في حديثه إلى رجال دين قبل أسبوع، لمناسبة افتتاح “مركز الشام الإسلامي الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف”، يقول بشار الأسد: ولم يكن عبثاً أن الرسول تحدث عن بلاد الشام في عدد من الأحاديث. لماذا؟ ثم يجيب: لأنها كانت النموذج الاجتماعي الذي يصلح ليكون الحاضنة الحقيقية للدين الصحيح. لم يتحرج بشار من إطلاق تفسيره هذا، الذي لم يسبقه إليه فقيه، أمام رجال دين صامتين منصاعين، لكن نفترض أن أحدهم لا تنقصه الحجة لإبراز أماكن أخرى لها الأولوية على الشام بسبب ذكرها في القرآن. ذلك بالطبع من دون التوقف عند مفهوم “الحاضنة” الحديث جداً، والملتصق في ذاكرة السوريين بالكثير من المقولات التي أسست لانقساماتهم.
على أية حال يبدو بشار كأنما يرى نفسه أيضاً جديراً بتشغيل أولئك المشايخ كمريدين له من أجل إسلام خاص، مستخدماً طريقة الإسلاميين في احتكار الإسلام الصحيح. ضمن هذا الإطار يوجه سهامه إلى طرفين إسلاميين رئيسيين، هما الإخوان والوهابية، وإن لم يميز بينهما لجهة اتهامهما بالتطرف والإرهاب. وإذا أخذنا بالحسبان وجود معدِّين لخطابه فإن وجودهم يبرر وجود شيء من الاتساق ضمن الركاكة والتفكك المعهودين، بحيث يوضع ما يسمى “منهج علماء الشام الوسطي المعتدل” مقابل النهج الإخواني “المصري المنشأ” والوهابي السعودي.
علينا أن نتذكر هنا أن الشام لم تكن يوماً بمثابة مركز إسلامي له قدسية كما هو حال مكة والمدينة والأقصى، أو مقصداً لطلاب الفقه كما هو حال الأزهر، أو النجف بالنسبة للشيعة. وسوريا، مثل باقي البلدان، ليس فيها إسلام واحد، ووصف الاعتدال أو التطرف هو وصف ظرفي زمني، أو بالأحرى هو حالٌ لم يكن تاريخياً في منأى عن السياسة من ضمن مؤثرات أخرى. لدينا في سوريا أمثلة كافية على مريدي الفرق الصوفية وعلى السلفيين وعلى الإخوانيين، وحتى ضمن جماعة الإخوان لدينا أمثلة على الاختلاف بين “جماعة حلب” و”جماعة حماة”.
للأسدية أيضاً تاريخ من محاولة اصطناع إسلام سوري على مقاسها، خاصة بعد المواجهة مع تنظيم الإخوان قبل أربعة عقود. وقتها لم يتوانَ حافظ الأسد عن تأكيد إسلامه في خطاباته، واستنفرت ماكينته من المشايخ لسحب البساط من جماعة الإخوان، عبر إنشاء “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن”، ودعم المدارس الدينية، ومن ثم دعم مظاهر دينية غير رسمية مثل “القبيسيات”، فضلاً عن قيام القيادة القطرية لحزب البعث بتشجيع البعثيين على التسجيل في كلية الشريعة.
في الوقت نفسه كانت ماكينة المخابرات تشتغل على أبعاد متعددة للملف، فهي احتفظت بعلاقات يمكن القول أنها جيدة مع الحركات الجهادية العالمية، تجلى ذلك في التعاون بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، رغم أن المخابرات ذاتها أمدّت الأمريكيين بما تملك من معلومات عما يزيد عن عشرين ألف إسلامي إثر هجمات الحادي عشر من أيلول /سبتمبر. على الصعيد الداخلي، لم تقصّر الأجهزة في اللعبة المزدوجة، فهي في كثير من الأوقات غضت النظر عن منتسبين إلى تيارات إسلامية “باستثناء الإخوان”، لتلقي القبض عليهم لاحقاً. أكثر من ذلك، يذكر لنا محام سابق عن المعتقلين كيف رأى مجموعة من السجناء كثيفي الذقون وهم يُقتادون إلى محكمة أمن الدولة عام 2003، وكانت أجهزة الأسد قد دعت وكالات الأنباء ومندوبي السفارات الغربية لمشاهدة العرض. كان السجناء يلبسون زياً موحداً هي الجلابية البيضاء التي اشتُهر بها مقاتلو القاعدة وطالبان في أفغانستان، وملخص الموضوع أن أولئك المعتقلين حُرموا من الاستحمام والحلاقة حوالي شهر ونصف، ثم أُلبسوا تلك الثياب ليُعرضوا أمام الإعلام الغربي ومندوبي السفارات كإرهابيين، من دون أن يعرف البعض منهم ما الذي يحدث وحتى ما هي التهمة الموجهة إليه.
