يوم الخميس الفائت عبّر وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان عن قلقه من أن يكون الأسوأ قادماً في أوكرانيا، ومن أن تلجأ القوات الروسية إلى تكتيك حصار المدن، واستطرد موضِّحاً في تصريحه لقناة فرانس2 بالقول: تذكروا حلب.. غروزني. هذا واحد من أقوال تُشجع على المقارنة الرائجة بين أوكرانيا وسوريا، وتُشجع من يتربص بالغرب على الاستدلال بأن مسؤوليه يعرفون جيداً جرائم الحرب المرتكبة في غروزني وحلب، لكنهم الآن قلقون حصراً لأن المتضرر شعب أوروبي آخر؛ لأن الضحية الآن شقراء بعيون زرق.
من جهة مقابلة، وقد زالت المخاوف من تهدئة روسية-غربية تسبق غزو أوكرانيا يقبض بوتين ثمنها في سوريا، لن يكون مستغرباً أن ينعقد بعض الآمال على تفاقم المواجهة الغربية-الروسية، وأن تنال الساحة السورية حصة منها. الحجة في هذا الرأي أن الغرب أدرك عواقب تساهله مع بوتين في سوريا، وسيسترد منه الهدية التي سبق أن منحه إياها، والساحة السورية مهيأة لإيقاع الخسائر به، الأمر يتوقف فقط على قرار أمريكي بفتح صنبور الأسلحة النوعية على غرار ما فُتحت في اتجاه أوكرانيا، أو حتى أقل من ذلك.
لنقل أنه حلم ليلة صيف. ثم لا بأس في المضي معه حتى النهاية، فليس من المحتم أن تكون المقارنة بين سوريا وأوكرانيا نوعاً من الثرثرة ومضيعة للوقت، بل يمكن أن تكون كاشفة أيضاً. تبرز وجاهة هذا الاستخدام من الاستخدام الآخر الذي يريدها كاشفة لنفاق الغرب وعنصريته، وقد رأينا كيف انتعش مع تصريحات ليست بالجديدة من اليمين المتطرف الغربي تفرّق بين اللاجئين بحسب لون البشرة والعيون، لتُبنى عليها مغالطات كأننا لم نكن شهوداً على الأمس القريب الذي فيه ما يكذّب هذا التظلم وفيه ما يدعمه.
إذاً، لنقل: وصلت مئات أو آلاف صواريخ ستينغر المضادة للطائرات، ووصل عدد أضخم من مضادات الدروع إلى “فصائل المعارضة”، وأعطى الغرب إيعاز الهجوم: إلى الأمام! أول العثرات التي سيصادفها هذا السيناريو الوردي وجود فصائل غير راضية عن حصتها من السلاح النوعي الجديد، ما قد يشجّعها على استخدام حصتها منه بالهجوم على مستودعات فصائل نالت كمية أكبر كي تصحح أخطاء الغرب في توزيع الأسلحة. أما الفصائل المصنّفة إرهابية ومحرومة من الإمدادات فستسارع إلى مهاجمة نظيراتها اللواتي حصلن على الإمداد قبل التدرب جيداً عليه. لا يُستبعد من بين قيادات الثانية وجود من هو متلهف للحصول على الثروة، ومستعد لبيع الأسلحة التي هبطت عليه كأنها هدية من السماء.
في الزحف في اتجاه دمشق ستنشب حروب بينية أخرى، فهناك السباق المحموم من أجل الوصول أولاً والحصول على حصة أكبر من كعكة السلطة، وهذا يستدعي ضرب فصائل منافسة لإعاقتها عن التقدم، ولا بأس في استخدام السلاح النوعي الجديد. على الطريق نفسه، هناك مكاسب أخرى قبل الوصول إلى الجائزة الكبرى؛ ثمة مناطق استراتيجية عسكرياً، وثمة مناطق للثروات الطبيعية، وأيضاً السدود.. محطات الكهرباء.. محطات المياه، وكلها أهداف للتقاتل بين فصائل صار لديها فائض من السلاح، ولها مطامع تتعلق بما بعد إسقاط الأسد.
