عمر قدور: الطقم الضئيل لبشار الأسد

0

هناك طرفة كانت تُروى عن ديكتاتور رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو مفادها: أنه في زيارة له إلى الكرملين أُبدى إعجاباً شديداً بطقم الديكتاتور السوفيتي بريجنيف، فأمر الأخير بجلب خيّاطه الخاص ليخيط طقماً مماثلاً لضيفه. كان الخياط ماهراً جداً، فأنجز الطقم بإتقان وسرعة قياسية، ليظهر به تشاوشيسكو في اليوم التالي لزيارته. الأهم بالنسبة للأخير كان أن يرتدي ذلك الطقم البريجنيفي متباهياً أمام جماهير المغلوبين في بلده، والمفاجأة أنه عندما حاول ارتداءه في قصره في بوخارست لم يتمكن من ذلك بسبب ضآلة الطقم. بُهت تشاوشيسكو أمام الطقم السحري، وراح يؤكد لزوجته “إلينا” أنه ارتداه وخرج به إلى جانب بريجنيف في موسكو كما تُظهر الصور، وكان على مقاسه تماماً. ضحكت إلينا، التي لم تكن سمعتها بين الشعب الروماني أقل سوءاً من سمعة زوجها، وقالت: لا يوجد سحر في الأمر والخياط ماهر حقاً، هذا الطقم الضئيل هو مقاسك الفعلي عندما تنكمش وتتصاغر أمام بريجنيف.

لدينا عربياً هتاف يعادل النكتة الرومانية، فاللبنانيون رفعوا أيام الوصاية الأسدية هتاف “أسد على لبنان.. أرنب في الجولان”، قبل أن ينتشر بصيغة معدّلة بين السوريين بعد اندلاع الثورة. مع ذلك تبقى النكتة الرومانية متميزة على صعيد المبالغة، ولها أرجحية رصد أثر ذلك التصاغر على فيزيك المعني به، ومن المناسب استرجاعها مع صور اللقاء الأخير لبوتين ببشار الأسد في دمشق، والانتباه إلى ملامح الأخير المرتبكة الباهتة، والتي تُظهره ضئيلاً إزاء صاحب الضيافة “بوتين” على الرغم من طول القامة الذي يبقى شكلياً.

إمعاناً في إذلاله، تنشر موسكو صور اللقاء على دفعات، هكذا أتت متأخرة عن قصد صورة بوتين وهو يستقبل بشار عند باب القاعة، لا عند المدخل الرئيسي للمقر الذي تحتله قواته. أما غياب أي رمز من رموز السيادة المزعومة لبشار فقد أصبح تقليداً، رأيناه من قبل في اللقاء بين الاثنين وأيضاً في لقاء بشار بخامنئي. ثم إن التعريض ببشار، على خلفية هذه الشكليات، بات نوعاً من التسلية والتفكّه ليس إلا، لأن من استدعى قوى الاحتلال وأصبحت هي الآمرة الناهية في البلد لن تضيره إهانة من هذا القبيل. أيضاً لدينا في موروثنا أمثولة مفادها أن الضفدع لا يتأذى ببصقة.

سلوك بوتين المهين لبشار هو سلوك نموذجي، فاللقاء به هو لا يتعدى كونه لقاء مجاملة، ولا بأس في إحضاره كضيف يرى جانباً “من المؤكد أنه الجانب الذي لا يحتوي أسراراً” من عرض لإنجازات قوات الاحتلال الروسية في سوريا. زيارة بوتين هي في الأصل زيارة بروتوكولية لقواته عشية عيد الميلاد بحسب التقويم الأرثوذكسي، وبها يقوم بوتين بتقليد غربي معروف، حيث يعايد الرؤساء قواتهم التي تكون في حالة حرب خارج الحدود. هكذا، كي لا نعطي بشار الأسد أكثر من حقه، كان استدعاؤه للقاء بوتين تفصيلاً عرضياً ضمن زيارة تخص البيت الداخلي الروسي، وكذلك هي إهانته التي يمكن اعتبارها تفصيلاً صغيرة من تفاصيل المناسبة ذاتها.

