع، سيبنا من الهم ده كله؛ نتكلم في الموضوع:…”. نحن إزاء نص مفارق للعاطفي السائد آنذاك، وإحالته إلى “الشعبي” فيها تشاوفٌ مضمر، فضلاً عن التبرؤ من معانيه. أما أداء شريفة فاضل فهو يأتي على قدّ اللحن الرشيق تماماً، بلا مبالغات ولا زوائد، وهذا ما يضفي عليه رونقاً كان سيفقده لو أُغرق في لغو موسيقي.

يُحكى أن منير مراد عرض لحن “الليل” أولاً على محمد عبدالمطلب، فقال له مستنكراً: عايزني أغنّي خواجاتي يا منير؟! ووصف الخواجاتي لطالما أُطلق على منير مراد المتأثر بالبلوز والجاز، والملحِّن على مقامات يمكن عزفها على السلم الموسيقي الغربي، مع عدم استبعاد كونه وريث الطقطوقة؛ اللون المحبّب لوالده زكي مراد “أو مردخاي حسب الاسم الأصلي للعائلة”. في أغنية الليل تحديداً تبرز تلك المفارقة في المزج بين مواويل الليل الطربية والآلات الغربية من أورغ وغيتار كهربائي وأوكورديون وإيقاع الجيرك. في واحد من التسجيلات يعزف عمار الشريعي على الأورغ، وعند البدء باللحن يبتسم ببهجة المقبل على اللعب الذي يحب، ولعل هذه الابتسامة من موسيقار مثله أفضل تزكية للّحن.

وصف “خواجاتي” ليس فيه اختصار فقط لتلاقي الغرب والشرق، فهو يضمر نظرة سلبية تجعل صاحبه خارج المتن الفني “الأصيل”. في سيرة منير مراد الشخصية ما يدعم ذلك، فهو تتلمذ على موسيقي يوناني، وسبق له الدراسة في المدرسة الفرنسية، وقبل ذلك كله يهودي، وإن أشهر إسلامه من أجل زواجه الثاني “بسهير البابلي”، فهو لم يفعل ذلك عندما لم يكن مضطراً في زواجه الأول من إيطالية.

لم يأخذ منير حقه من الشهرة كصاحب لون خاص كانت له بصمة عميقة في مسيرة بعض الفنانين، فشادية لن تبقى تلك التي نعرفها لو ألغينا من مسيرتها أغنيات من ألحانه مثل: ما أقدرش أحب تنين، يا دبلة الخطوبة، سوق على مهلك سوق، على عش الحب، القلب معاك، إن راح منك يا عين. بينما قد لا يتأثر عبدالحليم حافظ إذا انتزعنا من رصيده أغانٍ مثل “بكرا وبعده” و”ضحك ولعب وجد وحب” و”وحياة قلبي وأفراحه”، أو حتى “أول مرة تحب يا قلبي” و”بأمر الحب” و”بحلم بيك”، ففي مسيرة العندليب من نمط الأغاني العاطفية المغايرة ما يطغى علي تلك النفحات “الخواجاتية”. ولا يخلو من دلالة أن منير مراد لم يلحّن القصيدة، وباستثناء مرة واحدة لم يلحّن “الأغاني الوطنية” التي تكاثرت في عهد الناصرية وبإشراف أو طلب من أعلى مستويات السلطة.

فضلاً عن ألحانه المعروفة لشادية، ثمة لقاء آخر مثمر بين صانعَيْ بهجة وفرح؛ شريفة فاضل ومنير مراد. كلاهما لم ينتميا إلى المَتن الذي ساد في تلك الحقبة، هو القادم من المزج بين الغرب والشرق، وهي المخلصة لزمن أقدم في الطرب، وأقل صرامة مما استقر عليه في الستينات. قد يجوز تشبيه الاثنين بالهاربين من المدرسة، والمخلصَيْن لفكرة الهروب، حتى إذا لم يكن لها قيمة فنية عالية على طول الخط.

