بعد غياب طويل جداً، عادت سيرة المعارضة إلى صفحات السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي لمناسبة “انتخاب” الائتلاف المعارض نصر الحريري رئيساً له، وخلفاً لأنس العبدة الذي “انتُخب” رئيساً للهيئة العليا للتفاوض خلفاً لنصر الحريري الذي انتهت ولايته. قبل تبادلهما موقعيهما الأخيرين، في الائتلاف وهيئة التفاوض، أثبت العبدة والحريري أنهما من أطول كوادر المعارضة بقاء وتنقلاً في مناصبها، بعد إقصاء من تم إقصاؤه والاستقالة الطوعية أو شبه الطوعية لمن انتهى زمنهم أو دورهم.
عادت سيرة المعارضة من الباب الواسع لسخرية مستحقة قبل تمثيليتي الانتخاب الأخيرة وبعدهما، أصحاب السخرية بمعظمهم ممن يُفترض أنهم جمهورها، ولعل السخرية تعبير ملطّف جداً لمجيئها مقرونة بازدراء قل نظيره. ذلك لن يؤثر أدنى تأثير بقيادات المعارضة ونهجها، ولم يسبق لتلك القيادات أن تأثرت سوى بالصراعات الإقليمية وتوجهات الدول الراعية لها، وسواء عبّرت عن ذلك أو لم تعبّر عنه فهي أيضاً تنظر بازدراء إلى ما تراه جمهوراً من الثرثارين على وسائل التواصل الاجتماعي، فلا ترى أنه يستحق الانتباه أو الرد، ولا ترى صلة لها به.
الحق أن انعدام الصلة بين الجانبين لا يأخذ حقه من الاهتمام، فهيئات المعارضة تمثّل شكلياً الثورة السورية، ويستتبع هذا التعريف أنها تمثّل جمهور الثورة، بصرف النظر عن مآلات الثورة ذاتها. واقعياً، ليس هناك من سبل ليكون للجمهور الواسع رأي فعّال، لأن آليات عمل المعارضة لا تضع ذلك في حسبانها، ولا تقوم أصلاً على مبدأ الشرعية التمثيلية. هي حالة شاذة ليست بالمستجدة؛ أن تكون هناك معارضة تمثّل جمهوراً لم يخترها لهذه المهمة، ولا يملك آليات لإزاحتها أو محاسبتها. الذرائع التي قد تُساق لتبرير هذا الشذوذ، وأهمها استحالة بناء هياكل معارضة على أسس تمثيلية ضمن الشتات الذي يعيشه السوريون، ذرائع لا تبرر انعدام الصلة، لأن من يفتقر إلى شرعية تمثيلية يتوجب عليه اكتسابها بمزيد من الدأب لخدمة أهداف من لم يتح لهم اختياره، لا أن يرى في ذلك فرصة للتعامل بوصفه سلطة أمر واقع مهمتها الأساسية محاباة الأوصياء عليها.
باسم الثورة وجمهورها، تحصل هيئات المعارضة على دعم قوى دولية وإقليمية، ومن هذا الموقع دخلت جولات من المفاوضات مع سلطة الأسد، وإذا كان من تسوية مقبلة فستمر عبرها، رغم كونها تسوية يفرضها ميزان القوى الخارجي أولاً وأخيراً. تهافت المعارضة والسوء الذي هي عليه مناسبان جداً لواقع إفلات القضية السورية من أيدي أصحابها الأصليين، ويجعلان منها محظية لدى القوى التي تستثمر فيها، وحتى مرغوبة من قبل قوى تعادي تطلعات السوريين ويروقها إظهار معارضي الأسد كمجموعة من الانتهازيين وطالبي السلطة والطامعين بفسادها.
