لن ننتظر العدالة لعشرات العائلات السورية التي أُحرقت خيامها، في مخيم بحنين ليل السبت الفائت، إذ لم يسبق للقضاء اللبناني إنصاف سوريين معتدى عليهم في حالات أخذت بعض حقها من الاهتمام الإعلامي، أو سوريين كانوا طرفاً في تقاضٍ ما. لا يقلل من فداحة هذا أن القضاء اللبناني عاجز عن إنصاف لبنانيين أيضاً، وعاجز عن البت في قضايا تمسّ الأمن الوطني اللبناني، كعجزه عن التحرك في قضية المصارف ثم في قضية انفجار مرفأ بيروت.
هناك خصوصية لبنانية-سورية تمنع الاستعانة بالسياق اللبناني ككل، واعتبار الاشتباك مع السوري تفصيلاً من الطينة ذاتها. مثلاً، من المستحسن ملاحظة كون الكراهية اللبنانية البينية محكومة بحتمية التعايش، ولتأجيجها مواسم يتوخى أصحابها مكسباً ضمن التوازنات اللبنانية أو مكسباً بتغييرها. أما كراهية السوري فتتغذى بأمل الخلاص منه، وبعض جذورها مرتبط بنشأة لبنان على أساس فكرة الخلاص نفسها، لتأتي الوصاية الأسدية على لبنان بمسببات إضافية فوق هواجسها البكر، ثم ليأتي اللجوء السوري مذكَّراً بنظيره الفلسطيني فوق لعنة سوريته.
قبل اللجوء السوري، كان الفلسطيني يقبع في منزلة تحت الطوائف اللبنانية، كطائفة منبوذة بموجب سلسلة من القوانين لكن لا يُستسهل الاعتداء عليها ما لم يكن مغطى بميليشيا لبنانية قوية. إننا لا نتخيل إحراق مخيم فلسطيني، ما لم يأت في سياق حرب كبرى على شاكلة ما جرى في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، مع التنويه بوجود فصائل فلسطينية فيها لا تفتقر كلياً إلى القدرة على ردع اعتداء كالذي طاول السوريين في بحنين. مع اللجوء نال السوري منزلة الأمس الفلسطينية، يُضاف إليها كونه أعزل تماماً من أية حماية، وأعزل أيضاً من التعاطف الذي ناله النازح الفلسطيني قبل نشوء منظمة التحرير واشتباكها مع الدولتين الأردنية واللبنانية.
حتى في أوج الوصاية الأسدية، لم تكن الأخيرة لتتدخل من أجل انتهاك تعرّضَ له سوري بسيط، فالذين كانوا يرتكبون شتى أنواع الانتهاكات ضد اللبنانيين والفلسطينيين لم يكونوا في وارد استنكار انتهاك بسيط بالمقارنة. تطويع القضاء اللبناني كان من مستلزمات عهد الوصاية أيضاً، ومن المستحسن ألا يكون عادلاً، والأهم أن يكون عاجزاً بصرف النظر عن ضحايا عجزه ما دام الأقوياء قادرين على تحصيل المكاسب بأدواتهم وفي مقدمهم الأسدية وقواتها ومخابراتها آنذاك.
في مقام البديهيات أن يكون تغييب العدالة أولاً على حساب الأضعف، تدرجاً إلى الأعلى ضمن تراتبية سلطوية. السوري الآن هو الأضعف على الإطلاق ضمن الواقع اللبناني، من دون أن يحتكر موقع الضحية. ثمة فريق لبناني يُمسك برئاسة الجمهورية لا يتوقف عن تحميل السوري مسؤولية التدهور اللبناني، وهذا الفريق مسنود بحزب الله الذي لا يتبنى الموقف نفسه علناً لكنه يتهم الثائرين على الأسد بأنهم خونة وأنصار مؤامرة كونية تجلس إسرائيل في قمرة قيادتها، وهذه دعاية تنسحب على اللاجئين مع استلال وصمة داعش بضرورة أو من دونها.