سيلاحق الإهمال منير مراد في وفاته التي صادفت بعد 12 يوماً من اغتيال أنور السادات، فيقتصر تشييعه على اثنين من أفراد العائلة، وعلى خبر مختصر تنشره جريدة كبرى بعد يومين من وفاته، فلا يُحتفى به كما يليق لمناسبة رحيله، وتُرمى المسؤولية على حالة الطوارئ التي كانت سائدة في البلاد. لم يكن إهمال منير مراد من نوع إهمال ثناء ندا لمناسبة وفاتها، حيث لا نعثر سوى على خبر موجز في صفحة الوفيات في جريدة الأهرام، والتي لا يظهر فيها إلكترونياً تاريخ العدد: البقاء لله توفيت الى رحمة الله تعالي أمس الاول الحاجة ثناء أحمد ندا شقيقة الفنانة شريفة فاضل وأقيمت ليلة العزاء أمس. فمكانة ثناء ورصيدها لا يُقارنان بمكانة ورصيد منير مراد الحافلَيْن، ثناء كان لها تجربة في الغناء قصيرة ومتواضعة، وإن لحّن لها ملحنون معروفون من أمثال بليغ حمدي. ثمة شذرة نادرة عن حياتها توردها إيمان مرسال وهي تنقل تجربة عازف الكمان إميل باسيلي الذي رافق ثناء في 22 ديسمبر 1969 إلى باريس بموجب عقد، لتغني في ملهى الجزائر في سان ميشيل، الملهى الذي غنت فيه أيضاً أم كلثوم وغنى فيه فريد الأطرش.

من متمردة الليل إلى أمّ البطل
لن يكون مستغرباً لمتابعي الأحوال القول أن شريفة فاضل لاقت من الاستهجان، المضمر والمعلن، بسبب افتتاحها كازينو “الليل” ما لم تلاقِه منيرة المهدية التي كان لها كازينو “نزهة النفوس”، رغم أن مرور الزمن ينبغي أن يكون نظرياً لصالح التجربة اللاحقة. في صدى لذلك الاستهجان، ستُضطر في العديد من الحوارات إلى توضيح مصدر الأموال التي اشترت بها الأرض وبنَت الكازينو في شارع الهرم، وتوضيح أنه من غير المسموح دخول النساء بمفردهن “كناية عن عدم وجود نساء يبعن أجسادهن للزبائن”، وأيضاً إشارتها مثلاً إلى أن محمد عبدالوهاب كان يرتاد الكازينو أحياناً، وإلى أنها لم تكن قادرة على دعوته ومغنين آخرين من الصف الأول لأنها غير قادرة على دفع أجورهم المرتفعة.

شريفة فاضل.. صانعة الأفراح في زمن الاستبكاء

عمر قدور|الخميس23/12/2021شارك المقال :

  • https://www.facebook.com/plugins/like.php?href=https://www.almodon.com//culture/2021/12/23/%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%81%D8%A7%D8%B6%D9%84-%D8%B5%D8%A7%D9%86%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D9%83%D8%A7%D8%A1&width&layout=button&action=like&show_faces=false&share=false&height=35&appId=913238162025681
  • https://www.facebook.com/plugins/share_button.php?app_id=1724659454475342&channel=https%3A%2F%2Fstaticxx.facebook.com%2Fx%2Fconnect%2Fxd_arbiter%2F%3Fversion%3D46%23cb%3Df370503e4cf6fb8%26domain%3Dwww.almodon.com%26is_canvas%3Dfalse%26origin%3Dhttps%253A%252F%252Fwww.almodon.com%252Ff6a28b26158a6c%26relation%3Dparent.parent&container_width=0&href=https%3A%2F%2Fwww.almodon.com%2F%2Fculture%2F2021%2F12%2F23%2F%25D8%25B4%25D8%25B1%25D9%258A%25D9%2581%25D8%25A9-%25D9%2581%25D8%25A7%25D8%25B6%25D9%2584-%25D8%25B5%25D8%25A7%25D9%2586%25D8%25B9%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A3%25D9%2581%25D8%25B1%25D8%25A7%25D8%25AD-%25D9%2581%25D9%258A-%25D8%25B2%25D9%2585%25D9%2586-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A7%25D8%25B3%25D8%25AA%25D8%25A8%25D9%2583%25D8%25A7%25D8%25A1&layout=button_count&locale=en_US&sdk=joey
  • https://platform.twitter.com/widgets/tweet_button.21f942bb866c2823339b839747a0c50c.en.html#dnt=false&id=twitter-widget-0&lang=en&original_referer=https%3A%2F%2Fwww.almodon.com%2Fculture%2F2021%2F12%2F23%2F%25D8%25B4%25D8%25B1%25D9%258A%25D9%2581%25D8%25A9-%25D9%2581%25D8%25A7%25D8%25B6%25D9%2584-%25D8%25B5%25D8%25A7%25D9%2586%25D8%25B9%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A3%25D9%2581%25D8%25B1%25D8%25A7%25D8%25AD-%25D9%2581%25D9%258A-%25D8%25B2%25D9%2585%25D9%2586-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A7%25D8%25B3%25D8%25AA%25D8%25A8%25D9%2583%25D8%25A7%25D8%25A1&size=m&text=%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%20-%20%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81%D8%A9%20%D9%81%D8%A7%D8%B6%D9%84..%20%D8%B5%D8%A7%D9%86%D8%B9%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AD%20%D9%81%D9%8A%20%D8%B2%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D9%83%D8%A7%D8%A1&time=1640539312837&type=share&url=https%3A%2F%2Fwww.almodon.com%2Fculture%2F2021%2F12%2F23%2F%25D8%25B4%25D8%25B1%25D9%258A%25D9%2581%25D8%25A9-%25D9%2581%25D8%25A7%25D8%25B6%25D9%2584-%25D8%25B5%25D8%25A7%25D9%2586%25D8%25B9%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A3%25D9%2581%25D8%25B1%25D8%25A7%25D8%25AD-%25D9%2581%25D9%258A-%25D8%25B2%25D9%2585%25D9%2586-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A7%25D8%25B3%25D8%25AA%25D8%25A8%25D9%2583%25D8%25A7%25D8%25A1
  • 0

