كما هو معروف للقاصي والداني، فاز بشار في “الانتخابات الرئاسية”. مهلاً، لنوضّح الجملة السابقة، فاز بشار على نفسه. أيضاً لمزيد من التوضيح، ليس المقصود بفوزه على نفسه الإشارة إلى المرشحيَن الشكلييَن اللذين تم اختيارهما للعب هذا الدور. فاز بشار على نفسه بأن قدّم عرضاً انتخابياً يفوق عروضه السابقة ابتذالاً، ويفوقها تالياً لجهة إذلال من يُفترض أنهم ناخبوه.
كل شيء محسوب بمعيار سلطة تتصرف على مبدأ النكاية، وحتى النتيجة المعلنة للمهزلة ينبغي أن تكون صفيقة. الصفاقة لا تأتي بحصوله على 95.01% من أصوات “المقترعين”، فأغلب الظن أنه نال كافة أصوات المشاركين بما فيها “منافسيه”. الصفاقة هي في الإعلان عن نيله 13540860 صوتاً من المقترعين بمعدل تصويت هو 78.4%، أي أن عدد من يحق لهم الاقتراع هو 18178618. هذا العدد الأخير يفوق، حسب كافة التقديرات، عدد السوريين جميعاً الموجودين تحت سلطة بشار بمن فيهم الأطفال، وهو لا يصحّ “إن كان له نصيب من الصواب” إلا إذا تمّ احتساب كافة السوريين المسجّلين في قيوده بمن فيهم كافة اللاجئين.
نعم، وفق الأرقام السابقة، يستطيع أي لاجئ سوري في أي بلد كان تخيُّل أن يكون قد تم اختيار اسمه من بين المقترعين، ووضعت باسمه ورقة ينتخب بها مَن تسبب بتشريده أو قتل أو اعتقال أفراد من عائلته. لا يكفي القول أن الأرقام المعلنة مزيفة، هي مزيفة على نحو يُراد به الاعتداء حتى على السوريين الذين صاروا بعيدين عن متناول سلطته. بالطبع، من الطينة نفسها ذهابُ بشار للاقتراع في دوما “في الغوطة الشرقية التي قصفها بالكيماوي”، وهو لا يدع مجالاً للشك في أن الآلة تعمل بانسجام مطلق من رأسها وصولاً إلى أصغر شبيح أو مخبِر.
بعض الكيد والنكاية، لا كلّهما، موجه إلى مَن ثاروا عليه. لقد نكّل من قبل طغاة كثر بالثائرين عليهم، وابتدع بعضهم أساليب ليستلهمها طغاة لاحقون. الاستثناء الأسدي هو في التنكيل بالموالين أيضاً، لا لأن آلة القمع لا تميز بين مُوال ومعارض، بل لأن أربابها لا يثقون بالموالي إلا كل لحظة بلحظتها، وينبغي قمعه وإذلاله استباقاً كي لا تسوّل له نفسه يوماً ما رفع رأسه. لا تكتفي الآلة بالتنكيل بالثائرين كي “يتعظ” الموالي وهو يشاهد صامتاً العقاب الواقع على سواه، ينبغي له أن يذوق العقاب والمهانة حتى وهو يدافع عن الجلاد لئلا يظن لوهلة أنه في منأى عن الوحشية التي يراها.
ذاق السوريون ذلك من قبل، فعندما انتصر الأسد الأب على الإخوان المسلمين عاقب السوريين جميعاً بتغول المخابرات على كافة شؤونهم، وبالفاقة الاقتصادية الناجمة عن تعطيل متعمد للاقتصاد مع الحديث التقليدي عن الصمود في وجه مؤامرة كونية، رغم أن نظامه لم يخضع حينها لأي حصار من أي نوع. مثلاً، صار الحصول على الكهرباء مكرمة، لكنه قادر على توفيرها أثناء مهازله الانتخابية، تماماً كما فعل الابن في المهزلة الأخيرة، وتماماً كما ستعود الكهرباء إلى الانقطاع المديد ليتأكد السوري من أن السلطة قادرة على توفيرها وقطعها متى شاءت، وهي تريد قطعها عنه لأنها تشاء لا لسبب آخر. أيام الأسد الأب، انصرف لوم المقموعين إلى الإخوان الذين تسببوا بذاك العقاب الجماعي، بل شارك في اللوم يساريون اعتُقلوا واعتبروا أن الإخوان قدّموا له الذريعة ليجْهز الأسد على الجميع.