لا يفيد مع التصور السابق تخيّلُ وجود قيادة موحدة، فأمراء الحرب لن يتوحدوا، وإذا فُرض عليهم خارجياً التوحيد لا يُستبعد حدوث انشقاقات تُستخدم فيه الأسلحة النوعية مع أول اختبار لوحدتهم. قد يكون الحل في أن يأتمروا جميعاً بقيادة خارجية عليا، على النحو المعمول به الآن تحت إمرة أنقرة، لكنه حل يمنح أنقرة قدرة غير محدودة على تقرير ما سيكون عليه الحال بعد إسقاط الأسد، الأمر الذي لن يكون مقبولاً دولياً ومن نسبة لا يُستهان بها من السوريين، حتى إذا استثنينا الأكراد، وإذا استثنينا فرضية استخدام الفصائل التابعة لأنقرة الأسلحةَ النوعية ضدهم أولاً بما أنهم في صدارة هواجس أنقرة الأمنية.
لقد رأينا خلال سنوات إصراراً أمريكياً على عدم تكرار السيناريو العراقي، وتحديداً على عدم التدخل الأمريكي المباشر ورعاية فصائل تُقدِم على إسقاط الأسد. وقد سبق لإدارة بوش بالتنسيق مع لندن أن جمعت شراذم المعارضة العراقية، ثم رأت اقتتال المعارضين للاستحواذ على تركة صدام من السلطة والثروة. المثال الأفغاني الطازج، وإعلان إدارة بايدن تخلي واشنطن عن نشر الديموقراطية يضع الموقف من القضية السورية ضمن سياق، أي أنها ليست استثناء كما يحلو للبعض تصوير المظلومية السورية.
وكي لا يبدو السيناريو وليد السنوات الأخيرة، رأى السوريون تقاتل فصائل في الغوطة “على مشارف دمشق” قبل وبعد إحكام قوات الأسد محاصرتها، وهناك فصائل كبرى غنمت مستودعات ضخمة من السلاح الذي استُخدم ضد فصائل أخرى أكثر مما استُخدم ضد قوات الأسد. رأينا فصائل مهيمنة تستهتر بالمطلب الأساسي للثورة وهو الديموقراطية، وكان الغرب “الخبيث” ذاته متساهلاً معها بتصنيفها على الفصائل المعتدلة.
في تلك السنوات الأولى على اندلاع الثورة، قدّم الغرب دعماً سخياً لجمعيات وأفراد سوريين، ورأى مثلما رأى السوريون مصير مساعداته. هنا يحضر الاستثناء السوري، فيُلام الغرب والخليج على مصير المساعدات المقدَّمة، ويروج الكلام عن مقاصد خبيثة وراءها، من قبيل أن غايتها إفساد المعارضة والثورة أو شراء الذمم، أو أنها أصلاً ذهبت إلى جيوب مرتزقة. وهكذا يُشيطن الخارج بدل محاسبة المعارضين الذين أساؤوا استخدام الدعم، وبدل إقصائهم لئلا يكونوا وسيلة الخارج المزعومة في النيل من الثورة. إنها عبقرية المطالبة بالدعم الخارجي ثم اعتباره من أسباب الهزيمة، عبقرية اتهام الخارج بتصنيع معارضة على قياس توجهاته وعدم فعل أي شيء لإسقاطها.
إذا كانت نسبة غالبة من معارضي الأسد غير راضية إطلاقاً عن هياكل المعارضة السياسية، وغير راضية عن الفصائل التي صارت تُعرف بانتهاكاتها أكثر مما تُعرف بأدائها ما يُفترض أنها أنشئت لأجله، فمن السذاجة “على الأقل” انتظار أن يرى الغرب الهياكل ذاتها بعين الرضا. هذا وجه من وجوه النفاق السوري لا الغربي، يريد أصحابه من العالم دعمَ ما لا ينال قبول أصحاب الشأن أولاً، ويريد من الغرب التحرك بفعالية بينما أصحاب القضية متفرغون لعقد المقارنات التي تعزز شعورهم بالنقمة عليه.
إذ تحضر المقارنة بين سوريا وأوكرانيا، جائزة كانت أم قسرية، فإن ما يستكمل الأصوات العنصرية في الغرب هم هؤلاء الذين يستغلونها ويتناسون تماماً أن الغرب لم يكن على قدر تطلعاتهم، لكنه اليوم أيضاً ليس على قدر تطلعات الأوكرانيين في مواجهة الاحتلال الروسي. ربما لحسن الحظ أن أولئك العنصريين لا يعرفون ما نعرفه عن واقع أحوالنا، أي كل تلك الأخطاء والخطايا التي ينبغي الاعتراف بها، وتقديم بديل عنها يقنع السوريين بدل التلطي وراء مظلومية البشرة السمراء.
*المدن