لو خرج بشار الأسد نفسه في مقدمة المسيرات المؤيدة لبوتين في مدن سورية لما كان ذلك مستغرباً؛ إنها مسيرات تعبّر عن فرح حقيقي، تعبّر عن فرح بشار بالحرب الحالية على أوكرانيا، وليست فقط على سبيل مجاملة “الحليف” الروسي. تفاصيل أخرى من قبيل إجبار الطلاب والموظفين على الخروج فيها ينبغي ألا تكون مدعاة للضحك أو السخرية بحكم رسوخها كتقليد معمول به منذ عقود، وحتى “طرافة” الخروج في مسيرات تؤيد الحرب والعدوان على بلد آخر، بدل ستر الفرحة بالصمت، ستكون مألوفة في بلد شهد في الأمس القريب تشجيعاً علنياً على إبادة سوريين آخرين.
في الأيام الماضية تفاقمت حدة الغلاء المتفشي أصلاً بالقياس إلى الدخل، والتبرير هو الحرب في أوكرانيا، وكما هو معلوم كانت من قبل الأوضاع المعيشية المزرية سبباُ لانتفاضة الأهالي في السويداء. أكثر من ذلك، يتداول السوريون في مناطق سيطرة الأسد تبريراً للغلاء وفقدان بعض السلع بأنه جراء إرسال مساعدات إلى روسيا. أن يرسل بلد منكوب بالمجاعة مساعدات غذائية، هذه بدورها ليست نكتة أخرى، ولا هي بالمفارقة المحرجة لبشار أو بوتين إن حدثت. المكسب الذي جناه بشار بلا جهد أو مقابل أن تُرمى أسباب الغلاء على حدث خارجي دولي، ليكون الحل معلّقاً على تطورات ذلك الحدث وآفاقه، وكأنه في الأصل قدر لا مسؤولية له عنه ولا حيلة له إزاءه.
وأن يطول أمد الحرب في أوكرانيا، أو أن تطول المواجهة بين روسيا والغرب على مختلف الأصعدة، ففي ذلك استفادة للأسد تتجاوز رمي أزمته الاقتصادية على أزمة أخرى. إنه يستفيد من أي توتر بين بوتين والغرب، بقدر ما يخشى تقارباً بينهما قد يؤدي إلى التضحية به كحد أقصى، أو إلى إجباره على تجميل وجهه بما لا يطيقه. بدءاً مما هو عام، يستفيد بشار، ومن هم على شاكلته، من عالم فيه أزمات وحروب دولية وداخلية أكثر مما يناسبه عالم مستقر تتصدره لغة السياسة والسعي إلى الاستقرار. الاستبداد وصفة مجرَّبة لنشوب الحروب والأزمات، وللتعيش عليها لاحقاً.
الحالة الأوكرانية أقل عمومية، فهناك سعي مكشوف من بوتين إلى تعيين دمية أوكرانية في منصب الرئاسة، طُرح مثلاً اسم الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا والذي فرّ إليها بعد إطاحته من منصبه وطُرح أيضاً اسم موراييف البرلماني السابق والخاسر في انتخابات الرئاسة الماضية بجدارة. مكسب بشار من هذا السعي أن مَن يريد تعيين دمية في أوكرانيا لن يضحي به في سوريا، فتكرار تدخلات بوتين لدعم قادة موالين له أو احتلال بلدان لتنصيبهم يعزز من هذا النهج كعقيدة، وقبل غزو أوكرانيا قدّم بوتين مثالاً آخر في مطلع العام بدعمه عسكرياً رئيسَ كازاخستان قاسم توقاييف في مواجهة المحتجين على حكمه.
