عمر قدور: إنهيار المملكة الأسدية

0

مرت قبل يومين ذكرى مرور عقد ونصف على انسحاب قوات الأسد من لبنان، من دون أن يتوقف لبنانيون وسوريون عند هذا الحدث الذي اجتمع لاعبون على محاولات إفراغه من معناه طوال المدة المنقضية عليه. المرور الباهت للذكرى يشرحه حال الطرفين؛ ما يلوح من انهيار وشيك لأسس النظام اللبناني مع السيطرة المطلقة للمحور الإيراني عليه، ووقوع الأسد تحت الوصاية الروسية-الإيرانية في ما يُرجَّح أن يكون المحطة الأخيرة للأسدية.

صحيح أن الثورة السورية أجهزت على الأسدية، وأوصلتها إلى درك الإذلال الحالي، إلا أن تأريخ الأسدية لا بد من توقفه عند محطتين أساسيتين، الأولى دخول قوات الأسد إلى لبنان عام 1976، والثانية خروجها عام 2005. لقد بُنيت المملكة الأسدية كما نعرفها بين هذين التاريخين، ولعلنا لا نبالغ بالقول أنها بُنيت بدءاً من الخارج، وهذا قد يفسّر دور الأخير الحريص على عدم سقوطها في السنوات التي أعقبت الثورة، من دون الدخول في نظريات المؤامرة التي تعتبر انقلاب حافظ الأسد 1970 أتى بدعم قوي من الخارج.

هناك محطة أسبق من انقلابه فيها مؤشر على فهمٍ لدى الأسد الأب يتمايز به عن زملائه في الحكم، حين اتخذ موقفاً متحفظاً من التدخل لصالح الفلسطينيين ضد ملك الأردن فيما عُرف بأحداث أيلول الأسود، ولم يدعم حينها بالطيران القوات التي توجهت لدعمهم بطلب من الرئيس نور الدين الأتاسي. واحدة من الإشارات التي سيرسلها بعد انقلابه مباشرة هي سحب تلك القوات من الحدود الأردنية، وكانت بمثابة مؤشر عن سياسته الخارجية إلى ما كان زملاؤه السابقون يعتبرونه حلفاً رجعياً، وإلى داعمي ذلك الحلف. وإذا أتت حرب تشرين 1973 لتمنحه شرعية داخلية ما، فإنها مع حرب الاستنزاف والمفاوضات التي تلت كانت المدخل لصلات خارجية ستُستثمر بمجرد أن تخدمها الظروف في اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.

كان حافظ الأسد قد سعى داخلياً إلى تعميم الانطباع بأنه أكثر انفتاحاً، وأقل مبدئية، من زملائه الذين انقلب عليهم. وفي الوقت الذي كان فيه يحكم سيطرته على الجيش والمخابرات، لم يُسجّل له سلوك قمعي بارز حتى لحظة دخوله إلى لبنان سوى التنكيل بمن انقلب عليهم. لقد بدأ الاعتقال والترهيب بأولئك الذين انتقدوا تدخل قواته في لبنان، وجلّهم من اليسار أو القوميين، لينتهي باعتقال وترهيب الجميع مستغلاً المواجهة مع الإخوان المسلمين.

بدءاً من عام 1976، في وسعنا القول أن حكم الأسد اتجه ليصبح خارجياً، بمعنى تجاوزه مرحلة الاكتراث بالداخل السوري وحساباته، بعدما انخرط في حسابات دولية وإقليمية رأى فيها سنداً كافياً لحكمه. من البوابة اللبنانية، نال الأسد أهم هدية أمريكية بالموافقة على دخول قواته، بخلاف موقف “الصديق” الروسي آنذاك، ومن هذه البوابة سيكون اللاعب الذي لا بد من التحاور معه والأخذ بمصالحه غربياً وخليجياً، وربما الأهم إسرائيلياً.

