في زمن ليس بالبعيد، جمعَ شهر رمضان السوريين على مسلسل “أخوة التراب”، أشهر المسلسلات السورية تناولاً لحقبة السفربرلك من منطلق إبراز المقاومة الموجهة ضد العثمانيين، مع تنميط العدو العثماني الذي يبدو متسلطاً بلا حنكة، أو بلا حتى القليل من الذكاء، وركيكاً جداً بحيث يصعب فهم كيف تمكن يوماً هذا المزيج “الجيني” من الركاكة والسفاهة والانحطاط من إنشاء إمبراطورية كبرى. بعد عقد ونصف انقسم السوريون، وانقسم ممثلو المسلسل أيضاً بين موالٍ ومعارض، ثم تتالت الأحداث المعروفة للجميع وصولاً إلى وحدة أحوال السوريين مرة أخرى، من دون أمل بأن تقرّب بينهم.
ابتدأ السفربرلك العثماني بالفرمان الذي أصدره السلطان محمد رشاد في اليوم السابع على إعلان الحرب العالمية الأولى، وانتهى مفعوله مع هزيمة العثمانيين بعد أربع سنوات. الفرمان نصّ على التجنيد الإلزامي للذكور بين سن الخامسة عشر والخامسة والأربعين من كافة أرجاء السلطنة، ونصّ على حشد الاقتصاد دعماً للمجهود الحربي، وعنى ذلك التسلطَ على المحاصيل الزراعية، والوصول إلى المجاعة بحيث أن تعبير “سفربرلك” اقترن في بلاد الشام والعراق بالمجاعة والفاقة أكثر من إحالته إلى المعنى الحرفي “النفير العام”. في منتصف السنوات الأربع أعدم والي بلاد الشام جمال باشا قرابة عشرين سورياً ولبنانياً مناهضين للسلطنة، ليصبح يوم إعدامهم عيداً للشهداء، وليستحق هو بجدارة لقب “السفّاح”.
للمغنية فيروز أيضاً فيلم بالاسم ذاته “سفربرلك”، وفيه أغنيات تقتفي أثر ذلك الماضي مثل “امشي على ما يقدّر الله”، وهي تذكّر مثلاً بـ”ع الأوف مشعل.. أوف مشعلاني”، وهي من صنف “الشلعيات” الشعبي الذي يُردّ إلى محنة سفربرلك، لأنها أغانٍ تشلع “تقتلع” القلب من الحزن. توالي النكبات والهزائم لم يُزِحْ سفربرلك من مكانه في المخيال العام، فمن عاصروه كانوا يقولون أن قساوة المحن اللاحقة لا تقارن بما لاقوه، وكان على الأجيال اللاحقة أن تهز رأسها تصديقاً.
لا يذكر لنا التاريخ حاكماً طبّق النفير العام لمواجهة داخلية كما فعل بشار الأسد منذ انطلاق المظاهرات ضده، فمن دون إعلان بدأ بسوق كل الذين في سن الخدمية الإلزامية لمواجهة الثورة، ثم راحت إعلانات النفير العام تتوالى ليتجاوز المطلوبون بموجبها سن الخامسة والأربعين العائدة للسفربرلك العثماني. المقتلة التي راح يزج فيها البشر كانت تتطلب أيضاً المزيد ثم المزيد من التكاليف، فأتت الإعلانات “ثم توالت بلا توقف” عن أولوية دعم المجهود الحربي.
ليس مهمة في هذا السياق الأخبار الواردة قبل ثلاثة أيام عن تدريبات مكثفة للفرقة 25 مهام خاصة، المعروفة بقوات النمر بقيادة سهيل الحسن، لتكون جاهزة في حال طلبتها موسكو للقتال في أوكرانيا. المرتزقة الذاهبون إلى هناك لن يجعلوا من الأسد شريكاً في حرب عالمية على مثال السلطان محمد رشاد، هو بالمقارنة يكتفي من الشبه بالهزيمة وبأحوال السوريين التي تدهورت إلى الفقر المعمم، وصولاً إلى المجاعة المتصلة أساساً بتدمير اقتصاد البلد والسطو عليه كلياً.