عندما نتحدث عن عجز للقضاء “فضلاً عن تغييب الوعي الحقوقي”، وعن تراتبية تضع شريحة ما عرضة للانتهاك والإفلات من العقاب، فذلك يعني في المحصلة استباحة تلك الشريحة بلا أدنى رادع ولأي سبب كان. نظرياً، لا يوجد هناك ما يمنع لبنانياً تشاجر مع زوجته أو أحد أفراد عائلته، وللتنفيث عن غضبه ذهب ورمى عقب سيكارته على خيمة للاجئين متعمداً إحراقها، أو أخرج ولاعته وتولى الإحراق الذي امتد إلى المخيم كله. بعد ذلك، قد تخبرنا عائلته بأنه كان غاضباً حقاً، غاضباً ربما من البطالة، ولو لم يخرج لربما قتل أحداً من أفراد العائلة، ليصبح ضحاياه السوريون قرباناً لضحية محتملة من العائلة العزيزة. علينا أن نعذر القاتل الذي كان سيرتكب العنف على أية حال، وعلينا أن نكون عقلانيين بأن نضع أنفسنا مكانه، هو الذي يرى اليد العاملة السورية الرخيصة تحرمه من رزقه وتكاد تدفعه من اليأس إلى قتل أحد من أحبائه!
لا نريد رسمَ كاريكاتور ساخرٍ، بل الواقع هو الذي يرسم لنا أفقاً داكناً جداً. الواقع الذي لا يتعلق فحسب بعجز القضاء اللبناني، أو استنسابيته التي تحابي الأقوى بحسب اتهامات لبنانية. الواقع الذي خلص إليه عموم اللبنانيين هو ما يشبه إفلاساً عاماً بسبب “أزمة المصارف”، الإفلاس الذي جرّد فئات واسعة من أمانها الاقتصادي. كارثة انفجار المرفأ لا تُختزل بخسارة فورية تُقدّر بـ15 مليار دولار، وإنما تتجاوزها إلى الخسائر المستمرة مع عدم إعادة تأهيل ما دُمّر واستئناف النشاط التجاري للمرفأ كما كان من قبل، أي استئناف عائداته التجارية وفرص عمله الضائعة. أزمة السلطة اللبنانية غير جديدة، إلا أن استعصاءها عطفاً على كوارث السنة الأخيرة سيعزز منسوب اليأس عند أولئك العاجزين عن الهجرة إلى الخارج الغربي أو الخليجي.
ضمن الأمد المنظور، من النموذجي أن تدفع الشرائح الأضعف ضريبة الانهيار اللبناني. السوري ليس الأضعف فحسب، هو المنبوذ الذي تتهرب سلطة الأسد من السماح له بعودة آمنة، والمنبوذ غربياً بتراجع برامج استقبال اللاجئين على نحو ما كان يحصل في السنوات السابقة. هو في العراء المطلق الذي يبيح لفرقاء لبنانيين تحميله مسؤولية الانهيار، وأفظع من ذلك استبطان العنف الذي يغلي في صدور اللبنانيين وضرورة تسكينه لئلا ينفجر باتجاه غير محسوب. على صعيد متصل، حتى إذا حُمّلت القيادات اللبنانية مسؤولية أساسية عن الانهيار فتغييرها أو الانقلاب عليها لن يبدو في المتناول، لن يكون على غرار تحميل السوري قسطاً وافراً من مسؤولية الانهيار فهذا يمكن استهدافه، يمكن على الأقل تفريغ طاقة الغضب المتولد تجاهه.
إذا لم يكن من حل جذري، فلماذا لا نجرّب حلولاً جزئية؟ لماذا لا نبدأ بما هو في المتناول؟ هكذا يكون السوري، بوصفه شريكاً في المسؤولية عن الانهيار، هدفاً سهلاً؛ هدفاً يمكن تفريغ طاقة الغضب به بلا حساب. كأن لسان حال هذا الجحيم هو “لنحرق سورياً” لعل الوضع يصبح أفضل، وإذا لم يتحقق الهدف المرجو فلنحرق سورياً آخر.
*المدن