رغم أن المرسوم رقم 16، المحال مؤخراً إلى مجلس الشعب الأسدي، قد أثار الكثير من ردود الأفعال، سيّما منها الغاضب إزاء ما يعتبره توجهاً نحو الأسلمة، إلا أن هذه الردود غفلت عن هوامش متعددة لإصداره. بعض هذه “الهوامش” يمكن اعتباره في متن مقاصده، وأيضاً في متن التركيز على ذلك الغضب الذي يشعر به الموالون من صدوره، بخاصة مع انتظام “الاحتجاج” الموالي، وتفتق أذهان أربابه على ارتداء اللون الأحمر في يوم محدد كنوع من التعبير “الحضاري” عن “ثورتهم” على وزارة الأوقاف، لا على منوال “الرعاع” الذين خرجوا متظاهرين ثائرين على الأسد!
إذاً الموالي، الذي صمت أو شجع على إبادة سوريين آخرين منذ أن طالبوا بالتغيير الديموقراطي السلمي، هو اليوم يجد لنفسه الأحقية بالاحتجاج على قرار تنظيمي لا يخلو من الأهداف السياسية، بينما كان يمنع الحق نفسه عن سوريين آخرين، بل لم يندر أن دعا إلى إبادتهم وتدمير مدنهم بأكملها. ظاهرياً قد نجد الأمرين متكاملين، إذ من المنطقي أن يحتج الموالي على أية شبهة للأسلمة، هو الذي اعتقد أن الأسلمة قادمة عبر “ثورة سنية”، وهو تالياً يريد استكمال نصره “العلماني”. لكن هذا التبسيط لا يكفي، وإذا كان يكفي الموالي الذي لا يخلو من غفلة أو تغافل فينبغي ألا يكتفي به على الأقل معارضون نقديون، مثلما لا ينبغي أن يكتفي به موالون بحكم الضرورة أو بالإكراه.
حركة الاحتجاج، التي يستحيل التعبير عنه من دون رضا مخابرات الأسد، لها غاية واضحة مفادها تعزيز الانقسام السوري العميق أصلاً. الأمر هنا لا يتوقف عند تشجيع الموالي على الإبادة ثم احتجاجه على المرسوم؛ إنه بالضبط إظهار ذلك الموالي أكثر أسدية من بشار نفسه الذي وقّع عليه. بعبارة أخرى يقول بشار لأولئك المرغمين على البقاء تحت سيطرته: أنا أرحم بكم من مواليّ الأشدّاء المبدئيين. كنا قد رأينا شيئاً مماثلاً في مواجهة حافظ الأسد مع الإخوان في مطلع الثمانينات، فحينها نزلت مظليات شقيقه رفعت ليخلعن الحجاب أو أغطية الرأس التقليدية عن النسوة السائرات في الشوارع، ومن بعدها خرج حافظ ليخطب في تخريج دورة أخرى للمظليات، طالباً منهن عدم تكرار السلوك السابق والتركيز فقط على الفتيات الصغيرات. أي أن المعادلة أيامها كانت إما “اعتدال” حافظ أو “تطرف” رفعت، من دون أن ننسى مبادرة الأول إلى إقامة ما سمّاه “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن”.
الغايات الخبيثة لا تنحصر في الاعتبار السابق فقط، إذ ليس أفضل من طرح هذا المرسوم لإظهار أن الرئيس “الأكثر اعتدالاً بين مؤيّديه” مضطر لتقديم تنازل لأولئك “السُنّة”. في هذا استئناف ماكر لسردية النظام عن كون الحراك السوري ضده هو مجرد ثورة سنية ذات مطالب دينية خاصة، في دولته العلمانية! إرضاء السُنّة، بحسب هذا القصد، لا يؤشر على الاعتدال والانفتاح المزعومين فحسب، وإنما يبتغي مصادرة مطالبهم في الحرية والديموقراطية، الآن ومستقبلاً وكما فعل أبيه من قبل.
هنا قد نجد صورة المستبد السفاح وهو يضطر إلى الرضوخ للصورة المروَّجة عن الأكثرية “المحافِظة” أو “المتخلّفة”، لكن الرضوخ “المزعوم أيضاً” له وظيفة هي الإلقاء باللوم على تلك الأكثرية لأنها هي التي تفرمل مسيرته في التطوير والتحديث. أيضاً سنجد في هذه السردية استئنافاً لسردية لطالما روّجها الأسد وموالوه وتبنّاها بعض المعارضين، مفادها أن حكم الأسد لم يكن له ليستمر لولا التحالف مع الإسلام السُنّي والبرجوازية السنية. وإذا كنا نجد سنداً لتلك السردية في السنوات الأولى لحكم حافظ الأسد، حيث قدّم نفسه الأكثر اعتدالاً بالمقارنة مع فريق صلاح جديد، فإن ما حصل في السنوات اللاحقة يكذّبها، إذ نعلم أن بقايا البرجوازية التقليدية قد غادرت البلاد بمعظمها في عقد الثمانينات، بعد مغادرة الدفعة الأولى جراء التأميم، تشهد على ذلك الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ألمّت بالبلد. أما طبقة المشايخ فقد تم تطويعها بالتدريج لخدمة السلطان، وأيضاً غادر من لم يتكيّف مع الواقع الجديد منذ المواجهة بين الأسد والإخوان. بمعنى أن طبقة المشايخ السنة والبرجوازيين المتبقية هي متحالفة طوعاً أو كرهاً مع الأسد أو من صناعته، ونستطيع الاستدلال على تحالف الضرورة بحجم الرأسمال السوري الهارب منذ بدء الثورة وكذلك عدد رجال الدين الذين غادروا البلد، ومن المرجح أن نسبة ساحقة من الطرفين لا تُحتسب على الأسد ولا على الثورة.