على سبيل المثال، اليوم لا يقل سعر كيلو الرز من النوعية المتواضعة عن 4000 ليرة سورية، وسعر كيلو الزيت من السوية ذاتها عن 15000 ليرة، وتراجعت سلطة الأسد حتى إشعار آخر عن فكرة إنقاص كمية الخبر التي تستحقها معدة السوري. سيكون من التكرار، للتدليل على المجاعة، القول أن ما يلزم الأسرة السورية الصغيرة يصل إلى مليون ليرة شهرياً في الحد الأدنى، بينما تحصل على دخل قد لا يزيد عن ربع المطلوب. أي أن هذه الأسرة تحصل على ربع الغذاء اللازم والضروري، من دون احتساب الحاجيات الأخرى من طبابة ودواء قبل احتساب الكماليات كالملابس والتدفئة.
نحن فقط الذين نخجل من الإسهاب في شرح البؤس الذي وصل إليه السوري، وهذا ليس حال إعلام الأسد الذي لم يعد يخجل من استعراض بعض مظاهره، ولا تخجل محطاته التلفزيونية من إجراء ريبورتاجات يظهر فيها السوري البائس الذي يرمي مضطراً بالمسؤولية على المجهول، أو على “المؤامرة الكونية”، طالباً العون من الله على سبيل اليأس من مجيء حلول الأرض لا على سبيل التدين. وكان الإعلام نفسه قد حشد في السنوات الماضية إعلامه والدراما التلفزيونية التابعة له من أجل التطبيع مع جرائم الإبادة، والتحريض على الذين ثاروا على الأسد، ولعل الأهم الذي في خلفية ذلك كله التطبيع مع الثمن الذي ينبغي دفعه للدفاع عن الأسد، وإظهار الفقر والبؤس وما يتصل بهما اجتماعياً كفضائل من ضرورات الحرب.
الذين كتبوا وأخرجوا أو مثّلوا تلك المسلسلات والأفلام عن سفربرلك لم يُظهروا حساسية مشابهة إزاء سفربرلك الأسد، رغم أرجحية الأخير من حيث مآسيه، والغالبية منهم في جهة القلة المستفيدة، أو غير المتضررة إلى حد الفقر. هم ذاتهم قد يستذكرون الخازوق العثماني وكأنه استُخدم في الأمس، وينكرون التعذيب والاغتصاب الممنهجين في سجون سلطانهم. وإذا أتى العجز القديم المعلن إزاء جبروت العثماني بغناء من نوع “ع الأوف مشعل…” فإن ما جاء به سفربرلك الأسد هو “اجرح لي قلبي ولا تداوي ورش عليّ كيماوي”، والثانية منهما كما هو واضح تتغنى باستخدام الكيماوي فلا يمسها ذلك الحزن الشجي النبيل الموجود في الأولى.
كان الشبيحة، في مواجهة الثورة، قد تناقلوا عن الأسد استعداده لإعادة سوريا إلى عام 1970، أي إلى ما قبل الانقلاب الذي قام به الأب لاستلام السلطة. ذاك الوعيد صار من “الزمن الجميل”، وتبين أن الانحدار إلى عام 1914 أقرب متناوَلاً من العودة إلى عام 1970. لا مسلسلات في رمضان عن سفربرلك الأسد، بل إن رمضان الحالي حلقة بائسة أخرى من سفربرلك طويل لا ينتهي تبدو معه المسلسلات القديمة عن العثماني مثل سمير خفيف الظل. أفظع ما يختصر الفارق أن الأجداد القدامى إذ كانوا يتذكرون معاناتهم، أو يبالغون فيها، فقد كانوا في الموقع المعهود للأجداد، أما أجداد اليوم فالمطلوب منهم التكتم أمام الأحفاد كي يظنوا أن الحياة هي هكذا دائماً؛ على هذا المستوى من البؤس.
*المدن