شريفة فاضل.. صانعة الأفراح في زمن الاستبكاءشريفة فاضل في مجلة “الشبكة”سلطانة الطرب تؤدي دور سلطانة الطرب
في أبريل/نيسان1979، عُرض فيلم “سلطانة الطرب” من بطولة شريفة فاضل وفريد شوقي، الفيلم يتناول سيرة المغنية منيرة المهدية. كانت سلطانة الطرب “الثانية” تؤدي في الفيلم دور من حملت اللقب أولاً، كانت “فوقية محمود أحمد ندا” تتقمص شخصية “زكية حسن منصور” الملقّبة بالمهدية نسبة إلى مكان ولادتها.

يصحّ اعتبار فيلم “سلطانة الطرب” برمزيته تتويجاً لمسيرة شريفة فاضل، رغم أنه لم يكن آخر أفلامها، فهي بعد ست سنوات ستختتم مسيرتها التمثيلية بفيلم “تل العقارب”. في تل العقارب، حتى صوتها لم يعد كما كان من قبل، خاصة البحّة التي تغيرت طبيعتها فظهر فيها بعض “الخشونة”، وهذا ما ظهر جلياً في أغاني الفيلم “يا حلاوة الإيد الشغالة” و”سكّر حبيبي يا زماني سكّر” و”لمسة حبيبي”. في الأصل لا يبدو هذا المديح الجاد للكادحين “يا حلاوة الإيد الشغالة” من طبيعة أغانيها، ولعل فيه من الطرافة ما يشبه تقديم المطرب محمد رشدي في تتر فيلمها حارة السقايين بـ”مطرب العمال والفلاحين”!

يُذكر أنها بدأت مسيرتها الفنية، كالعديد من نجمات الغناء في ذلك الزمن، في حقل التمثيل، وحيث كان الغناء جزءاً من العدة السينمائية آنذاك فقد ظهرت مواهب بعضهن الغنائية لتطغى على الأصل. حسبما هو متداول، دخلت شريفة فاضل مجال التمثيل بفيلم الأب 1947، وفي العام التالي مثلت في فيلم “اللعب بالنار”، ثم في عام 1951 مثلت في فيلمين هما “أولادي” و”وداعاً يا غرامي”، ثم التحقت بعدهما بمعهد التمثيل كمستمعة نظراً لصغر سنها.

يستند الحديث عن صغر سنها عندما بدأت التمثيل إلى شيوع تاريخ عام 1938 لميلادها، وهو تاريخ غير صحيح على الأرجح، لأن ابنها “سيد السيد بدير” سيستشهد في حرب أكتوبر1973 وهو ملازم أول طيار. عليه يُفترض أن يكون قد ولد في بدايات الخمسينات، وليس من مصدر يشير إلى أنها تزوجت وأنجبت في سنّ مبكر جداً. المفارقة أن موقع “الهيئة الوطنية للإعلام” يعتمد عام 1929 كتاريخ لميلادها، ثم يشير إلى أنها كانت في الرابعة عشر عندما مثلت في فيلم “وداعاً يا غرامي-1951″، في حين ينبغي أن تكون وفقاً للتاريخين قد بلغت الثانية والعشرين!

إذاً، ربما ساعدت شريفة فاضل مكانة زوج أمها في الدخول إلى معهد التمثيل في الأربعينات، وربما تكون وهي طفلة قد غنت بحضور الملك فاروق الذي كان في ضيافتهم وأعجب بصوتها كما يروي بعض المصادر من دون تحديد الزمن، ربما تكون قد غنت له من أغاني ليلى مراد أو أسمهان الصاعدتين في تلك الحقبة. على كل حال، إذا ساعدها ثراء ووجاهة زوج أمها فلا يُستبعد أيضاً تأثير ذلك الدفع المعنوي الآتي من كونها حفيدة الشيخ القارئ أحمد ندا الملقب بـ”مؤسس دولة التلاوة”. لا نعثر على أية إشارة لصلة بين الشيخ ندا والسلطانة منيرة، بخلاف الإشارات عن كونه مقصداً لمطربين صاعدين أيامها مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم التي نصحها زكريا أحمد بالتعلم منه. وعلاقة الجَد بالطرب قديمة إذ يُذكر ذلك التباري القديم في تأدية المقامات بينه وبين المطرب عبده الحامولي، حين كان الحامولي يؤذن في “الحسين”، بينما ورث الشيخ ندا من أبيه منبر “السيدة زينب”.