واحد من الأخطاء الكبرى التي قد نرتكبها إذا لم ننظر إلى تنظيم الأسد كمحترف في مضمار الاستثمار في الدين، وبالمقارنة يكون تجار الدين من خصومه في مرتبة الهواة. لقد اشتغل هذا التنظيم طوال عقود بخبث يُحسب له على منسوب من “الخطر” الإسلامي الذي لا يهدده، وتعاون مع الحركات “الجهادية” التي تنشط خارج سوريا، وفي الوقت نفسه قدّم عنها معلومات سخيّة لأجهزة المخابرات الغربية. ولا شك في أن الإسلاميين، من بين بقية خصومه، هم العدو المفضّل رغم إبدائهم شراسة في مواجهته قد تفوق شجاعة بقية الخصوم. بيت القصيد أن التهديد بالبديل الإسلامي هو القشة التي يمسك بها الأسد بمخالبه وأنيابه، وهو السلاح الذي ثبتت نجاعته في استقطاب شركاء محليين من مختلف الأقليات، وأيضاً في استقطاب صمت أو تواطؤ دوليين على وحشيته القصوى إزاء معارضيه. على ذلك يمكن أن نفهم التعاطي الداخلي المزدوج، فالأسد لا يقدّم تنازلاً للإسلاميين إرضاء للأكثرية السنية، بل هو يخاطر بنسبة ما في رعاية الإسلاميين الذين يريدهم أولاً على قياسه، وإذا غرّد جزء منهم خارج السرب فهو مستعد للمتاجرة بهم كخطر قادم، مع الاستعداد الغريزي لاعتقالهم أو إبادتهم أسوة بغيرهم.
أما الجزء الآخر من الاستثمار في وزارة الأوقاف، وهذا الجزء استهلك حيزاً من المرسوم لم يحظَ بانتباه، فيشرحه كون وزارة الأوقاف هي أغنى الوزارات الموجودة، وربما تكون الأغنى بأرباحها الصافية مثلما هي الأغنى بأصولها من العقارات والأراضي، باستثناء وزارة النفط الذي يسمع السوريون بوجوده ولا يرون أثراً لإيراداته. في مدينة حلب، على سبيل المثال، تملك الأوقاف مساحة ضخمة جداً من الأبنية في مركز المدينة، وتتقاضى الإيجارات من شاغليها بمن فيهم أصحاب الكباريهات الذين يديرون شبكات دعارة. أي أن الأوقاف تمارس عملها على هذا الصعيد كمقاول محترف بلا أيديولوجيا، ولا تخلو مقاولاتها من وقائع الفساد الذي لا تنفرد به على أية حال. هذا الجزء، أي أموال الوقف الإسلامي، هو الذي قامت عليه الوزارة في الأصل، فهي ليست وزارة معنية بالتوجيه الديني الذي يُفترض أساساً أنه لدائرة أخرى أُلحقت بها هي دار الإفتاء.
واحد من الأمثلة على ما يرمي إليه المرسوم هو إلزام المستأجرين من الأوقاف بترميم الأبنية التي يشغلونها، والتي تضررت بفعل الأعمال العسكرية، خلال سنة قابلة للتمديد خلال سنة أخرى بموافقة من الوزارة. هذا المثل يعني إلقاء جزء من تكلفة إعادة الإعمار على أولئك المستأجرين، وطرد المستأجرين الذين لا تعينهم أحوالهم المالية على ذلك، وبالتأكيد طرد المستأجرين الذين اضطروا لمغادرة البلد. عندما يكون الحديث عن حجم ضخم من العقارات في مواقع ذات أهمية اقتصادية فإننا بالأحرى أمام عملية تعفيش “سطو” كبرى بذريعة إعادة تنظيم عمل الوزارة، وبالطبع من المتوقع ذهاب عائدات التعفيش، عبر الاستيلاء على عقارات ثمينة تُفرغ من شاغليها، إلى جيوب الذين قاموا من قبل بتعفيش البلد بأكمله.
هكذا يتم السطو على الدين الذي يُفترض أن تكون ملكيته مشاعاً للمؤمنين، وعلى العقارات والأراضي التي وهبها أشخاص رحلوا عن العالم وفي ظنّهم أنهم يتركونها لفعل الخير، بينما يُرمى بالفتات الفكري المحبب من قبل أولئك الراغبين في بعض الثرثرة عن العلمانية والأسلمة.
المصدر : المدن