بالطبع لم تكلل كافة جهود مخابرات الأسد ومشايخه بالنجاح التام، فمع اندلاع الثورة انقسمت شريحة المشايخ أسوة بالانقسام العام، ومن أريدَ لهم أن يكونوا منافسين للإخوان على مقلب السلطة تشتت قسم كبير منهم بين تأييد الإخوان أو السلفية أو السلفية الجهادية، من دون أن نتجاهل أفراداً وقفوا مع الثورة ولم ينضووا في أي من تلك التنظيمات. سيتردد لاحقاً بوفرة الحديثُ عن دهاء الأسد بإفراجه مع بدء الثورة عن معتقلين إسلاميين، ثم بتصويره المفاضلة مقتصرةً عليه وعلى الإسلاميين. هذه السردية تتناسى وجود تواطؤ دولي وإقليمي على تحويل سوريا إلى ساحة لطحن تلك التنظيمات ونظيرتها الشيعية، ووفق الكثير من المعطيات المعروفة كان الأسد على وشك خسارة الحرب في العديد من المحطات لولا النجدة الخارجية، بمعنى أن نجاحه لا يكون مضموناً إلا في حال توفر الخارج المستعد دائماً لإنقاذه من أخطائه، أو توفر الخارج الذي يلعب اللعبة المزدوجة ذاتها في ملف الحركات الإسلامية.
لا يقرأ بشار من كتاب أبيه فقط، عندما يكرر تجربة اصطناع إسلام على مقاس استبداده، مع هامش مخاطرة بأن يتذوق من السم الذي يطبخه. هو يقرأ في الكتاب المفتوح الذي يستلهم منه كثر، كتاب الاستثمار السياسي في الإسلام. وهذا الاستثمار إذ يستدرج استثماراً مضاداً غاضباً، ويرى نفسه الأحق بفهم الإسلام وتأويله، فإنما لا يغادر مقاصده عندما يصبح الإسلام محل نزاع بين طرفين بدل أن تكون ملكيته فردية ومشاعاً في آن واحد.
لعلها من مفارقات زج الإسلام في السياسة أن نرى بشار الأسد في موقع الفقيه، بل يقلّد الإسلاميين عندما يرى “الدين الصحيح في المجتمع السليم”، ومتماشياً معهم إذ يعيد التنظير لمن يرون القرآن كتاباً علمياً بالقول أن الله أنزل القواعد الدينية والقواعد العلمية معاً. هذه قد لا تكون المفارقة الأخيرة بوجود إسلاميين يرفضون فك ارتباط الدين مع السياسة، ويفضّلون له الغرق في أوحالها. من الطريف علاوة على ذلك أن يعطي بشار من موقع الفقيه درساً في العلمانية مميزاً بين “علمانية مؤمنة” و”علمانية كافرة”، وهذا تفقه جديد لم يلحظه أولئك الذين كتبوا مؤلفات في العلمانية واختلافاتها بين بلد وآخر.
جرياً على عادته، لا ينسى بشار إعطاءنا قليلاً من الفكاهة القذافية، باجتراح أفكار جديدة من قبيل أن “الإنسان بفطرته ينتمي إلى عائلته ومدينته وطائفته، ولا يمكن لإنسان أن ينتمي بصدق إلى دينه وهو لا ينتمي لمجتمعه”. أو على غرار قوله: “ما أسمّيه انفصام الشخصية، كأن يعيش الإنسان تناقضاً بين قناعتين”، ناسياً وناسفاً بذلك جهود علماء نفس اشتغلوا على هذا المرض وعوارضه. وصولاً إلى قوله: معروفٌ عني أنني لا أحب الكلام الإنشائي.
المصدر : المدن