من المحتمل جداً أن تكون المهدية قد نشأت على أغاني الحامولي وألمظ، وفيلم سلطانة الطرب يبدأ في قصر لأحد الباشاوات مع مجموعة تغني دور “يا ما أنت واحشني”. للوهلة الأولى سيمر سماع الدور بحكم المعتاد عندما نكون في سياق الطرب، لكن يلزم قليل من التمهل لتذكّر أن الدور لم يكن قديماً دائماً، بل كان أيامها من الألحان الجديدة التي قدّمها محمد عثمان الذي توفي عام1900. لا بأس في التذكير بأن بعض ألحان محمد عثمان سيبقى لغاية اليوم بمثابة ممر للذين يجربون أداء الطرب، ومن ألحانه الأكثر شيوعاً دور “أصل الغرام” وموشح “ملا الكاسات”، من دون أن ننسى لحنه الرائع لدور “كادني الهوى”. ولدور “يا ما أنت واحشني” ميزة في زمنه، إذ يُقال أن محمد عثمان لحّنه على مقام الحجاز كار بعد سفرته إلى إسطنبول حيث لم يكن المقام شائعاً في مصر من قبل، وهو بهذا المعنى جمع الجانب الإحيائي للدور الذي يُسجّل لصاحبه مع الجانب التحديثي.

في النصف الثاني من ثلاثينات القرن، كانت قد بدأت تظهر نتائج الثراء الفني الناجم عن اجتماع موجتي التأسيس والتحديث معاً. كانت قد تأسست إذاعة مصر، وكان استديو مصر قد أُفتتح في 1935 كأول استديو للإنتاج السينمائي كنايةً عن تأسيس هوليوود الشرق، وراحت أجهزة الفونوغراف تنشر تسجيلات للمطربين والملحنين الجدد والمخضرمين مثل سيد درويش ومنيرة المهدية ويوسف المنيلاوي، وصولاً إلى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب. غير بعيد عما سبق، العديد من جمعيات الفن التشكيلي التي أنشئت في تلك الحقبة لن يكون بلا أثر على الطفلة التي تعيش في كنف واحد من أثرياء مصر، ففي زيارة إلى بيتها في العام 2020، لمناسبة عيد ميلادها، ستنشر جريدة “اليوم السابع” لوحات لشريفة فاضل لا يمكن أن ترسمها سوى من تعلّمت الرسم في الصغر، ربما قبل أن يطغى التمثيل والغناء عليها.

الطريف أن شريفة فاضل ستقول، في أكثر من حوار تلفزيوني، أنها كانت تحلم بأن تصبح مثل أم كلثوم. إلا أنها مسيرتها ستُتوج بلقب “سلطانة الطرب” الذي يعيد إلى الأذهان منيرة المهدية، والتي لطالما انشغلت الأوساط الإعلامية بما كان يُعتبر منافسة بينها وبين أم كلثوم انتهت لصالح الأخيرة منهما. بخلاف ما حلمت به يوماً، كان من الصعب عليها اقتفاء أثر الست، فهي من مزاج مغاير تماماً، مزاج يصعب عليه الانضباط. والحال هذه كان من المنطقي أن تفشل الأغنية التي فضّل السنباطي إعطاءها إياها بعدما لحّنها للستّ “خليك بعيد”، ظناً منه أنها تناسب صوتها أكثر مما تناسب أم كلثوم، بل تروي شريفة فاضل أن الجمهور عندما بدأت في أداء تلك الأغنية قابلها بالاستهجان طالباً منها العودة إلى لونها المعتاد. وهكذا، يحدث أحياناً أن يكون الحلم خاطئاً، أو أن يكون الواقع أكثر صواباً منه. غير بعيد عن الصواب أن تنتج شريفة فاضل فيلماً واحداً في حياتها، تحت مسمى شريفون، هو فيلم سلطانة الطرب. 

ابنة الباشا في زمن الأفندية
يصادف أن تبدأ شريفة فاضل مسيرتها الفنية في المرحلة التي ستشهد أهم حدث عام، هو انقلاب “الضباط الأحرار” على الملك فاروق، لتمضي مسيرتها “وهي ابنة الباشا رمزياً” في زمن الأفندية. واستخدامنا تعبير “زمن الأفندية” يحتمل العديد من الدلالات، أكثرها إيجابية هو كسر ما قد يعنيه زمن الباشوات من احتكار.

