صحيح أننا نردّ انتفاضات شعوب المنطقة إلى تدهور متشابه في أوضاعها، وإلى انسداد أفق الأنظمة الحاكمة بمختلف تنويعاتها الظاهرية، وقد يستحق توقفاً منفصلاً ذلك النقاش حول ما إذا كانت الانتفاضات الأخيرة بدءاً من السودان والجزائر موجةً ثانية من موجات “الربيع العربي”؟ أم هي نقلة جديدة وعلى مستوى مختلف؟ إلا أن تراكب انتفاضات في المشرق العربي مع واقع الوجود الإيراني يمنحها خصوصية عابرة للموجتين، وينذر بتشابه في المسارات وبالافتراق عما آلت إليه الانتفاضة السودانية، وعن حرب الاستنزاف الهادئة حتى الآن بين الجزائريين والعسكر.
منذ عام 2014 بدأت تظهر إلى العلن التصريحات الإيرانية المتباهية بالسيطرة على أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، مع التنويه بالجهاد الإيراني الذي يجد له موطئاً في أفغانستان وفلسطين. وقتها كانت نشوة انقلاب الحوثيين على التسوية اليمنية وتقدمهم السريع في السيطرة قد أخذت الإيرانيين، أما وجودهم في بقية العواصم فلم يكن نتاج ثورات الربيع العربي. كما نعلم، تولت واشنطن إسقاط نظامي طالبان وصدام من الغرب والشرق، ما أتاح لطهران نفوذاً في أفغانستان، وأتاح لها الانسحاب الأمريكي من العراق تسلمه وجعله بمثابة حديقة خلفية لحكم الملالي.
منذ أربعة عقود كانت قوة من الحرس الثوري الإيراني قد دخلت لبنان، بتسهيل وإشراف من حافظ الأسد، لتنشئ حزب الله الذي لم يخفِ يوماً تبعيته لطهران. في طورها المتأخر، مع غياب حافظ الأسد بسبب المرض ثم الموت، كانت الوصاية الأسدية على لبنان غطاء لوصاية أهم هي الوصاية الإيرانية. الأخيرة سرعان ما ستكشف عن وجهها إثر إجبار قوات الأسد على الانسحاب، ليتقدم الحزب نيابة عن الوكيل الأسدي، ويتولى بنفسه الاضطلاع بالدور الذي كان يظهر من قبل تعففاً عنه.
ثمة حادثة تعبّر عن التحول الذي كان يحدث، هي ذهاب الأمين العام للحزب للتعزية بحافظ الأسد مع ثلة من مقاتليه قدّموا عرضاً عسكرياً في القرداحة. ذلك لا يخرج عن مألوف مناسبات العزاء فحسب، تلك كانت الرسالة التي سنرى ترجمتها الدموية بعد الثورة السورية بتدخل ميليشيات الحزب لقمعها. كان ذلك تدشيناً مبكراً لإشهار الوصاية الإيرانية على الوريث المتهافت، ولدحض ما كان دارجاً من قبل عن إمساك حافظ الأسد العصا الإيرانية-السعودية من منتصفها لمصلحته. رسائل الحزب داخلياً تنوعت منذ انجلاء الوصاية الأسدية، لتصل إلى أوجها في السابع من أيار 2008، وليفهم من لم يفهم بعد مركز الوصاية الفعلية. في العام نفسه كان جورج بوش يودع رئاسته باتفاق مع طهران لتنظيم الانسحاب الأمريكي، وهو بمثابة تسليم بدور الشرطي الإيراني الذي كان يتعاظم تحت الاحتلال الأمريكي المعلن.
الحق أن لعب دور شرطي المنطقة كان طموحاً إيرانياً منذ عهد الشاه، شأن المشروع النووي الذي بدأ أيامه، وحينئذ كان المشروع يلبي طموحات القوميين الإيرانيين. عاد الطموح التوسعي بأقوى من السابق مع حكم الملالي، وهذه المرة مدفوعاً بتركيبة من الأيديولوجيا الشيعية الإيرانية وتحالفها اللاحق مع بقايا القوميين. ما يجمع التيارين تلك النزعة العرقية المتعالية إزاء الجوار ومن ضمنه التشيع العربي، وذلك الثأر التاريخي لانهيار الإمبراطورية الفارسية بأيدي من يُنظر إليهم كعربان متخلفين، والنظرة العنصرية بمفردات متباينة نجدها في أدبيات القوميين والإسلاميين.
