في واحدة من خطبه أثناء المواجهة مع الإخوان المسلمين، قال حافظ الأسد ما فحواه أنهم “ويعني بها الإخوان وجمهورهم” لا يعترفون بإسلامه، رغم صيامه وصلاته. ليسأل: ما الذي يريدونه مني كي يعترفوا بإسلامي؟ ثم إثر قليل من الصمت: أن أصلّي في القدس؟! بعد تصفيق حاد مع لغط تتخلله من بعض الجمهور هتافاتٌ تدعو له بالصلاة في القدس منتصراً، يعيد الأسد هذه الفقرة كـ”فنان” يعيد على أسماع جمهوره ما يعتقدون أنه أجاد فيه وطرِبوا له.
كان صوت ضحكات بعض الجمهور مسموعاً أيضاً، فحافظ الأسد كان قد ألقى ما يُسمّى “مفارقةً” بتعبير المثقفين، أو “قَفْشةً” بتعبير دارج نفضّل استخدامه في هذا السياق. وهذه القفشة، لمن يشاء تأويلها، فيها أكثر من بُعْد سياسي، فصاحبها ينال من السادات الذي كان قد زار إسرائيل، وينال في الوقت نفسه من الإخوان باحتسابهم عملاء لإسرائيل.
من المتوقع أننا سنُغضِب كثرة من محبي الكاتب محمد الماغوط إذ سنشبّه “القفشة” التي أطلقها الأسد بكتابات الماغوط الساخرة، بل نميل من هذا المنظور إلى عدم التمييز بين كتاباته الساخرة وأشعاره التي يعتمد معظمها على كلام عادي مرسَل، تُنقذه من عاديّته قفشة “مفارقة” ما في نهايته. بالطبع تؤخذ قفشة الأسد، كما هو حال ما يشبهها، ضمن ظرفها الزمني، فللحديث عن الصلاة في القدس آنذاك مدلولٌ مختلفٌ عما يصدر اليوم من ممانعين.
في القريب المباشر، يعيدنا اللغط الذي ثار حول الممثل ياسر العظمة إلى تحرّي نموذج القفشات تلك، فالرجل في حلقته المعنيّة بعنوان “مكانك في القلب” ظهر أميناً على نحو خاص لأجواء مسرحية “غربة”، من تأليف محمد الماغوط وقُدّمت لأول مرة عام 1976، بطولة دريد لحام وبمشاركة من ياسر العظمة. لكننا، بعد تجاوز وجه الشبه الخاص بالتطرق إلى موضوع “الهجرة”، نذهب أبعد قليلاً بردّ مجمل ما يقدّمه ياسر العظمة على يوتيوب إلى مسرحية “ضيعة تشرين”؛ عُرضت لأول مرة عام 1974، وطاقمها هو نفسه تقريباً الذي سيكون حاضراً بعد سنتين في “غربة” ومن ضمنه العظمة.
أهمية “ضيعة تشرين” و”غربة”، انتهاءً بـ”كاسك يا وطن” 1979، في أن نصوص الماغوط نالت انتشاراً عربياً واسعاً، وأسّستْ سوريّاً للكوميديا في إطارها العام الذي سيبقى طوال العقود اللاحقة، وفي أغلب الأحيان بدت تلك النصوص كسقف يتمنى كثر الوصول إليه. منذ ذلك الوقت فضّلَ دريد لحام وصفَ التجربة بالمسرح الوطني، لا السياسي، متعالياً على الثاني منهما. لكنه للحق أيضاً كان توصيفاً أميناً لما قدّمه، والذي لا يقول ما يمكن احتسابه على السياسة انطلاقاً من خصوصية سورية تأخذ لاحقاً طريقها إلى التعميم. ما يحدث في تلك النصوص هو التعميم، حيث ينبغي على المشاهد الظن أن البلدان العربية متشابهة، فلا ميزة خاصة تصنع السياسة هنا وهناك، ثم عليه أن يُحسن الظن فيرى في التعميم تهرباً مشروعاً من سلطات القمع، وهي سواسية في تلك البلدان بموجب النص نفسه.