لكن، في سياق ما أصبح معتاداً، ينبغي لنا الانتباه إلى الإصرار الروسي على تأكيد إهانة بشار مع كل مناسبة. قد نحيل جانباً من التأكيد إلى الطبيعة الشخصية لبوتين نفسه، فهو لا يوفر فرصة في بلاده لإهانة خصومه، ولا بد أن متصاغراً مثل بشار يُعدّ فريسة مناسبة يرضي بها نرجسيته. إلا أن الطبيعة الشخصية لبشار تفسّر لنا الجانب الآخر، وهي لا تتوقف عند استعداده للرضوخ أمام حاميه. ما يفهمه بوتين جيداً هو ذلك الجانب المتذاكي في شخصية بشار، الجانب المتلازم مع الاعتياد على الكذب، فوفق التذاكي الذي يمارسه بشار يظن نفسه لعوباً قادراً على القفز على حبال قوتي الاحتلال الروسية والإيرانية، والاستفادة من تناقضاتهما وتنافسهما.

لا يُستبعد أن يكون بشار سعيداً حتى بتناوب موسكو وطهران على توجيه الإهانات له، فالتناوب يضمر تنافسهما على السيطرة التامة عليه، ويمنحه الأمل بالنجاة من بين شقوق هذا التنافس يوماً ما. ربما يكون للإهانة الروسية الأخيرة مغزى إضافياً، إذا أردنا تحميلها ذلك، وهو مجيئها بعد اغتيال قاسم سليماني الذي كان عرّاب الاحتلال الإيراني بعد انطلاق الثورة، وحتى عرّاب تبني بقاء بشار في السلطة، يشاركه في ذلك رجل خامنئي الآخر حسن نصر الله. من المتوقع أن يكون بوتين مسروراً باغتيال سليماني، وبأية ضربة أمريكية تضعف حليفه الإيراني، لأنها ستقلل من قدرة طهران على التنافس وتجعلها بحاجة أشد إلى التحالف مع موسكو. لا يريد بوتين مواجهة مع طهران في سوريا، وهذا مطلوب منه أمريكياً وإسرائيلياً، أما إذا تولى الجانبان المهمة فسيكون مسروراً، وسيتلذذ حينها بإهانة بشار بلا منازع.

ربما أخبر بوتين تابعه ببعض الجوانب التي تتعلق بلقائه اللاحق بأردوغان، لكن يبقى الأقرب إلى التصور الواقعي أن يرسل له التعليمات كي يلتزم بها بعد انفضاض اللقاء مع الجانب التركي. تتالي الحدثين لا مغزى له باستثناء ترتيبات السفر الخاصة ببوتين، وهو بالتأكيد لا يكترث بأنصار أردوغان من السوريين الذين سيقارنون بين الظهور الذليل لبشار والظهور البروتوكولي لأردوغان كأي رئيس إلى جانب بوتين، للتأكيد “الذي أصبح معتاداً أيضاً” على الفارق النوعي بين معبودهم ومعبود خصومهم، وكأن ضآلة بشار أصبحت معياراً يُقاس عليه القادة الآخرون.

بالعودة إلى النكتة الرومانية، من المفيد التذكير بأن تشاوشيسكو، الضخم على شعبه والقزم أمام بريجنيف، كان أقرب أصدقاء حافظ الأسد من ضمن المنظومة السوفيتية البائدة. سمعة تشاوشيسكو ضمن المعسكر السوفيتي نفسه لم تكن جيدة، فهو كان أقسى القادة وأكثرهم توحشاً إزاء شعبه، وهو الوحيد الذي لاقى مصيراً عنيفاً وقت انهيار المنظومة السوفيتية، إذ حُكم هو وزوجته بالإعدام خلال محاكمة استمرت ساعة، ونُفّذ الحكم رمياً بالرصاص على عجل. لم يكن لدى تشاوشيسكو تميز يُعجب به حافظ الأسد سوى قمعه الشديد للشعب الروماني، فهو مثلاً استورد فكرة الطلائع من كوريا الشمالية وفكرة الشبيبة من الاتحاد السوفيتي، ولا ندري ما إذا كان تشاوشيسكو قد أسرّ له بفكرة حيازة أطقم بقياسات مختلفة يناسب كل منها حجمه بالمقارنة مع القادة الذين يلتقيهم. ما هو مؤكد أن طقماً من أصغر قياس صار فضفاضاً على الوريث، الوريث الذي لا تتعدى قيمته، لو ذهب إلى تشييع سليماني، أن يكون بين عشرات لا نعرف أسماءهم أودى بهم التدافع الذي حصل أثناء الجنازة.

المصدر: بروكار برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here