قبل أسبوع نشرت وسائل إعلام مصرية، ولحقتها وسائل التواصل الاجتماعي، قصةَ الشابة إيمان التي بيّن الطب الشرعي أنها عذراء بعدما طلّقها عريسها بذريعة عدم عذريتها. موقع cairo live “مثلاً” أشار إلى حالة من الفرحة والسعادة الغامرة في قرية الفتاة بعد تقرير الطب الشرعي، وكان موقع “العاصمة” قد أورد في العشرين من شهر نوفمبر الماضي خبر العشرات في إحدى القرى احتفالاً بإثبات عذرية فتاة من القرية، مع أصوات الزغاريد ووسط زغاريد النساء راح الـDJ يردد عبارة “الشريفة العفيفة وصلت يا بلد”! أما الفتاة فرقصت على كتفي والدها، وهي تلوّح بقطعة قماش بيضاء دلالة على عذريتها.
يُحسب للموقع الأخير أنه ابتدأ الحديث عن احتفال “عذراء نوفمبر” بوصفه “ظاهرة هي الأغرب”، أما محررو موقع “المصري اليوم”، تاريخ 24 نيسان/أبريل، فكان اهتمامهم منصرفاً إلى اجتذاب أكبر شريحة من المتابعين، وأتى الشرح المرافق للفيديو الخاص بعذراء أبريل هكذا: على طريقة “الفار”.. إعادة حفل زفاف لعروس طلّقها زوجها تاني يوم الفرح بدعوى عدم عذريتها: “الطب الشرعي انتصر لها”.
يجب مشاهدة الفيديو ليفهم قارئ العبارة المرفقة به على أن المقصود بها ليس إعادة حفل الزفاف للعريس الذي طلّقها، وإنما خروجها مع أسرتها وأبناء البلدة في زفة إثبات العذرية. الأفظع من عدم فهم ما هو يُقصد بإعادة الزفاف، وفق العبارة، هي الإشارة إلى تقنية الاستعادة بالفيديو “الفار” التي استُخدمت مؤخراً في مباريات كرة القدم، وكأن مأساة الشابة مجرد لعبة، بينما المتفرجون على المدرجات وأمام الشاشات يترقّبون قرار الحكَم “الخاص بكشف العذرية” كي يصفقوا للقرار السليم.
يبدأ التسجيل بزغاريد الأم، ثم تسرد الشابة قصتها، من شكوك العريس مروراً بطبيب “يبدو أنه مقرّب من أهل العريس” أجرى كشفاً مستعجلاً بحضور والدتها وحماتها، ثم طلب الاختلاء بها ليسألها عن خطوبة سابقة، ويدّعي أنها فاقدة عذريتها منذ أكثر من سنة و”مُعتدى عليها” العديد من المرات. لتأتي لاحقاً رحلة الطب الشرعي، بكشوفات أكثر مهنية فتنصفها بشهادة مكتوبة وموثّقة تفيد أيضاً “حسب المذيع الذي لا نرى وجهه” أن الضحية “فتاة بكر، لم يتم التعدّي عليها نهائياً”، وعلى ذلك يهنئها بالقول: مبروك إنك رفعتي راسك.
تحكي الشابة القصة بلا حرج ظاهر، ولا تبدو أنها تغالب الحرج. هي ضحية ممتثلة تماماً، وإلى حدّ لا ترى فيه أنها ضحية سوى بسبب شكوك الزوج ثم بعض محيطها الاجتماعي، وبعد ذلك بسب سوء تعامل الطبيب الأول، عندما قرر على استعجال و”ربما بابتزاز” أنها غير عذراء، لا لأنه أجرى الكشف المهين بحضور والدتها وحماتها “قبل الطلاق”.
استياء الشابة سببه عيوب في أداء المنظومة، لا المنظومة التي انتهكت جسدها؛ بدءاً من العريس الذي تعامل كمشترٍ وجَدَ البضاعة غير مطابقة للمواصفات وقرر إعادتها، مروراً بالطبيب والمذيع اللذين استخدما تعبير التعدّي عليها كسبب لفقدان العذرية، بما أنها كبضاعة ليست أصلاً في المقام الذي يمنحها شرف الإحساس بالرغبة والقبول الطوعي بممارسة الجنس. ليأتي الإعلام بمجمله أخيراً فيكرّس المنظومة، ويعرض الحدث على طريقة تلفزيون الواقع، بل هناك “في خلفية قسم منه على الأقل” نظرة إلى المرأة لا تختلف عن نظرة العريس إذ تستخدمها كبضاعة لجذب انتباه القرّاء والمشاهدين. وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، يأتي المتلقّي ليؤدّي قسطه في الانسياق وراء المنظومة، وهكذا ينال التسجيل الذي تتحدث فيه الفتاة أكثر من أربعين ألف لايك وأكثر من ستة آلاف قلب وحوالى ألفي ضحكة، مع عدد متدّنٍ من تفاعلات الحزن والغضب بصرف النظر عن دوافعها.