من الحقبة السابقة عليها، ورثت الناصرية زخماً صاعداً بقوة في مختلف حقول الثقافة والفنون. بطبيعة التطورات المقرونة بتقدم الزمن، كانت السينما تتقدم، والأغنية خلال عقد مضى كانت قد دخلت ما يمكن تسميته بمرحلة التأسيس الثانية، مدفوعة بنشاط الإذاعة وتطور تقنيات الصوتيات. وصولاً إلى الستينات، كان هناك ثراء ووفرة غير مسبوقين على صعيد الأغنية، لكن في مقابل الغنى اللحني راح النمط المهيمن يستقر على نوعين؛ ما بات يُعرف بالطرب الكلثومي، نسبة إلى أغانيها المطوّلة، وأيضاً ما بات يُعرف بالأغنية الكلثومية، نسبة إلى التفجع العاطفي الذي صار موجة كاسحة.

Video Player

لم تنضوِ شريفة فاضل في الموجة العاطفية الغالبة، ولم يكن لديها ذلك الانضباط الذي يؤهّلها للمضي في الخيار الطربي الكلثومي. لقد كانت روحها أقرب إلى الطرب البهيج الذي راح يتوارى تحت ضغط الموجة الجديدة، وبهذا شيء من الأمانة لزمن مضى كانت وعوده أكثر تنوعاً. لم تكن الأغنية العاطفية السائدة ستقبل من ضمنها مثلاً أغنية “عاملي مش واخد باله” لشريفة فاضل، فالسائد أبعد ما يكون عن كلمات من قبيل “عاملي مش واخد باله.. وف إيده سيجارته وفنجاله. وغلُبت أفوت جنبه وأرجع.. ما رفعش عينيه عن جورناله. قال يعني مش واخد باله”.

لم يكن وارداً في اللون العاطفي السائد استخدام نثريات الحياة “سيجارة، قهوة، جريدة”، فضلاً عن ذلك اللعب المرِح بين رجل وامرأة، وأكثر من هذا: إسناد دور الدلال والتمنع للرجل، والدلع المبادِر بوضوح للمرأة. مع ما يناسبها من ألحان بهيجة عموماً، سنرى صوراً مشابهة للمرأة التي تبادر، التي ترفض، التي تضع شروطها، التي تخشى الهجر من دون إغراق في التفجع أو تسول الحزن، في أغنيات أخرى مثل “وحياتك يا شيخ مسعود” و”فلاح”، وبالطبع في الأغنية الأشهر “حارة السقايين”.

سينال اللون الذي تؤديه شريفة فاضل نجاحاً مستحقاً، إلا أن الترسيمة الغالبة ستطردها خارج المنافسة الخاصة بالأغنية العاطفية، لتبقيها في الهامش. سيُطلق عليها لقب “المطربة الشعبية”، وسيعفيها هذا “من الناحية الإيجابية” من ضراوة المعارك بين المغنين العاطفيين للاستحواذ على الشهرة. هي بنفسها ستصرّح بذلك في لقاء تلفزيوني، إذ تقول إن عبدالحليم حافظ كان يفضّل رفقتها لتشاركه الغناء في جولاته الخارجية على مغنيات أو مغنين يؤدون اللون العاطفي ذاته الذي يؤديه، إنها خارج المنافسة.

صانعة الأفراح
لئن كانت شريفة فاضل في عموم أغانيها تزرع البهجة، فهي بالمعنى الحرفي كانت المطربة التي تحيي الأفراح، أي الأعراس. بدأ ذلك إثر النجاح الساحق الذي حققته أغنيتها “مبروك عليك يا معجباني يا غالي.. عروستك الحلوة قمر بيلالي” من ألحان سيد مكاوي، ولهذا السبب غنت شريفة فاضل أغنيات غيرها الشهيرة كأغنيات للأعراس، مثل أغنية “دقوا المزاهر” لفريد الأطرش، وأغنيتيْ “اتمخطري يا حلوة يا زينة” و”مبروك عليكِ عريسك الخفة” اللتين أدتها المطربة سيدة حسن من ألحان الاسم المغمور أحمد الشريف، الملحن الذي أمضى أغلب حياته عازفاً على القانون في فرقة بديعة مصابني.

