عمر قدور: رفعت الأسد ينتخب.. ضاحكاً

0

كأنما سمحت فرنسا لبشار بإجراء انتخاباته في سفارته في باريس من أجل هذا المشهد، مشهد رفعت الأسد وهو يقترع فيها. هكذا تجتمع مفاجأتان؛ سماح فرنسا بإجراء “الانتخابات”، واكتشاف كثُر أن رفعت الأسد مقيم فيها طليقاً، بخلاف ما يوحي به الحكم الذي أصدرته محكمة فرنسية في حزيران بالسجن عليه لأربع سنوات بسبب إدانته بإختلاس وغسيل أموال. 

على ضآلة ذلك القرار والتهم قياساً إلى جرائم رفعت في حق السوريين، بقي الحكم بالسجن مع وقف التنفيذ بسبب ظروف المدان الصحية المتعلقة بتقدمه في السن، بينما انعقدت في الخامس من الشهر الحالي أول جلسة في محكمة الاستئناف للنظر في الطعن المقدّم منه، والذي يستهدف عملياً إلغاء الجزء المتعلق بمصادرة أصوله العقارية. معظم وسائل الإعلام التي أوردت أخبار الحكم والاستئناف، بما فيها منابر سورية معارضة، بدت كأنها من صياغة وكالة أنباء واحدة إذ أشارت إلى إقامة رفعت في “المنفى” ومعارضته نظام ابن أخيه بشار الأسد. ما يجدر الانتباه إليه في هذا السياق أن رفعت ليس في ضائقة شديدة تجبره على العودة إلى حضن ابن أخيه، فهو غير مهدد بالسجن، والحجز على أصوله العقارية هنا وهناك لن يجعله فقيراً أو معدماً، فهي رغم ثمنها الباهظ جزءٌ من مملكته المالية الضخمة.

ذهب رفعت لينتخب بموجب صفقة عائلية؛ هذا في شبه المؤكد. هو ليس من النوع الذي يُقدِم على هذه الخطوة توسلاً لرضا بشار، وسفارة الأخير ما كانت لتستقبله أصلاً لو لم يكن لديها تعليمات بذلك. تنفيذ هذا الجزء من الصفقة في باريس لا يستوجب تورط الطرف الفرنسي في الشأن العائلي لآل الأسد، ولا التوصل إلى استنتاجات لا تخلو من الشطط عن صفقة دولية أكبر يشي بها اقتراع رفعت وسماح الحكومة الفرنسية بإجراء الاقتراع. رفعت لم يعد وجهاً يُلوَّح به كبديل في سوريا، إذا كان له حقاً شبهة هذا الموقع من قبل. 

العامل الوحيد الذي كان يسند فكرة عودة رفعت كبديل هي قدرته المتخيَّلة على الإمساك بتنظيمي الجيش والمخابرات الأسديين، وضبط العائلة نفسها تحت قيادة واحدة صارمة. هذه القدرة ليست وهماً بأكملها، مثلما ليست على النحو الذي كانت عليه قدرة رفعت في منتصف الثمانينات، وأهم المقتنعين بها أولئك الذين رأوا فيها حلاً لمرض حافظ في التسعينات، ثم لعدم كفاءة بشار وشقيقه ماهر بعد موت باسل، وهم شريحة عليا من المؤيدين، لا من تلك الفئة التي بحكم موقعها الوضيع مستعدة “أو مضطرة” للسجود أمام أي فرد من آل الأسد.