لقد ابتلعت الشهية الإيرانية، بمساعدة كبرى من حافظ الأسد ووريثه وبمساعدة أمريكية أيضاً، ثلاث عواصم عربية بمثابة شريان استراتيجي في المشرق قبل اندلاع ثورات الربيع العربي. وكان لا بد لهذه الثورات من الاصطدام بالنظام الإيراني عاجلاً أم آجلاً، لأن البدء بأدواته المحلية لا بد أن يوصل لهذه النتيجة. المسألة تتجاوز ما يطفو على السطح لجهة الصراع الشيعي-السني، هذا على الأقل ما تثبته انتفاضة العراق والانتفاضة اللبنانية، حيث يشارك الشيعة فيهما مع وعي لكون النظام القائم محروساً بالترهيب الإيراني.
لقد رأينا كيف واجهت الماكينة الإيرانية ثورة السوريين بالشحن الطائفي، قبل دخول دول خليجية على الخط نفسه، ورأينا أيضاً مقاتلي الميليشيات الشيعية يقتلون السوريين تحت تلك الشعارات الطائفية وثاراتها. بالطبع يصعب الآن تكرار السيناريو الطائفي نفسه، أما جوهر الاستقواء والقمع فلا يبدو أنه استخلص الدرس مما حدث في سوريا. العنف الممارس ضد انتفاضة العراق، والتهديد القائم بممارسته في لبنان، يشيران إلى أن النظام الإيراني لا يملك وسيلة أخرى ناجعة للاستمرار بسيطرته.
جوهر السيطرة هو القوة المباشرة والعسكرة، ثبت ذلك حتى ضمن بيئات نُظر إليها كحاضنة له بسبب القرابة المذهبية. الأموال الطائلة التي صرفتها الطغمة الإيرانية الحاكمة كانت على مشاريع إنشاء ميليشيات تتولى نشر النفوذ الإيراني. الحديث عن الأموال يتعلق مثلاً بما يقدّر بـ15 مليار دولار أُنفقت من أجل الإبقاء على نظام بشار وحده، ومن قبل كان بعض التقديرات يشير إلى مليار ونصف المليار كتكلفة سنوية لحزب الله، فضلاً عن كلفة إنشاء وتشغيل ميليشيات شيعية أخرى مثل الميليشيات الأفغانية. الإسراف في الإنفاق على العسكرة يعكس الإدراك بأنها السبيل الوحيد للهيمنة والتوسع، ويعكس تقديم هذا الهدف على المتطلبات الحيوية للمواطن الإيراني الذي كانت معيشته تنهار طرداً مع توسع نفوذ حكامه. حتى الأموال التي رُفع عنها التجميد الأمريكي لمناسبة الاتفاق النووي، وكان أوباما قد حذّر من صرفها على مشاريع التوسع، تبخرت في المسار نفسه ولم يُلحظ لها أدنى أثر على الاقتصاد الإيراني المتداعي.
رغم كل جهود ومساعي التركيبة الدينية-العسكرية الحاكمة، كنا على موعد مع هزيمتها في سوريا لولا النجدة الروسية، النجدة التي نالت وستنال حصتها من النفوذ الإيراني. وما تنذر به انتفاضة العراق، وهي ليست الأولى في السنوات الأخيرة، أن النفوذ الإيراني هناك لا يرتكز على أرض صلبة، ولا يمكن الحفاظ على وضعه الراهن سلماً. أيضاً في لبنان، عاجلاً أم آجلاً ستنفجر صيغة الدولة داخل الدويلة، إذا لم يكن هذا يحدث الآن، ومن العسير جداً الحفاظ عليها إلا بالحرب أو التهديد المستمر بها.
لا بد من التنويه بأن التركيبة الإيرانية عاجزة عن استبدال أدواتها الخارجية، لأنها مطابقة لطبيعة هيمنتها، سواء على صعيد الأشخاص أو الأساليب، ثم إنها مطابقة لأسلوب الهيمنة في الداخل. إننا أمام نموذج من التخمة يحمل بذور انفجاره، كونه لا يُقدّم للمناطق المستهدفة به خيارات مقبولة لتبادل المصالح، ولا يقدّم لشعبه نفسه فائضاً اقتصادياً ناجماً عن التوسع الخارجي. النظام الإيراني اليوم أعزل أكثر من أي وقت مضى من أدواته الأيديولوجية الطائفية، واقع في ورطة تخمته وترهله، وربما لن يخفف ضريبة انفجاره على المنطقة سوى الإيرانيين أنفسهم.
المصدر: المدن