لعل هذا الجانب من مسيرة شريفة فاضل الفنية هو ما يقرّبها من لقب “المطربة الشعبية”، ولا نجدها تتبناه في حواراتها بقدر ما يأتي على ألسنة محاوريها. فأغاني الأفراح تحقق العديد من شروط الأغنية الشعبية، هي مثلاً تنفصل عن أصحابها، لتبدو كأنها وُجدت بلا تاريخ ولا ملحنين ولا مغنين معروفين. قلائل مثلاً قد يعرفون أن “دقوا المزاهر” من ألحان فريد الأطرش رغم أنه أكثر ألحانه شيوعاً، أو يعرفون شيئاً ما عن أحمد الشريف أو سيدة حسن يوازي معرفتهما بأغنيتيهما التي سبقت الإشارة إليهما.

Video Playerhttps://www.youtube.com/embed/1kM7ZoOGMDs?controls=1&rel=0&disablekb=1&showinfo=0&modestbranding=0&html5=1&iv_load_policy=3&autoplay=0&end=0&loop=0&playsinline=1&start=0&nocookie=false&enablejsapi=1&origin=https%3A%2F%2Fwww.almodon.com&widgetid=1

في هذا النوع من الأغنية الشعبية تتقدم القيمة الاستعمالية “بتعبير اقتصادي” عما عداها، هي قيمة المناسبة “الزفاف”. لكنها لا تخلو مما قد يروق لمزاج شريفة فاضل، فهي أغنية مكتوبة بهدف إشاعة الفرح، وهي متخففة تماماً من بكائيات اللون العاطفي الذي كان سائداً. وهي إلى ذلك أغنية اللقاء المتخفف من دواعي الحرج والعفة المفرطة، في زمن راحت فيه تلك العفة المبالغ فيها تكتسب موقع المتعالي طبقياً ليصبح ما هو أقل منها شعبياً.

منير مراد.. لو لم يكن يهودياً؟
لن تكون شريفة فاضل مثار الحديث ذاته لو انتزعنا من مسيرتها ثلاث أغنيات من تلحين منير مراد؛ حارة السقايين، لما راح الصبر منه، الليل. الأولى والثانية منهما أعيد اكتشافهما من قبل مغنين جدد في العقدين الأخيرين، ونالتا شعبية واسعة، في حين بقي اللعب والتجريب الموجود في أغنية “الليل” بمنأى عن عبث المعاصرين. نصادف مثلاً على يوتيوب تسجيلاً لأغنية “حارة السقايين” من برنامج Arab idol نال أكثر من 100 مليون مشاهدة، بأداء محمد منير ونانسي عجرم، ولعل في هذا الرقم دلالة على نجاح اللحن لدى الأجيال الجديدة، رغم اجتماع محمد منير وعجرم على إفساده بجدارة.

يدخل محمد منير إلى أغنية “حارة السقايين” بما يشبه التفريد بدءاً من الكوبليه الأخير للأغنية “ما فيناش حاوريني يا كيكة.. ما فيناش لفّ ودوران”، وإذ يركّز على بعض المواضع مثل “أنا عايزة حب حنيّن” و”أنا عمري لا أحب الخاين ولا أحب الكدابين” فهو يبدو كأنه يعضّ على اللحن! إنه يدخل من الزاوية العاطفية التقليدية ونظيرتها الأخلاقية، وبناء على هذه القراءة المحدودة الضيقة يستبعد الكوبليه الثاني من أدائه للأغنية. وما فعله منير هو الدليل السيئ إلى الأغنية، والدليل السيئ على التراجع الذي لا يقتصر على الذائقة الموسيقية عن زمن إنتاج اللحن.

كالمعتاد في معظم الأغاني، الكوبليه الأوسط في “حارة السقايين” هو المركز، وكلماته هي التعبير الأهم عن روح الأغنية. نسمع فيه من كلمات حسين السيد “سيبك من البحر اللي أنت غرّقته نار ودموع، والأمل اللي أنا طمّعته وخلّيته يموت من الجوع، والليل اللي مالوش آخر، والقلب أبو شوق موجوع، سيبنا من الهم ده كله؛ نتكلم في الموضوع:…”. نحن إزاء نص مفارق للعاطفي السائد آنذاك، وإحالته إلى “الشعبي” فيها تشاوفٌ مضمر، فضلاً عن التبرؤ من معانيه. أما أداء شريفة فاضل فهو يأتي على قدّ اللحن الرشيق تماماً، بلا مبالغات ولا زوائد، وهذا ما يضفي عليه رونقاً كان سيفقده لو أُغرق في لغو موسيقي.