كان بشار الأسد في أفضل أحواله قد نال مباركة دولية وإقليمية كوريث لأبيه، في حين لم يحظَ بتأييد مماثل ضمن الحلقة العائلية للسلطة، بدءاً من أمه التي كان يُشاع عدم رضاها عن كفاءته وصولاً إلى حلقات أوسع من عائلتي الأسد ومخلوف وربما العائلات الأخرى المشاركة في كعكة السلطة مثل شاليش ومهنا. ومن المتوقع أن تكون مكانته قد تراجعت على هذا الصعيد مع إقصائه عن النفوذ بعضَ حيتان تلك العائلات، خاصة مع نقل رامي مخلوف خلافه معه إلى الإعلام. وكما هو معلوم شاعت الأقاويل، حتى صار يُنظر إليها كحقائق، عن تأثير أسماء الأسد التي “انتزعت” زوجها من شراكاته العائلية الواسعة من أجل احتكار السلطة والثروة لصالح أولادها وأقربائها.

هكذا كانت مكانة بشار قد اهتزت أكثر مما بدا ضعيفاً عندما كانت قواته تخسر المزيد من الأراضي، وإذا كان سهلاً على أجهزة المخابرات جرّ البسطاء للمشاركة في السيرك الانتخابي، أو فعلهم ذلك بحكم العادة، فالأمر مختلف لدى ما كان يُسمى النواة الصلبة لنظامه، وهي النواة العائلية التي تتوسع طائفياً. في الواقع لا أحد سوى رفعت يقدر على منح بشار الشرعية التي يحتاجها لاسترجاع نواته الصلبة، فهو الوحيد من بقايا الزمن البهي للعائلة، والوحيد الذي قارع المؤسس حافظ الأسد وهو في عزّ سطوته، وعندما يقترع لصالح بشار فهو يمنحه “برَكة” في توقيتها الضروري. 

من جهةِ رفعت الذي يشارف على منتصف الثمانينات من عمره، لقد أصبحت طموحاته السياسية وراءه، وكذلك توريث هذه الطموحات لأحد من أولاده. أي أن رصيده المعنوي لم يعد قابلاً للصرف ضمن منافسة عائلية، لكن يمكن تجييره لصالح بشار في صفقة يُرجح أن يكون الثمن فيها من طينة ذاك الذي قبضه عندما أجبره أخاه على مغادرة سوريا، ولا يخلو من مغزى ما نقل عن ابنه سومر بأنه رافق أباه إلى السفارة، فوجود سومر ضمن الصفقة يعني انضواءه فيها بعد أن كان رأس حربة إعلامية لطموحات أبيه. فقط، على سبيل اللهو، لنا أن نتخيل رفعت الأسد ذاهباً إلى السفارة في باريس ليقترع لبشار عن قناعة تامة، وهو يبارك له في قرارة نفسه وحشيتَه التي فاقت وحشية أبيه وعمه معاً. يلزم أن يكون رفعت مبدئياً وواقعياً كي يقترع لابن أخيه عن قناعة بجدارته واستحقاقه، ما يجعله يتنازل عن منافسته في مضمار العائلة المحبَّب.  

نستبعد أن تكون الظروف الصحية قد جعلته يضحك ضحكة خبيثة بملء وجهه، والتفسير الأقرب إلى الصحة أن يكون رفعت يضحك لحظة اقتراعه من تذكرّه تفاهة التمثيلية التي يشارك فيها. هو يضحك استكمالاً للتنكيل الأسدي العريق بالديموقراطية، يضحك من المغلف الذي يحمله ومن الصندوق الموجود أمامه. وربما يضحك وقد جال في ذهنه تلك اللحظة تاريخ الأسدية، وكيف انتهى على نحو غير متوقع إلى لحظة وقوفه هذه. 

يوم الخميس أُسدل الستار على السيرك الانتخابي الأسدي “بما أن مجريات الجزء الداخلي متوقعة”، وأخرج لنا الحاوي مفاجأة رفعت الأسد كناخب “حقيقي” وحيد في عملية الاقتراع الشكلية. مع رفعت الأسد، صار لـ”انتخابات السوريين في الخارج” معنىً مضافاً لما حدث في لبنان الذي لا يصحّ احتسابه على الخارج في هذا اليوم تحديداً؛ كان ينقص فقط أن يقترع وهو يرتدي وسام جوقة الشرف الفرنسي.

*المدن