هكذا لم يكن مطلوباً في السيرك الانتخابي الأخير فقط ذهاب الواقعين تحت سيطرته إلى انتخابه، لم يكن مطلوباً ذلك باعتدال، أو بتقشف تقتضيه الظروف الاقتصادية والمعيشية. كان المطلوب كل المبالغات التي رأيناها والتي تُظهر السوريين على شكل سعادين، أو مهرجين في أحسن الأحوال. ينبغي أن يظهروا سعداء جداً بإذلالهم، وأن يبالغوا في إظهار سعادتهم بالإذلال ككفّارة عمّا ارتكبه سوريون آخرون، وكتأكيد على أنهم لن يكونوا إطلاقاً مثلهم.
كانت هناك أسباب عديدة ليؤجل بشار انتخاباته، ولو فعل لنال ثناء قوى دولية تتحين أية إشارة منه لتأويلها على نحو إيجابي. لقد خاطب الغرب، الذي اتفق على عدم شرعية الانتخابات، قائلاً “قيمة آرائكم هي صفر”. أي أنه لم يجرِ الانتخابات ليدّعي الديموقراطية أمام العالم، هذا السيرك غير موجه ليراه “المجتمع الدولي”، لقد نُصبت خيمته فقط من أجل إذلال السوريين في الداخل، وليظهروا على النحو الذي شهدناه. بلا شفقة أو رحمة، دُفع المشاركون في السيرك ليكونوا مادة للسخرية، وليسخروا من أنفسهم. كل ما تبقى، من حديث عن انتخابات ومرشحين وصناديق اقتراع…، هو مجرد ديكور في بلد الإذلال السعيد.
لسان حال الماكينة الأسدية الموجه إلى محكوميها: نستطيع التفنن بإذلالكم وجعلكم تدبكون فرحاً به. إمعاناً في إهانتكم، نأتي بما كنا نسميه استفتاء فنسميه انتخابات، ونجريها بما يجعلكم تترحمون على أيام الاستفتاء. لقد فعلت هذه الماكينة مهازل مشابهة من قبل، عندما “في بداية الثورة” نفت الزج بالجيش في المناطق الثائرة، فصبغت الدبابات باللون الأزرق وكتبت عليها “قوات حفظ النظام”. الكذب هو أيضاً وظيفة لا للتملص من حرج ما بل لإهانة العقول، وهي الإهانة التي تبقى وتحفر في متلقيها ليحتقر نفسه.
في مثال آخر مشابه، كُذب قبل سنوات على فريق المراقبين العرب، عندما اصطُحبوا إلى مناطق موهومة وضع فيها لوحات طرقية تشير إلى أنها دوما أو حرستا أو زملكا، بينما هي في الواقع مناطق في الاتجاه المعاكس. هذا الصنف من الكذب المكشوف لا يأتي اعتباطاً، جزء أساسي من ماكينة الإذلال أن يكون مكشوفاً على نحو فاقع. ثمة نكتة سوداء من أيام الأب لعلها تشرح ذلك، وفيها أن المخابرات السورية تنافست مع مخابرات أجنبية لإحضار غزال من الغابة؛ ذهب عناصر الأجنبية لدقائق ثم عادوا بالغزال، أما عناصر المخابرات السورية فدخلوا واستغرقوا وقتاً طويلاً وهم يعذّبون حماراً ليقول أنه غزال. في عهد الابن تطور الأداء وبات أبسط من قبل، فصار كافياً الإتيان بحمار ووضع لوحة عليه تنص على كونه غزالاً.
*المدن