يُحكى أن منير مراد عرض لحن “الليل” أولاً على محمد عبدالمطلب، فقال له مستنكراً: عايزني أغنّي خواجاتي يا منير؟! ووصف الخواجاتي لطالما أُطلق على منير مراد المتأثر بالبلوز والجاز، والملحِّن على مقامات يمكن عزفها على السلم الموسيقي الغربي، مع عدم استبعاد كونه وريث الطقطوقة؛ اللون المحبّب لوالده زكي مراد “أو مردخاي حسب الاسم الأصلي للعائلة”. في أغنية الليل تحديداً تبرز تلك المفارقة في المزج بين مواويل الليل الطربية والآلات الغربية من أورغ وغيتار كهربائي وأوكورديون وإيقاع الجيرك. في واحد من التسجيلات يعزف عمار الشريعي على الأورغ، وعند البدء باللحن يبتسم ببهجة المقبل على اللعب الذي يحب، ولعل هذه الابتسامة من موسيقار مثله أفضل تزكية للّحن.

وصف “خواجاتي” ليس فيه اختصار فقط لتلاقي الغرب والشرق، فهو يضمر نظرة سلبية تجعل صاحبه خارج المتن الفني “الأصيل”. في سيرة منير مراد الشخصية ما يدعم ذلك، فهو تتلمذ على موسيقي يوناني، وسبق له الدراسة في المدرسة الفرنسية، وقبل ذلك كله يهودي، وإن أشهر إسلامه من أجل زواجه الثاني “بسهير البابلي”، فهو لم يفعل ذلك عندما لم يكن مضطراً في زواجه الأول من إيطالية.

لم يأخذ منير حقه من الشهرة كصاحب لون خاص كانت له بصمة عميقة في مسيرة بعض الفنانين، فشادية لن تبقى تلك التي نعرفها لو ألغينا من مسيرتها أغنيات من ألحانه مثل: ما أقدرش أحب تنين، يا دبلة الخطوبة، سوق على مهلك سوق، على عش الحب، القلب معاك، إن راح منك يا عين. بينما قد لا يتأثر عبدالحليم حافظ إذا انتزعنا من رصيده أغانٍ مثل “بكرا وبعده” و”ضحك ولعب وجد وحب” و”وحياة قلبي وأفراحه”، أو حتى “أول مرة تحب يا قلبي” و”بأمر الحب” و”بحلم بيك”، ففي مسيرة العندليب من نمط الأغاني العاطفية المغايرة ما يطغى علي تلك النفحات “الخواجاتية”. ولا يخلو من دلالة أن منير مراد لم يلحّن القصيدة، وباستثناء مرة واحدة لم يلحّن “الأغاني الوطنية” التي تكاثرت في عهد الناصرية وبإشراف أو طلب من أعلى مستويات السلطة.

فضلاً عن ألحانه المعروفة لشادية، ثمة لقاء آخر مثمر بين صانعَيْ بهجة وفرح؛ شريفة فاضل ومنير مراد. كلاهما لم ينتميا إلى المَتن الذي ساد في تلك الحقبة، هو القادم من المزج بين الغرب والشرق، وهي المخلصة لزمن أقدم في الطرب، وأقل صرامة مما استقر عليه في الستينات. قد يجوز تشبيه الاثنين بالهاربين من المدرسة، والمخلصَيْن لفكرة الهروب، حتى إذا لم يكن لها قيمة فنية عالية على طول الخط.

سيلاحق الإهمال منير مراد في وفاته التي صادفت بعد 12 يوماً من اغتيال أنور السادات، فيقتصر تشييعه على اثنين من أفراد العائلة، وعلى خبر مختصر تنشره جريدة كبرى بعد يومين من وفاته، فلا يُحتفى به كما يليق لمناسبة رحيله، وتُرمى المسؤولية على حالة الطوارئ التي كانت سائدة في البلاد. لم يكن إهمال منير مراد من نوع إهمال ثناء ندا لمناسبة وفاتها، حيث لا نعثر سوى على خبر موجز في صفحة الوفيات في جريدة الأهرام، والتي لا يظهر فيها إلكترونياً تاريخ العدد: البقاء لله توفيت الى رحمة الله تعالي أمس الاول الحاجة ثناء أحمد ندا شقيقة الفنانة شريفة فاضل وأقيمت ليلة العزاء أمس. فمكانة ثناء ورصيدها لا يُقارنان بمكانة ورصيد منير مراد الحافلَيْن، ثناء كان لها تجربة في الغناء قصيرة ومتواضعة، وإن لحّن لها ملحنون معروفون من أمثال بليغ حمدي. ثمة شذرة نادرة عن حياتها توردها إيمان مرسال وهي تنقل تجربة عازف الكمان إميل باسيلي الذي رافق ثناء في 22 ديسمبر 1969 إلى باريس بموجب عقد، لتغني في ملهى الجزائر في سان ميشيل، الملهى الذي غنت فيه أيضاً أم كلثوم وغنى فيه فريد الأطرش.

