ابتداءً، وعلى سبيل الافتراض، فإنني أرى وجود علاقة “تكامليّة” بين هذه الأقانيم الثلاثة المنخرطة في “صناعة” فضاء الكاتب والناشر ثم أخيراً القارئ، علاقة تتفاعل فيها الأطراف ضمن مناخات إيجابية لا صراع فيها، بمعنى ألّا يستغل طرف منها الأطراف الأخرى، مثلما نجد في ساحة النشر العربية تحديدًا، حيث استغلال الناشر للكاتب، خصوصًا الكاتب الناشئ، ووعود الشهرة وأحلامها، بل قل أوهامها، ولكن يحدث استغلال الكاتب صاحب الشهرة للناشر الذي سيعمل بدوره على استغلال القارئ- الطرف الأضعف في العلاقة.
ثانيًا، حين يجري الحديث عن النشر، فهو يبدأ من النشر في وسائل الإعلام المتنوعة، وخصوصًا الصحافة المكتوبة، وصولاً إلى نشر الكتاب في دور نشر متخصّصة وتوزيعه ليصل إلى القارئ. وهي كما نرى تبدأ بالجهد الإبداعي للكاتب، وتمرّ بالناشر وتوابعه، وصولاً إلى القارئ المستهدف. وتتفاوت درجات الاقتراب أو الابتعاد بين هذه الأطراف، وتراوح بين الحميمية وشبه العداء الخفيّ، في ظل رغبة كل طرف بتحقيق أفضل الشروط وأعلى المكاسب. وهذه علاقة تخضع لمدى الجشع الذي يحكم رؤية كل طرف.
ثمة علاقة تنطوي على روح صراعية، بدلاًمن روح التعاون. ثمة فئة من الكتّاب تقاتل لتصل إلى القارئ، فتحصل على الشهرة التي تصنع الثروة. وغالبا ما تعمل هذه الفئة بأساليب دعائية ملتوية فتتحقق لها الشهرة، ويتبناها ناشرون جشعون يسعون إلى الشهرة والثروة ويحقّقونها. ويبقى القارئ هو ضحية الطرفين. وقد نشهد ظاهرة “مصنّعة” تتفوّق بالدعاية على أصحاب الإبداع الحقيقيّ، لكن الكثير من كُتاب هذه “الصرعة” الذين ينالون “الجوائز”، سرعان ما تظهر سطحية نتاجهم، فينطفئون ويبقى المبدع الحقيقيّ.
من جِهتي أنا، الكاتب والصّحافيّ الثقافيّ، فأنا أعمل في الصحافة الثقافيّة العربية، منذ ما يزيد عن خمسة وثلاثين عاماً، أشعر أحياناً كثيرة، بل في غالبية ما أكتب، أنّني أتردّد مُطوّلاً أمام عملية نشر ما أكتب، أكتب مقالتي وأرسلها إلى الصحيفة أو المجلة، وأظلّ خائفا من أنّها ليست جديرة بالنشر. ويحدث أحياناً أن يتأخّر نشرها لسبب ما، فتتعزّز مخاوفي من كوني لم أعد كاتباً، لم أعد أجيد الكتابة، لذلك أتوقّف عن الكتابة، وتصيبني لعنة الشعور بالفراغ والانتهاء والانطفاء، ولا تنتهي الحالة إلا حين تُنشر المقالة، وأتلقّى ردّ فعل إيجابيّاً، فتعود الرّوح إلى كتابتي.
الكتابة، بكلّ أشكالها، تواجه امتحان النّشر، ثمّ تخضع لاختبار القارئ، فيكون الكاتب أمام اختبارين عسيرين. وما دام للناشر شروطه، وللقارئ شروطه، فعلى الكاتب أن تكون له شروطه في الكتابة. بل عليه أن يكون مجنوناً، وأن يكتب ما يشاء وكما يشاء، فهو الذي على عاتقه تقوم عملية النشر والقراءة. فهل يمكن أن نتخيل ناشراً بلا كاتب؟
لكن الحقّ يفترض القول إنه لا وجود لكاتب بلا نشر وناشر، وبلا قارئ بالطبع. وإلّا فكيف وأين سيجد الكاتب من يقرأ كتاباته. وفي اعتقادي أنّ وسائل النشر والتواصل الالكتروني كلّها، التي تجتاح عالم النشر الورَقيّ وبقوة، لكنها لن تستطيع إلغاء حرفة النشر؟ وإلا فنحن أمام نظرية “موت المؤلّف”.
وبالوصول إلى موت المؤلّف، يموت الناشر والقارئ، يموت العالم، وتموت الحياة. فما الذي يفعله العالم من دون الكتاب؟ ما الذي سيفعله لو قرّر الكتّاب الاستنكاف عن الكتابة، أو التوقّف عن النشر؟ أين ستذهب مهنة النشر؟ وما الذي سيفعله البشر الذين يمارسون فعل القراءة لأسباب كثيرة متفاوتة؟
هنا نكتشف أن الكثير من المِهَن تقوم على “عملية” الكتابة، بصرف النظر عن طبيعة هذه الكتابة أو مستواها. لكنّنا في مجال الكتابة الإبداعية، نتحدّث عن القلق الذي يتعرّض له المبدع ويعيشه، منذ لحظة التفكير والتأمّل في موضوعه، وصولًا إلى لحظة نشر مقالته، وربّما قصيدته أو قصته وروايته وترجمته للنصّ الأجنبيّ فهذا إبداع أيضا. وهو في حال النشر يسهم في دفع هذه المهنة خطوات، ومن النشر إلى التوزيع والمكتبات تنشأ التجارة والتجّار، وهكذا تتناسل المهَن والحرفُ والصناعات.
ولأنّني، في عملي الصحافيّ، أكاد أن أكون تخصّصتُ تقريبا بقراءة الكتب ومراجعتها وعرضها، كما عملتُ في “تحرير” الكتب لدى عدد من دور النشر، ومارست عمليات التحرير في عدد من الصحف، فقد عرفت، عن كثب، تجارب الكتابة والنشر، عرفت مشكلات النشر ومشكلات الكاتب. عرفت الكتّاب “الكبار” الذين يرسلون كتاباتهم إلى الصحيفة، أو يدفعون إلى دار النشر بمؤلّفاتهم وكتبهم وهي مليئة بالأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية، لكنّهم كُتّاب كبار، فما الذي تفعله أنت أيّها المحرّر “الصغير”؟!
*المصدر: اندبندنت