لم تكن المعارضة في أحسن أحوالها ثم انحدرت، لقد حصل الانحدار بدءاً من عتبة واطئة. قسم معتبر مما يُحكى اليوم عن الائتلاف كان يُحكى عن المجلس الوطني الذي كان الوحيد محط آمال تبخرت سريعاً مع انكشاف تركيبته وسيئاته، الصراع على السلطة ومغانمها بدأ منذ ذلك الوقت وكذلك الارتهان للداعمين، الائتلاف الذي قُدّم تشكيله خلاصاً من مثالب المجلس الوطني ورث منه جميع العلل فضلاً عما أضافه الوافدون الجدد. خلال سنوات من انسحاب البعض وإقصاء البعض الآخر، لم يقدّم أحد من الذين خاضوا التجربة نقداً كاشفاً لها من داخلها، وأتى معظم الانتقادات لتبرئة أصحابها من مسؤولياتهم الشخصية تجاه ما كان يحدث. لقد فشل الذين خرجوا من هيئات المعارضة وسعوا إلى إنشاء تنظيمات جديدة، وفي أحد جوانب الفشل المستجد دلالة إضافية على تحميلهم مسؤولية الفشل السابق وصعوبة التخلص من ذلك العار المُسمى معارضة.
مهما قيل عن دور سلبي للخارج فهو لا يحجب مسؤولية كوادر المعارضة، وربما على نحو خاص مسؤولية من كانوا في موقع مؤثر عندما نشأت المعارضة ونالت اعترافاً ورعاية ودلالاً قلّ أن حصلت عليه معارضة في بلد آخر. عدم استثمار تلك اللحظة جيداً، ومن ثم التصاغر أمام متطلبات الصراعات الإقليمية على حساب الصراع السوري، ساهما في الوصول إلى الوضع الحالي، الوضع الذي لا يستحق فيه تبادل المراكز بين شخصين في المعارضة أن يكون خبراً إلا على سبيل التندر والاستهزاء، ولا يتطلب الاستهزاء شرحاً تغني سمعة المعارضة عنه.
من علامات النضج والتعقل ألا يكون هناك من ينتقد المعارضة معوِّلاً على تحسن أدائها، هكذا تكون وظيفة النقد والاستهزاء هي التبرؤ من العار، وقد تختلف الدوافع وراء التبرؤ إلا أنها تجتمع عند القناعة بأن هذا الانحطاط أدنى مما يمكن تقبّله. من مظاهر الانحطاط أن تذكير المعارضة بوجودها مرة أخرى سيأتي بارتكابها ما يُخجل، جرياً على سياق بات معتاداً، لتبقى تراوح بين عدم انتباه لوجودها وتذكّرٍ ناجم عن خطاياها، وكأن الحل الأمثل لها أن تكون منسية في انتظار دور ما قد يُسند إليها ويذكّرها بوظيفتها الأصلية.
هناك مكسب كبير حصلت عليها المعارضة بانحطاطها، فأن تصبح مصدر سخرية واستهزاء ليس إلا فهذا يعفيها من أن تؤخذ على محمل الجد، وأن تُحاسَب كما تستحق. الاستهزاء فيه على الأرجح تبرؤ شخصي من الانحطاط، وتعففٌ عن الاشتباك معه، وهذا ربما أقصى ما تتمناه المعارضة من جمهور تُحسب عليه. التبرؤ الشخصي لن يغيّر من احتساب المعارضة على الجمهور الذي تبرأ أفراده منها، ولن تستمزج القوى الفاعلة آراء السوريين من خلال صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، إنهم بالأحرى يتبادلون النكات أكثر مما يوصلون أية رسالة إلى أية جهة كانت. الخبر السيء أن المعارضة تستحق التعامل معها بجدية لمرة واحدة، مرة يُعلن فيها على نطاق واسع أنها لا تمثّل الذين تدّعي تمثيلهم. المؤسف أن التبرؤ الجماعي تأخر طويلاً وليس مطروحاً بعدُ، والخشية أن يصبح ملحّاً عندما لا يعود نافعاً.
*المصدر: المدن