من المؤكد “إذا فكر على هذا النحو” أن يفرح بشار بالقرابة بين سلطته وبين نظام بوتين، حيث “مع حفظ الفروقات بين حجمَي الدب والنملة” هناك في الطرفين حكم القلة الأوليغارشية التي لا مشروع لها على الإطلاق سوى معاداة الحرية والديموقراطية. القرابة المستجدة بخضوعهما للعقوبات الدولية لن تكون مثار اعتزاز مصدره التشابه الشكلي فحسب، فهي أيضاً ستدفع بوتين أكثر من أي وقت مضى للتمسك بأماكن نفوذه، ومن يمثّل سطوته فيها، وليس أفضل ممن امتُحن مرات ومرات بابتلاع الإهانات البروتوكولية واللفظية المتعمدة.
وكما نعلم، لا تربط بين هذا النوع من الحلفاء علاقات قائمة على الثقة ولا على الإخلاص. ومع تذكر الجهود التي بُذلت لإبعاد بشار عن طهران، والعصا الإسرائيلية والجزرة العربية الموضوعتين على الطاولة، يجوز له تخيّل سيناريو لاحتدام المواجهة بين بوتين والغرب تدفع الأخير إلى محاولة اجتذابه في تكرار لمحاولات إبعاده عن طهران. العبرة لن تكون في نجاح مثل هذه المحاولات، هي في تقويته أمام بوتين لا أكثر.
ثم إن المواجهة الحالية تأتي في وقت تشارف فيه الإدارة الأمريكية وطهران على العودة إلى الاتفاق النووي، وهذا مدخل متوقع لتتساهل إدارة بايدن أكثر فأكثر مع النفوذ الإيراني عليه على حساب النفوذ الروسي، على عكس ما كان سائداً لسنوات. ولئن كان اللعب بين الحليفين هو أفضل وضع متاح من أجل بقائه، فإن مواجهةً بسبب أوكرانيا مع اتفاق نووي مع إيران هما بمثابة فرصة لبشار كي يستفيد من اللعب على الحبلين، يسانده من دون قصد استهداف واشنطن واحداً منهما واستهداف إسرائيل الحليفَ الآخر.
لكن لأرباح بشار من أوكرانيا حدود، أهمها التراجع غير المسبوق لفرضية الانسحاب الأمريكي من سوريا، وهي فرضية توارت قبلاً مع المآخذ على طريقة الانسحاب من أفغانستان، لتصبح غير متوقعة إطلاقاً في الظروف المستجدة طالما أن أي انسحاب من سوريا سيكون لمصلحة بوتين. على صعيد متصل، ربما تفرض المستجدات عودة قليل من الدفء إلى العلاقات بين واشنطن وأنقرة، مع غيابه عن خط واشنطن-موسكو، ما يقلل من قدرة بوتين على ابتزاز أردوغان في مناطق نفوذه في سوريا. أي أن خريطة تقاسم النفوذ مرشّحة للبقاء على حالها طالما بقيت الأوضاع الدولية متأزمة، وبموجبها سيبقى بشار خاسراً مناطق الثروات النفطية والمائية والزراعية.
واحد من الاحتمالات أن ينهي الغرب تفويض بوتين في سوريا من دون الصدام معه، فيكتفي بإغلاق تمثيلية العملية السياسية، وهو غير منخرط فيها أصلاً، ويغلق معها الأحاديث عن إعادة تدوير الأسد وإعادة الإعمار، خاصة أن دوله لم تعد مستعدة اقتصادياً لتحمل أعباء إضافية. ولا يُستبعد الدفع إلى الواجهة بجرائم الحرب ومنها استخدام الكيماوي في سوريا، إذا تكرر استخدامه في أوكرانيا مع تلميحات موسكو إلى وجوده لدى الأوكرانيين، بمعنى أن بوتين سيؤذي مستقبل بشار بقدر ما يسلك هو سلوكاً أسدياً في حربه. الواقع أن الاحتمالات على المدى البعيد، في حال حدوث المواجهة لن تكون مربحة لبشار بقدر ما تبدو الآن، ومؤقتاً، وأهونها ألا يحدث شيء على الإطلاق، فتترك له مناطق سيطرته ليتنازع عليها مع طهران وموسكو، مع التنويه بأن تكرار الغارات الإسرائيلية لم تعد حدثاً يحظى بالاهتمام.
*المدن