ها نحن، على بعد آلاف الكيلومترات، نعلم أن تلك الشابة التي تتحدث في الفيديو عذراء، وهو ما حدث مع غيرها من قبل وسيحدث من بَعد. وينبغي ألا نشعر بأننا ننتهك خصوصية جسدها أسوة بملايين صاروا على علم بهذا التفصيل الجسدي الحميم، فالانتهاك الوحيد “وفق المنظومة” لو أنها فقدت ذلك الجزء طوعاً أو غصباً، وإذا حدث ذلك بلا زواج فهي تدفع ثمن الانتهاك، وقد لا يعفيها منه تعرضها للاغتصاب. هذا ما تتحفنا به الدولة العصرية، وسلطتها التي تتباهى بإقامة الدولة الوطنية الحديثة منذ سبعين عاماً.
من السهل رمي مسؤولية ما سبق على مجتمع غارق في التخلف، وكثر يسلكون هذا السبيل، بل كثر يرون في السلطة كياناً متقدّماً على ذلك المجتمع، وهو تالياً أكثر رأفة بالنساء والفئات المستضعفة الأخرى. على ذلك يمكن فهم تلك العبارة، الواردة بين أقواس زيادةً في التأكيد: “الطب الشرعي انتصر لها”. بمعنى أن الطب الرسمي، الممثِّل للسلطة، قام بالواجب وأنصف المرأة المعنية عندما خذلها المجتمع، وخذلها الطبيب الذي لا يمثّل السلطة.
انتصار الطب الشرعي هذا يُفترض أن يحجب تقصيراً مستداماً، يبدأ من عدم حماية المرأة “أية امرأة كانت” عندما تتعرض للتعنيف ولأي نوع من الأذى إذا كانت في وضع مشابه، بصرف النظر عن فقدانها أو عدم فقدانها عذريتها. لا يوجد في مصر، ولدى كل سلطات المنطقة الشبيهة، مؤسسات حكومية أو غير حكومية تلتجئ إليها امرأة تتعرض لمثل هذا التعنيف، والتحدي الكبير لا لعصرية السلطة وإنما لاقترابها الحقيقي من مفهوم الدولة هو هنا؛ في حماية النساء من التعنيف من ضمن ولاية الدولة على جميع مواطنيها ومسؤوليتها عن حماية حرياتهم الشخصية.
لكننا نعلم أن هذه السلطات، التي تتشابه حتى في اعتقال مدوّنين يناقشون قضايا عامة على وسائل التواصل، هذه السلطات القادرة على اعتقال الألوف وعشرات ومئات الألوف، لا تفتتح مراكز إيواء لعدد أقل من النساء المعنّفات، وتروّج لتخليها عن مسؤوليتها بالاعتبارات الاجتماعية التي لا تستطيع القفز عليها. ثم، كما حدث خلال عقود، تروج الفكرة وتتغذى من تيارات الإسلام السياسي الذي يظهر كأنه المنافس الوحيد للسلطة، وتتبناها وتروّجها أيضاً منظمات وتنظيمات تتخوف منه.
لقد شاهدنا في العديد من الحالات ادّعاءات تتعلق بالفصل بين النضال النسوي والسياسي، وهذا يصحّ في بلدان ديموقراطية تحمي فيها الدولة الفئات الأضعف، وتحمي الجمعيات والمنظمات التي تدافع تلك الفئات عملياً أو نظرياً. أما حيث لا توجد دولة، وهناك فقط سلطة متحللة من واجباتها، ومتغوّلة على حقوق مواطنيها، فالنتيجة على كافة الأصعدة كما نراها اليوم. إذا شئنا الدقة، حالة الشابة إيمان هي الحالة التي يُراد تعميمها على كافة المستويات؛ حالة الضحية المقموعة التي لا تدرك أنها ضحية، بل لا يندر أن تشكر واحداً من عتاة جلاديها على رأفته.
*المدن