سينبري معجبون أو أبواق للأسد بالإشادة بالنقلة التي حدثت؛ من سوريا كبلد منشغل بصراعاته الداخلية إلى بلد له حضور إقليمي يؤخذ في الحسبان. هذه الصورة الشكلية ستستمد تفاهتها أولاً من تصوير الصراع الداخلي السوري كشرّ تم التخلص منه، بدل رؤيته دليلاً على الحراك المجتمعي، وعلى الضد من الموات الذي راحت الأسدية تكرسه. وهي تستمد تفاهتها تالياً من احتساب النفوذ الأسدي لصالح سوريا، وتجاهل حقيقة أن الوصاية على لبنان كانت طوال الوقت على حساب السوريين أيضاً. إن القبول الدولي والإقليمي بنفوذ الأسد ومن ثم وصايته على لبنان تضمّن حكماً الإقرار بهيمنته المطلقة على الداخل السوري، وأن أية قوة معارضة له في الداخل لن تلقى مساعدة خارجية من قوى دولية مؤثرة.

لقد اعتاد جزء من اليسار السوري على الأقل على اعتبار المواجهة مع الإخوان تاريخاً فاصلاً للأسدية، وهي فكرة أخذت في ما بعد حيزاً لا بأس به من الشيوع خارج دائرة اليسار، بموجبها صارت الأسدية قمعية بعد المواجهة، أو استغلتها لتحكم قبضتها المخابراتية على المجتمع السوري. هذا التشخيص كان دائماً قليل الانتباه إلى تأثير الوصاية الأسدية على لبنان سورياً، وكان على الدوام مكملاً لعدم اكتراث عموم السوريين بتلك الوصاية وممارسات رموزها العسكرية والمخابراتية، إن لم نقل أنها كانت تحظى بقبول ضمني لدى قسم من السوريين، أو تؤخذ على سبيل الطرافة لدى قسم آخر لا يرى فيها مرآة لوضعه.

في دلالة على التأثيرات المتبادلة، حاول بشار إثر انسحاب قواته من لبنان استنهاض مزاج سوري مقابل للحس الوطني الاستقلالي الناهض، وبخلاف الشعارات البعثية التقليدية التي تنكر ما هو “قطري”. لكن محاولته لا تشبه الانفتاح الذي أبداه الأب على الداخل في سنوات حكمه قبل تدخله في لبنان، وسرعان ما سينكشف زيفها مع خطابه الذي ألقاه غداة حرب تموز 2006، وفيه أبدى منتهى الوضوح لجهة انضوائه في المحور الإيراني. المسألة لم تعد ضمن لعبة محاور إقليمية، أو ضمن مساومات خارجية عُرفت بها الأسدية طوال ثلاثة عقود سابقة، هي في الوقوع التام تحت الوصاية الإيرانية كخيار اضطراري لمملكة نشأت وتحكمت بموجب توسعها وصِلاتها الخارجية، ولا تجد ضمانة لبقائها بعيداً عن خارج تستقوي به.

خلال ثلاثة عقود، كان لبنان درة التاج الأسدي، ومن الصعب تصوّر مسار للأسدية شبيه بما حصل لو بقيت ضمن الحدود السورية فحسب. على ذلك أيضاً يمكن قراءة الغيظ الأسدي من انسحاب إسرائيل الأحادي من الجنوب اللبناني، لأنه كان يسحب من رصيد الوصاية الأسدية وذرائعها، مثلما ينسحب من التشابك السابق بين الطرفين وما يترتب عليه من قنوات تفاوض، ولا عجب في أن كان أول تعبير عن الغيظ وصف الانسحاب الإسرائيلي بالمؤامرة! للحق، حاول المايسترو الإيراني الحفاظ على ماء وجه الأسد بعد إرغام قواته على الانسحاب من لبنان، لكن مركز الثقل الفعلي للمحور الإيراني سينكشف بوضوح تام مع الثورة السورية، عندما سيتقدم الأصلاء لإنقاذ الوكيل.

ثمة ما هو مشترك بين أيام “عزّ” الوصاية الأسدية على لبنان واليوم، هو بقاؤها بغنى عن أية شرعية داخلية، لكن مع تدنيها من لاعب صاحب قرار إلى تابع. سيرة الصعود والتوسع على حساب الداخل ليست إنجازاً أسدياً غير مسبوق، فقد شهدت المنطقة عبر تاريخها نماذج مشابهة لم يتعظ الطامحون الجدد من انهياراتها.

*المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here