أما الماغوط فيقول في حوار على هامش تقديم إحدى مسرحياته: (قد يستطيع الإنسان أن يهرب من بيته وعمله ودائنيه ووطنه، وقد يستطيع أن يهرب من ماضيه وحاضره، ولكن هل يستطيع أن يهرب من المستقبل؟). ينبغي لنا، حسب معجبي الماغوط، أن نطرب لمثل هذه العبارة، وأن نتخيّل جمهوراً يصفق على النحو الذي نالته قفشة الأسد عن الصلاة في القدس. فهنا أيضاً كلام يمهّد للقفشة التي ستأتي في النهاية لتفجّر الكلام العادي، والذي إذا شئنا الصراحة لا معنى له يُعتدّ به، ولا سويّة فنية هي الغاية منه.
بالتأكيد هناك العديد من قفشات الماغوط مما قد يثير الابتسام حتى الآن، سواء في مسرحياته أو مقالاته أو حواراته، لكن مع الانتباه إلى فقر المعنى السياسي لكاتب لطالما اعتُبر لصيقاً بالسياسة. نحن لا نغامر إذا قلنا أن كثرة اللغو مع قلّة الكلام هي من أركان الإرث الأسدي، يقابله “فيما يدّعي ضمناً معارضته” الإرث الماغوطي المتخم بالقفشات التي تُقدَّم على أنها هادفة سياسياً، لا من أجل الإضحاك فحسب، في حين أن تفكيكها يُظهر ضحالة سياسية مزرية.
ياسر العظمة هو ابن الإرث الماغوطي، إذا نحّينا تأثيرات اللغو الأسدي أيضاً، وما سبق له فعله في تجربة مسلسل “مرايا” اقتصر على تخلّصه من ديكتاتورية البطل، الدور الذي راح يحتكره دريد لحام، ليقيم ديكتاتوريته ببطولته المطلقة. وينبغي ألا ننسى تحويره نصوص كتّاب، غالباً من دون الإشارة إلى الأصل، لتصير ماغوطيةً بالقفشات التي يضيفها عليها، وبتخليص الأصل من عمقه السياسي في العديد من الأحيان.
يُظلم العظمة عندما لا يؤخذ ضمن سياقه الأعمّ، وانتقاده لأنه في كلامه مؤخراً عن “هجرة” السوريين لم يُشرْ إلى الأسد ومجازره، ولم يستخدم تعبير “اللجوء”، هذا الانتقاد يبقى قليل الرحمة ما لم يلحظ الإرث الماغوطي برمّته. من المفيد دائماً الانتباه إلى القيمة الفنية، إذ تشفع الفنية العالية لخطاب متواضع، أما في حالة الأحاديث التي يقدّمها ياسر العظمة فليس ثمة رهان فني أصلاً على غرار “الزمن الماغوطي الجميل” الذي انتهى تأسيسه مع “كاسك يا وطن”، ليستمر بأسماء وتجارب أخرى، لا نستثني منها ما ينطق بكلام معارض لكن في قالب اللغو الأسدي، أو القفشة الماغوطية.
من علائم رواج الإرث الماغوطي ما نصادفه من قفشات له يعيد معارضون نشرها على وسائل التواصل، من قبيل تفضيله الانتساب إلى الحزب القومي السوري على حزب البعث لوجود مدفأة في مقر الأول، وفي المنحى ذاته تكون القصائد الأكثر استحضاراً ورواجاً هي لرياض الصالح حسين الأشدّ تأثراً بشعر الماغوط وإخلاصاً له. في الواقع، ما اقترفه ياسر العظمة ليس الأسوأ ضمن الإرث ذاته، فالماغوط نفسه لم يعترض على إعداد مسرحيته “قيام جلوس سكوت” ليحوّلها الممثل زهير عبدالكريم إلى حفلة مدح لسلطة الأسد وشتائم لخصومها، خاصة اللبنانيين آنذاك في عام 2005، وكان قبل سنة قد نال من بشار الأسد وسام الاستحقاق رفقة زكريا تامر ووليد إخلاصي، وهو بصرف النظر عن الأسد يستحقه على تأثيره الواسع المديد.
عندما ينتقد معارضون ياسر العظمة فمن المستحسن التوقف جيداً عند الإرث اللغوي الأسدي والماغوطي وتأثيراتهما المستمرة، ونفترض أن يقود هذا التمحيص إلى التساؤل عن الفقر المدقع في الخطاب المعارض، ما يجعله باختلاف مستوياتهما يستعير أدوات الاثنين. كان حريّاً بالمعارضة أن يكون لها فنانون تجاوزا كل ذلك، بدل انتظار أن يغيّر فنان في الثمانين من عمره ما اعتاد عليه وصنعَ نجوميته.
*المدن