من متمردة الليل إلى أمّ البطل
لن يكون مستغرباً لمتابعي الأحوال القول أن شريفة فاضل لاقت من الاستهجان، المضمر والمعلن، بسبب افتتاحها كازينو “الليل” ما لم تلاقِه منيرة المهدية التي كان لها كازينو “نزهة النفوس”، رغم أن مرور الزمن ينبغي أن يكون نظرياً لصالح التجربة اللاحقة. في صدى لذلك الاستهجان، ستُضطر في العديد من الحوارات إلى توضيح مصدر الأموال التي اشترت بها الأرض وبنَت الكازينو في شارع الهرم، وتوضيح أنه من غير المسموح دخول النساء بمفردهن “كناية عن عدم وجود نساء يبعن أجسادهن للزبائن”، وأيضاً إشارتها مثلاً إلى أن محمد عبدالوهاب كان يرتاد الكازينو أحياناً، وإلى أنها لم تكن قادرة على دعوته ومغنين آخرين من الصف الأول لأنها غير قادرة على دفع أجورهم المرتفعة.

Video Player

عندما كانت تُسأل عن طلاقها من المخرج سيد بدير، تجيب شريفة فاضل باعتزاز بأنها هي التي طلبت الطلاق على خلفية منعه إياها من العمل في الفن. وكان في وسعها الحديث عن الانفصال وحيثياتها بنبرة المستضعفة، إلا أن التوسل العاطفي “الصارخ أو الهادئ” ليس من طبعها، ولا من طبع أغانيها. لقد فضّلت الإخلاص لموهبتها على زواج لم يخلص فيه الشريك أولاً لمهنته كمخرج، وهذا أيضاً لم يكن مما يُحسب لها في مجتمع تقليدي، أو بالأحرى في مجتمع يزداد تقليدية مع غلبة قيَم الريف التي راحت تسيطر على الفضاء العام.

من هذا الجانب تبدو شريفة فاضل كأنها تنتمي إلى متمردات اخترن طريق الفن بخلاف إرادة أوساطهن الاجتماعية، مثل منيرة المهدية في الغناء وشفيقة القبطية في الرقص، وهذه المرة يتجلى المجتمع بسلطة الزوج، لأن دخولها مبكراً في عالم الفن يشي بموافقة أمها وزوج أمها، مع غياب تام للأب الذي لا يُذكر في سيرتها إطلاقاً. هو وجه آخر لابتعادها عن حلمها القديم أن تكون أم كلثوم أخرى، فسيرة أم كلثوم الشخصية أبعد ما تكون عن التمرد، وهي دخلت عالم الفن بموافقة ومواكبة من عائلتها، وأخلصت للقيم المحافظة بما لا يقل عن إخلاصها العظيم لفنها.

في أغانيها الأشهر، قدّمت شريفة فاضل نموذجاً للمرأة مشابهاً لها، نموذج المرأة الناضجة المبادِرة الجريئة. بينما في المقلب الآخر من الأغنية العاطفية السائدة، كانت أغنية “إن راح منك يا عين ح يروح من قلبي فين؟” تبدو كأنها تعبير عن قوة المرأة، بل يكاد أن يتبناها بذلك المعنى جيل من “المتحررات”، في زمن لم يكن فيه تعبير النسوية قد أخذ طريقه إلى العربية.

لعل الذين أتتهم الفرصة لتلقيبها بـ”أم البطل” كانوا يستبطنون خطر تفلتها من النموذج المطلوب، فها هي مع استشهاد ابنها تعود إلى كونها أماً، وللأمومة رمزية اجتماعية لا خلاف عليها، وهي باتت أماً لشهيد، وأيضاً للشهادة قيمة اجتماعية لا خلاف عليها. يُحكى أن الجمهور كان يطالبها بغناء “أم البطل”، فتؤجّلها حتى نهاية الحفل، لأنها لن تكون قادرة على الغناء بعدها، وفي إحدى المرات انفجر شريان في يدها من فرط انفعالها بالأغنية. يصعب فهم الجمهور في كثير من الأحيان، ويصعب فهم تلذذه بتعذيبها وهي تؤدي أمامه دور الأم الثكلى!

بالقياس على القالب المعهود للأغنية، تبدو أغنية “أم البطل” وإطلاق هذا اللقب على شريفة فاضل بمثابة الكوبليه الأخير من مسيرتها، كأنها صارت تُعرّف بابنها واستشهاده، وبأغنية من أغانيها، لا بمجمل ما كانت عليه. نقترح لهذا الكوبليه اسم “كوبليه المصالحة”، ففي الكثير من الأغاني الخارجة عن السائد يأتي الكوبليه الأخير ليتصالح معه على نحو ما، وهو بتعبير آخر يتصالح مع نسبة ضخمة من الجمهور لن تقبل بالتمرد حتى النهاية، وستطرب للتسوية أو المصالحة التي ستأتي في الخاتمة. 

*المدن